العرب وجهة نظر يابانية يوسف فضل Thursday 15-12 -2005 وكأن الكتاب جاء ليطرح سؤالا تحريضيا ماذا يفكر العرب ان يفعلوا للمستقبل وهذا ديدنهم في الحاضر ؟ فيقدم لنا المؤلف محاولته لتوصيف وتشخيص الحالة العربية في 140 صفحة من الحجم المتوسط بعنوان " العرب وجهة نظر يابانية" .المؤلف هو الكاتب والمترجم والاستاذ الجامعي نوبوأكي نوتوهارا ياباني الجنسية يملك اعتزازا كبيرا باللغة العربية وحبا لاهلها ومتضامنا ومتعاطفا مع نضالاتنا وتطلعاتنا إلى النهضة والتقدم والتحرر . صدر الكتاب عن منشورات الجمل kalmaaly@aol.com / المانيا . الطبعة الاولى 2003 .وللمؤلف كتاب سابق تم نشرة باللغة اليابانية بعنوان " اين المصريون " .
يمكن ادراج موضوعات الكتاب تحت اربعة عناوين رئيسة مع ان المعالجة والنصوص متداخلة معا . وهذة الموضوعات هي : الشخصية العربية والصحراء والادب العربي والمقارنة بين الثقافة الشنتوية اليابانية والثقافة العربية كمنظومة قيم متكاملة.
إن قراءة هذا الكتاب تزيد القاريء العربي ألما فوق ألمه ليس لأن شخصا يابانيا يكتشف طوال فترة معايشتة لنا ومعرفته بأحوالنا لمدة تزيد عن الاربعين عاما ، ما هو معروف لدينا من احتكامنا او خضوعنا لقيم اجتماعية وسياسية مختلة تقف حجر عثرة في تقدمنا ، بل لاننا لم نستطع ان نبرز له من قيمنا الحضارية المعاصرة ما يستطيع ان ينقله الى المجتمع الياباني لولا بعض الانتاجات الادبية العربية التي نقلها المؤلف مع مجموعة من الباحثين اليابانيين عكست تطلعات كتاب ومفكرين عرب اثبتوا اننا جنس ينتمي للبشر . يقول الكاتب " أظن أننا لم نكتشف ثقافتكم من الداخل لم نصل الى مرحلة الاستمتاع " . إلا ان هدف الكتاب كما يقول مؤلفه هو " باختصار أريد ان أقول للقاريء العربي رأيا في بعض مسائله كما أراها من الخارج كأي أجنبي عاش في البلدان العربية وقرأ الادب العربي وأهتم بالحياة اليومية في المدينة والريف والبادية"
يرصد المؤلف نوبوأكي بحب واخلاص أطياف الحياة اليومية العربية المعاشة من خلال رحلاته الى العديد من الدول والصحارى العربية وبذلك يقدم صورة واضحه وكبيرة يسهل رؤيتها للعربي المتخصص والعادي ومقارنتها بحالات يابانية . وقد خط المؤلف كتابه باللغة العربية " السؤال الذي اقلقني لماذا أرى من واجبي ان أكتب باللغة العربية مباشرة وللقاريء العربي ؟ وانا اعرف سلفا كم سترهقني الكتابة بالعربية ". إذ قادته الصدفة عام 1961 أو ربما اغواء المجهول لدراسة اللغة العربية حين أعلنت جامعة طوكيو للدراسات الاجنبية عن إفتتاح قسم للدراسات العربية . وفي عام 1969 اصبح مدرسا ومعيدا للادب العربي المعاصر في قسم الدراسات العربية في جامعة طوكيو .
يشخص نوبوأكي السمة الظاهرة التي تميز المجتمع العربي وهي " غياب العدالة الاجتماعية " فكل شيء ممكن لان القانون لا يحمي الناس من الظلم سواء ظلم الحاكم ضد الرعية او ظلم الافراد لبعضهم بعضا. ينجم ايضا عن فقدان العدالة الاجتماعية غياب الديمقراطية وحقوق الانسان وحرية المواطن وسيادة القانون التي يتشدق بلفظها العربي لكنها مفرغة حقيقه من محتواها واهمها كلمة الحرية . " عندنا في اليابان نقول عندما لا نستطيع ان نتكلم بحرية : عندما افتح فمي فان هواء الخريف ينقل البرد الى شفتي . والعربي عندما لا يستطيع ان يصرح بما في نفسه عليه ان يقول تحت لساني جمرة ".
القمع – بكافة اشكاله - هو الداء العضال في المجمتع العربي . مما يجبر المواطن البحث عن الحماية الذاتيه له ، وتراه مشغولا بفكرة النمط الواحد على غرار الحاكم الواحد . فتختفي استقلالية وخصوصية الفرد وبالتالي لا نجد المواطن الفرد الصالح المخلص لوطنه . مثلا لا نشعر بهذا المواطن يدافع عن السجين الذي يطالب بحياة فضلى للمجتمع بل ينظر إليه على انه ضحية يعجز المواطن عن حمايتها . والازدواجية في المشاعر التي يعيشها المواطن في امتعاضه من الشرطي لاستغلاله منصبه في تحقيق المنفعه الذاتية والحصول على امتيازات اجتماعية واقتصادية لكنه في نفس الوقت لا يتوانى هذا المواطن عن اظهار الاحترام له . ان المشاعر مسألة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلا ." ان الحرية هي باب الانتاج وباب التواصل والحياة النبيلة ولذلك ارى القمع داءاً عضالا مستوطنا في الوطن العربي والعالم وما لم نتخلص منه فستفقد حياتنا كبشر الكثير من معانيها ". فالكاتب لا يرى أي حدود بين ما هو سياسي واجتماعي فكلاهما يشكلان نسيج الحياة.
يسرد الكاتب نماذج سلبية يمارسها العربي نتيجة شعوره بالقمع منها:-
ظاهرة تخريب الممتلكات العامه حيث يقرن المواطن العربي لا شعوريا بين السلطة القمعية والممتلكات العامه فينتقم من السلطة سلبيا بتخريب الممتكات العامة . بذلك يدمر وطنه ومجتمعه بدل ان يدمر السلطة .
عدم تعاملنا باحترام تجاه بعضنا او تجاه الاخرين . ويتساءل الكاتب متعجبا " انا لا افهم ماذا يخسر اولئك عندما يعاملون الناس باحترام او ماذا يكسبون عندما يعاملون بطريقة سيئة ".
حتى ان الكاتب يتأثر بظاهرة القمع المنتشرة في العالم العربي فلا يذكر أسماء الأشخاص أو أسماء الأماكن وذلك ان الحوادث تتكرر معه بصورة متقاربة في اغلب الدول العربية .وللحفاظ أيضا على استمرار علاقته مع العالم العربي فهو يخاف أن يمنع من دخول البلاد العربية ، وأخيرا فهو يخاف على اصدقائه في العالم العربي .
يفهم الكاتب العنصرية " انها سلوك متعال ومتغطرس " والمجمتع العربي مورست عليه العنصرية وفي نفس الوقت يمارسها داخليا ضد نفسه بعدم احترامه لكرامة الفرد . لا نستطيع ان نتخلص من العنصرية لكن نستطيع ان نخفضها الى الحدود الدنيا .
أما عن الحاكم العربي فيذكر الكاتب ان الحكم الطويل يعلم الحاكم القمع اذا كان لا يعرفه . وأن السلطة والشخص في الوطن العربي لا حواجز بينهما والمعيار الوحيد لكرامة المواطن ووطنيته هي مقدار ولائه للحاكم وطاعته له والتسبيح بحمده في جميع الاوقات والظروف والمناسبات وعدم انتقاد الحاكم وأقربائه . فرجال السلطة وأقربائهم والتابعون لهم فوق القانون . فلا توجد رقابة تحقق العدالة الاجتماعية في العالم العربي . " ولو افترضنا أن الزعيم السياسي استثنائي فإننا نعرف أن مهام قيادة الدولة أوسع من أي فرد استثنائي ".
يسيء الكاتب فهم فكرة الخلود في الاسلام فيعتقد أنه بما أن الفكرة تحاور المطلق المتعالي عن الزمان والمكان والمتمثلة في فكرة أن الله واحد وأن الإنسان هو مركز العالم على عكس ديانة شينتو اليابانية التي تؤمن بتعدد الالهة فلا عجب أن يكون الحاكم العربي مركز الشعب . حتى أنه لا يرى فرق بين السلطة القمعية والمعارضة التي هي بدورها سلطة قمعية أيضا ، أي أنها سلطة ضد سلطة تنتظر دورها لتسلم الحكم ، لإن المعارضة الحقيقية لا نستطيع مقابلة أفرادها الا في السجون أو في المنافي الاضطرارية .
يطرح الكاتب اشكالية مستعصية الفهم لديه ولدى الشعب الياباني وهي العلاقة بين الكاتب أو الشاعر أو حتى الرسام والمستوى الفني لابداعه ؟ في اليابان يحدد دور الكاتب بأنه صاحب الموقف الذي يساند الشعب في قضاياه العادلة وهو صوت الحرية . اما الكتاب العرب فيرى ان معظمهم قد تعبوا او يئسوا اوانهزموا . معظم الكتاب العرب وشعرائهم كتاب وشعراء سلطة . فالشاعر العربي يستطيع أن يمدح في آن واحد قادة يختلفون في اساليب قيادتهم الى حد التناقض . يتساءل الكاتب من هو الزعيم العربي الحقيقي ؟وكيف يجب أن يكون الزعيم ؟ ومن هو الزعيم الجدير بالثقة ؟ في رأيه أن الزعيم الحقيقي هو من لا يلهث وراء السلطة نفسها بل هي تاتي اليه يفرضها عليه وعي المسؤوليه والشعور العميق بالواجب . يرى الكاتب ان يوجه النشاط الادبي الى معالجة المهمات الكبرى التي لا بد من انجازها اذا أراد العرب التقدم ومن تلك المهمات تحقيق العدالة الاجتماعية والوحدة العربية والنهوض الصناعي وبناء علاقات جديدة داخل المجتمع نفسه – في دائرة المحيط العربي – ومع العالم الخارجي.
الكتاب زاخر بأمثلة كثيرة عن ما يراه نواقص في المجمتع العربي من قمع الطفولة والجنس وسلوكيات العمل وعقدة الشرف التي تضرب الشعور بكل الحواجز الاجتماعية وتنسف اقدس العلاقات الاجتماعية وجرح الكرامة وغياب الثقة في العلاقات الاجتماعية . والثقة هي جهاز يضبط المجتمع ويحافظ عليه سليما وهي رابط اجتماعي يضمن حياة الحاضر والمستقبل. وكيف يسرق الناشرون العرب حقوق الكتاب ، وانتشار الرشوة – عشان خاطرك - وازدواجية التعامل والسلوك كما يمثلها احمد عبد الجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ أي ان معظم الرجال العرب لهم قيمتان واحدة في البيت وأخرى في الحياة العامة. لكنه يبدي اعجابه بالبيت العربي الكريم المفتوح دائما للضيف الى درجة ان تشبيهه البيت العربي بالمعبد الياباني الذي يفتح ابوابه على مدار الساعة .
يطرح الكاتب مفهوم ثقافة الأنا وثقافة الآخر من منظار التقبل المشترك على قاعدة وعي الحياة اليومية وتخيل وجود الآخرين وبذلك نتجنب معيار القيم الجاهزة . وكما يقول الناقد الياباني شوإتي كاتوفي " إن المهم في النهاية أن نملك وعيا بان الاخرين الاجانب يعيشون في مجتمعات مثل مجتمعنا ، هذا الوعي هو البداية".
يشيد الكاتب بثقافة البدو التي تعتمد على الصبر والحيلة . ويقصد بالحيلة الترتيب والتدبير والتطبيق . فالمكان الذي يعيش فيه البدو ، خيمة من الشعر في الشتاء وخيمة من القطن في الصيف ، يعلمه الشجاعة والصلابة لانه يقف امام الطبيعة وجها لوجه بلا حواجز كما هو الحال مع سكان الحضر المحتمين بالبيوت الخرسانية والحجرية . والبدو لا يحتاجون لتطوير حياتهم لانهم يرونها مكتملة . فالحياة بسيطة في الطعام والسكن واللباس . اما ساكن المدن بسبب عدم ترحاله فقد احاط نفسه بالوفرة اكثر مما هو ضروري مما ابعده عن فهم جوهر العلاقة مع الاشياء . بينما المستقرون يبحثون عن الكمية والبدو يبحثون عن الكيفية التي تلبي حاجاتهم المتمثله في الماء والعشب والنار .
الصبر قيمة أخلاقية والمحك الذي يجدد حياة البدوي يوميا ، ولفهم معنى الصبر يروي الطوارق الحكاية التالية: أوصى رجل عجوز وهو على فراش الموت ابنه فقال: يا بني ! إذا اردت ان تعيش حياة ناجحة فلا تشرب سوى الماء الطازج ولا تأكل إلا الطعام الجيد ولا تركب غير الجمل الاصيل الممتاز . فرد الابن قائلا : يا ابي! كيف يستطيع رجل فقير مثلي ان يفعل ما طلبت ؟ قال الاب : تحمل العطش الى النهاية عندئذ كل ماء يصبح طازجا ولا تأكل قبل ان يعضك الجوع بقسوة عندئذ يصبح كل الطعام شهيا ، وامش الى جوار الجمل حتى يهدك التعب فاذا ركبت أي جمل سيكون اصيلا ممتازا .
يرتبط موقف الكاتب من القضية الفلسطينية بمسألتين جوهريتين هما العدالة ووعي المسؤولية فهو يعتقد ان البشر يتحملون المسؤولية عن أي جريمة تحدث على كوكبنا ، لذلك العالم كله مسؤول عن الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني . فهو يرى المسألة ببساطة شديدة مجموعة بشرية جاءت من خارج فلسطين واستوطنت بقوة السلاح ثم شردت شعبا واغتصبت أرضه وثقافته وتاريخه . القضية الفلسطينية خطأ ارتكبه العالم وما زال يتفرج عليه دون ان يعمل جديا على حله .إن حل مشكلة ما ، او تجاوز جريمة ما لا يكون بإيجاد مشكلة جديدة ، أو ارتكاب جريمة جديدة . الجريمة امتحان كبير لعدالة البشر ، ولوعيهم لمسؤوليتهم وامتحان للكرامة والشرف والضمير في وقت واحد.
عرف الكاتب الكثير من الكتاب العرب " قادني البحث والمصادفة الى غسان كنفاني واعترف أن هذا الكاتب اثر في وجداني تاثيرا عميقا وعلمني القضية الفلسطينية وقد كانت روايته – عائد الى حيفا – اول عمل اترجمه الى اليابانية ". فهو يحترم غسان كنفاني لان غسان كنفاني يحترم الشعب الفلسطيني احتراما كبيرا ويثق به لذلك كان غسان كنفاني يقول " ان الشعب اكبر منه واعلى منه " . كما انه ترجم روايات عربية اخرى مثل رواية الارض والحرام وارخص ليالي وتلك الرائحه والعسكري الاسود " . وترجم الاستاذ كورودا رواية " رجال تحت الشمس". كما ان اول ياباني يترجم القران الكريم هو توشيهيكو إزوتسو.
مع ان اعمال الترجمة لا تشكل الا جانبا من اهتماماته التي تشمل الادب المصري والادب السوري والقضية والثقافة الفلسطينية والادب المغربي فانه يقدم تعريف لثلاثة كتاب عرب وهم : ابراهيم الكوني روائي ليبي وفنان بارع يتقن خطاب اللغة ويجيد رسم الشخصية المؤثرة ويعرف عميقا كيف يبني رواية عصرية معاصرة على ارفع المستويات .تجاوز انتاجه 35 كتابا كلها روايات وقصص قصيرة عن الصحراء الافريقية وعن الطوارق . والكاتب الثاني هو عبد اللطيف اللعبي من مواليد فاس عام 1942. كتب الشعر والرواية والمسرحية وكتب للاطفال والمقالة ونشر كتبا عديدة .أمضى حياته ما بين الكتابة والقمع في السجن مدة ثمانية سنوات ونصف والحرية في باريس . له كتاب بعنوان " رسائل السجن " و " حرقة الاسئلة " والكاتب الثالث كاتب الموقف الذي لا يتراجع ولا يستسلم ولا يصالح ، انه يوسف ادريس . ادب يوسف ادريس يأخذ القاريء الى اعماق حياة الشعب في مصر ويساعد على فهم شخصية مصر من خلال المادة الملموسة في التفاصيل اليومية للمجتمع المصري .إذ يقدم واقع الفلاح المصري الملموس طازجا حيا في قصص دافئة ممتعة . يصف يوسف ادريس نفسه فيقول " أنا مختلف عن الكاتب الذي يجلس على كرسي في المقهى ، وفي يده عصا وفي الاخرى مسبحة . أنا اقفز وأتكلم وأنفجر وأكره وأعاني من الكآبة وأفرح فرحا مجنونا وأتحرك بنشاط وأرحل وأقابل الناس ، أتجول . أنا أداة حية في المجتمع . فإذا فقد مجتمعي وعيه أهمس اليه وأنفخ عليه ليصحو وأدفعه ليخرج الى المعركة واحيانا أخزه بقلمي لأجدد نشاطه .
ختاما يعبر الكاتب عن حبه تجاه العرب بقوله " هل علي أن أقدم بكلام عاطفي عن محبتي للثقافة العربية؟ لقد أعطيتها عمري كله ، وجهودي وعملي وهذا برأيي أرفع تقدير وأكبر محبة ".
هل سنبحث عن الكاتب أم الكتاب أم لا نحبذ حوار الشعوب ؟
*Dec 21, 2003
************************************************** ***************
إثراء للتعليق على كتاب " العرب وجهة نظر يابانية" فقد قرأت تعليقا عليه بعد كتابتة تعليقي بعنوان " كيف يبدو العرب في نظر اليابانيين " للكاتب الكويتي السيد/ محمد الرميحي المنشور في جريدة الحياة يوم الاربعاء 7 كانون الثاني ( يناير)2004 الموافق 15 ذو القعدة 1424هـ/العدد14895. واني اضيفه ليطلع عليه القاريء ليجد فيه زيادة في النفع والمتعة .
كلما اجتمع نفر من العرب في ندوة علمية أو لقاء ثقافي وجاءت سيرة اليابان وجدت أن غالبية الحاضرين في مثل تلك الملتقيات يقارنون بين النهضة اليابانية المحققة ، والنهضة العربية المرتجاة ، بالقول أن اليابان استطاعت أن تدخل العصر الحديث ، وتحتفظ في الوقت نفسه بثقافتها الاجتماعية ! ويكاد هذا الرأي يشكل غالبية بين المتابعين العرب ، ولعله رأي اعتذاري أو تبريري ، بأنك تستطيع أن تحافظ بالضبط على موروث اجتماعي ، وبناء سياسي تقليدي ، وسلوكك عام وخاص لا يتناسب مع العصر ، وفي الوقت نفسه تستطيع أن تلج عصر التحديث والعولمة والانتاج .
ومهما قيل ضد هذه الافكار ، بأن اليابانيين عموماً قد دخلوا عصراً جديداً بسبب تغيير ما اعتادوا عليه من بنى سياسية وسلوك اجتماعي ، وبتبني أفكار حديثة ، يقابله البعض باستنكار أو استغراب . هذا الرأي يخلط بغير علم بين الشكل الخارجي ( للثقافة كالمأكل والملبس ) وبين الأمر المؤثر في الثقافة كالسلوك السياسي وبناء المؤسسات .
وقد جاء ياباني بقلم عربي فصيح ليقول عكس ما يظن البعض ، هذا ما سرده نوبواكي نوتوهارا في كتابه الذي ما أن فرغت من قراءته ، حتى خلت انه من القراءة الضرورية لأي سياسي عربي ، يريد أو يعتقد أن الاصلاح لا يزال ممكناً في فضائنا العربي .
شهادة نوبواكي الذي قضى قرابة أربعين عاماً وهو يعيش مع العرب ويلاحظ الثقافة العربية في البوادي والمدن ، وقد أجاد العربية كأحد أبنائها ، واطلع على الانتاج الادبي العربي وترجم منه إلى اليابانية ، هي أول شهادة يابانية – حسب علمي – تكتب عن العرب بلغتهم ، وحسناً فعلت دار الجمل في ألمانيا بنشر هذا الكتاب ذي القطع المتوسط والذي لا يتجاوز المئة وخمسين صفحة فقط ، ولكنها صفحات مليئة بالملاحظات المهمة ، جاءت من عين يابانية محبة ولكن ناقدة . أهم ما في الكتاب هو المقارنة بين ما يقوم به العرب ، وما بين ما يتوقعه الياباني المعاصر .
يلاحظ الكاتب هذا التوتر غير الخفي في المدن العربية المكتظة بالسكان ، وهو توتر في الشارع العربي يعتقد الكاتب أنه ناتج عن اضطهاد ، فالناس تمشي في الشوارع وكأن عيناً تطاردهم ، وجوه جامدة وصامتة وطوابير طويلة ، حتى في التاكسي يواجه الانسان الاضطهــاد فالسائق يختار الراكب حسب المكان الذي يريد الذهاب إليه ، ويرفض أن ينقل الشخص الذي لا يعجبه شكله ، أو المكان الذي يقصده ، وينتهي الكاتب بالملاحظة أن ( الناس في المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين ، الناس صامتون لا يتحدثون ، لكننا نسمع صرخة من خلال ذلك الصمت الخانق ) !
يكتشف الناقد الياباني أن هذا الجو من التوتر هو بسبب غياب العدالة الاجتماعية ، ويضيف أن من حقه بعد كل هذه السنوات مع العرب أن يقول شيئاً لهم .
غياب العدالة يعني غيــاب المبدأ الاساسي الذي يعتمد عليه الناس في علاقتهم ببعضهم ، لذلك " يكرر الناس في البلاد العربية أن كل شيء ممكن لأن القوانين السائدة غير مطبقة وغير محترمة " .
القانون لا يحمي الناس من الظلم لأنه مخترق ، ويأتي نوتوهارا على الكثير من الاحداث والوقائـع ، فالقمـع هو " الشيء الوحيد الذي لا يحتاج إلى برهان في البلاد العربية " ، ومن مظاهر القمع الذي يستغربه الياباني المعاصر أن " الحاكم " يحكم مدى الحياة في الوقت الذي لا يتجاوز عمر رئيس الوزراء الياباني في الوظيفة بضع سنين ، وأن الصحف تمنع من بلد إلى بلد ، وأن الكتب والمجلات تعرض على الرقابة ، مثل هذه المظاهر لا يتوقع الياباني أن يراها في حياته المعاصرة . ثم يستطرد بالقول أن " من زار اليابان لا شك يعرف أن هناك سيارات بمكبرات صوت على نواصي الشوارع تهاجم رئيس الوزراء والحزب الحاكم دون أن يتعرض لها أحد " ، ولكن " السلطة والشخص في البلاد العربية شيء واحد " وفي معظم البلاد العربية يقول الكاتب أن " المعيار الوحيد لكرامة المواطن ووطنيته هو مقدار ولائه للحاكم " ، وهذا كله غريب علينا نحن اليابانيين في الوقت الحاضر .
وفي تاريخ اليابان الحديث ، فإن السيد تاناكا واحد من أقوى الشخصيات التي شغلت منصب رئيس وزراء ، ولكن الشرطة اعتقلته من بيته وذهب إلى السجن بالقباب الياباني بعدما اكتشفت الصحافة قضية " لوكهيد " .
يعترف الكاتب بأن اليابان في وقت ما كانت خاضعة لنوع من القمع ، لكن اليابانيين تخلصوا منه وأصبح تاريخاً . يقول " أعتقد أن القمع هو داء عضال في المجتمع العربي لذا فإن أي كاتب أو باحث يتحدث عن المجتمع العربي من دون وعي هذه الحقيقة البسيطة الواضحة فإنني لا اعتبر حديثه مفيداً وجدياً "
نتيجة القمع يحاول الناس أن يوحدوا آراءهم وملابسهم وبيوتهم وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد ، ويغيب أيضاً الوعي بالمسؤولية العامة . فالقمع يولد الخوف وينتج الاحترام الكاذب .
بسبب غياب العدالة ، تغيب المسؤولية العامة ، فالحدائق والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل العامة يدمرها الناس إعتقاداً منهم أنهم يدمروا ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم ، وكذلك تغيب المسؤولية تجاه أفراد المجتمع " فالسجناء السياسيين ضحوا من أجل المجتمع ، ولكن المجتمع نفسه يضحي بأولئك الرجال الشجعان " الناس في البلاد العربية تتعامل مع قضية السجين السياسي على أنها قضية فردية على أسرة السجين أن تواجه أعبائها !
يتسائل الياباني باستغراب " افهم أن تضحي السلطة بأفراد متميزين ومفكرين وأدباء وسياسيين وعلماء وفنانين ولكن لماذا يضحي الشعب نفسه بأولئك الأفراد " !
العربي ، يقول الكاتب ، يتناول أفكاره من " خارجه " فيما يستنتج الياباني أفكاره من الوقائع الملموسة التي يحياها كل يوم " في اليابان تضاف حقائق جديدة كل يوم بينما يكتفي العربي باستعادة الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد " . الافكار الجاهزة تخرب فهمنا للواقع .
يقارن الكاتب بين اليابان والعـرب فيقول أن اليابانيين " واجهوا تجربة صعبة ومريرة ، إذ سيطر العسكريون على الامبراطور والسلطة والشعب وقادوا البلاد إلى حروب ... لكننا وعينا خطأنا وقررنا أن نصححه ، فأبعدنا العسكر وقررنا أن نبني ما دمره القمع العسكري .. " ، لقد تعلمنا أن " القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية وقتل الابرياء ، ويؤدي إلى انحراف السلطة والدخول في ممارسة خاطئة " ، ثم يضيف أن النقد الذاتي " له قيمة كبرى في حياة الشعوب ، والشعوب بحاجة إلى نقد من الداخل ومن الخارج " .
ويقول الكاتب أنه كثيراً ما يواجه بالسؤال من أصدقائه العرب : لقد دمرتكم الولايات المتحــدة بإلقاء قنبلتين نـوويتين على مدنكـم ، فلماذا لا تكرهون أمريكا ؟ يجيب بأن " علينا أن نعترف بأخطائنا ، لقد استعمرنا شعوباً ودمرنا بلاداً كبيرة ، في الصين وكوريا واوكيناوا ، علينا أن ننقد أنفسنا ثم نصحح أخطاءنا ونزيل الانحراف " أما المشاعر فإنها مسألة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلاً " .
يصر نوتوهارا على أن الوعي بالمشاكل هو المدخل الصحيح إلى إصلاحها ، لذا يعطف على نظام القيم لدي العربي ، ويضرب أمثلة كثيرة على خللها من وجهة نظر اليابانيين .
فالياباني لا يتوقع أن يذهب إلى البنك ليصرف مبلغاً من المال ثم يعطيه الصراف أقل مما يستحق ! أو أن يذهب إلى متحف فيعرض عليه مسؤول المتحف بيعه بعض القطع الأثرية .. ويصف نوتوهارا الكثير من الحوادث في كتابه ، بل إنه شاهد مره باستغراب راهبة بثيابها الدينية تدفع رشوة ! لأنه لا يمكن أن تنهي معاملتها في تلك الدائرة من دونها ، فنظام القيم يرى الكاتب أن فيه خللاً كبيراً لا تستقيم معه التنمية المنشودة .
لقد حاولت أن أقدم لمسة سريعة لهذا الكتاب الذي يفتح عين من يريد أن يرى ، لأنه يقدم قضيتين : الأولى أن اليابان طلقت كثيراً من قيمها القديمة بشهادة رجل مطلع منها لتدخل عصر التحديث ، والثانية أن هناك نظاماً من القيم العربية تستحق المراجعة .
أما أن يكون الاكتفاء بفهم الكتاب من خلال التعليق عليه فأنا لا أدعي ذلك ، لكني أعتقد أن لدينا جميعاً حاجة إلى أن نقرأه بعيون وقلوب مفتوحة .