المعجزة الألمانية بين الحربين

٥ حزيران (يونيو) ٢٠١٠بقلم منذر الحايك


تعد مرحلة ما يين الحربين العالميتين في ألمانيا من المراحل التي حدثت فيها تطورات خطيرة في الفكر والممارسة، وفي جميع مناحي الحياة، فألمانيا كانت بلد مهزوم، والمنتصرون يحتلون قسماً من أراضيه، وقد كبلته معاهدة فرساي عسكرياً وأرهقته اقتصادياً، وحدَّت من طموح قومي عرف دائماً عن الألمان. هذا البلد بهذه الظروف تمكن من قلب المعادلة، وارتقى معتمداً على ذاته، ليتحول إلى القوة الأكبر في القارة، ويشن الحرب على أوروبا مجتمعة تقريباً.
اندلعت الحرب العالمية الثانية في 1 أيلول 1939 بقرار من الزعيم الألماني هتلر ضد بولونيا وفرنسا وبريطانيا، وأعلن الاتحاد السوفيتي حياده. فعلى الجبهة الشرقية تمكنت ألمانيا من سحق بولونيا في ثلاثة أسابيع ربيع عام 1940، وتحولت غرباً فهزمت الجيش الفرنسي بسهولة، وأصبحت إنكلترا وحيدة معزولة في جزيرتها مع فلول جيش فرنسا الحرة. حاول هتلر احتلال إنكلترا بعمليات إنزال لكنه عدل عنها لأنها ستكلفه غالياً، واستبدل الغزو المباشر بشل خطوط تموينها في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. في عام 1941 أصبحت الحرب عالمية فقد دخلها الاتحاد السوفيتي في حزيران والولايات المتحدة في كانون أول. بعد معركة ستالينغراد بدأت هزيمة ألمانيا في الجبهة الشرقية وأخذت تقاتل متراجعة. وفي أيار 1945 استسلمت ألمانيا.
هنا تتداخل النظريات وتختلف الآراء في استنباط أسباب ضياع النجاحات الساحقة الأولى لألمانيا، وانقلابها إلى هزيمة نكراء، وربما كان من أهمها: غرور العظمة، خاصة لدى الزعيم الذي أعمته الانتصارات، حيث يعتقد البعض أن الأنظمة الشمولية التي تعتمد إلهام الزعيم وقيادته المعصومة هي السبب، وهناك من يرى بأن فتح الجبهة الشرقية ضد روسيا هو سبب الهزيمة ومنها بدأت، كما قيل بأن الاعتماد على حياد أمريكا وعدم إدراك الارتباط المصيري بين رأسمالية أمريكا، وهي صانعة القرار، وبين رأسمالية أوروبا الغربية الذي تجلى بالقروض الأمريكية الهائلة للبريطانيين، وكلها كانت مهددة بالضياع بحال الفوز النهائي لألمانيا. كل ذلك قد يكون صحيحاً لكننا يجب أن لا ننسى بأن النازيون اعتمدوا القوة العسكرية وحدها، معتقدين بأنها الحل الأول والأخير، وهذا ما ثبت فشله في كل مراحل التاريخ.
لكن لمعرفة الحقيقة بشكل أوضح يجب أن ندرك بأن ما يميز تاريخ ألمانيا هو كونه حلقات متداخله، فلا يمكن فصل تاريخ الرايخ الثالث عن الثاني أو الأول. ففي تاريخ ألمانيا على الدوام كانت كل مشكلة تحل تكون سبباً لخلق مشكلات جديدة، وكل حرب كانت تخوضها ألمانيا يعقبها سلام، وكل سلام تعقده هو سبب مؤكد لحرب قادمة، وهذا ما انقلب الآن في التاريخ الألماني المعاصر، حيث يبدو أن ألمانيا انقطعت عن سلسلة تاريخها السابق، فبعد خسارتها للحرب العالمية الثانية واحتلال جيوش الحلفاء لأراضيها حاولت تقبل الوضع، ثم نجحت في استيعابه، فبرعت في التنسيق اقتصادياً مع أعداء الأمس في السوق الأوروبية المشتركة، وتجاهد الآن لتندمج معهم في الاتحاد الأوروبي.
إن الظروف التي أحاطت بصعود نجم النازية في ألمانية لم تكن وليدة وقتها، بل تعود جذورها إلى المراحل الأولى لتكوين الأمة الجرمانية، واستمرت مكوناتها تتفاعل مع كل مراحل تكون ألمانيا، ومع كل ما رافقها من حروب وصراعات سياسية واقتصادية ودينية، وربما كان التطور الديني في ألمانيا، وخروج معظم الألمان من حظيرة الكاثوليكية إلى البروتستانتية، كان شكلاً من أشكال تعبير الأمة الألمانية عن ذاتها، ولا بد لمن يدرس أي مرحلة تالية لهذا التاريخ من التعرف ولو بشكل بسيط إلى حيثيات التحول الديني في ألمانيا.
العوامل الدينية ودورها في التاريخ الألماني:
لم يكن مارتن لوثر، الذي عاش ما بين 1483- 1546، فقيهاً ولا فيلسوفاً، بل كان ألمانياً تمثلت به الشخصية الألمانية، فهو راهب من أصل ريفي، امتاز بأنه أحسن التعبير عن حاجات معاصريه، ودعى إلى فكرة بسيطة آمن بها بشدة، وهي: أن الحقائق كلها كامنة في الكتاب المقدس وحده. لم تكن ألمانيا ولا شعبها، في ذلك الوقت، يقبلون هذه الفكرة، لكن لوثر هاجم أولاً صكوك الغفران والفساد المتفشي في الكنيسة الكاثوليكية، وهذا ما لا يمكن لأحد الدفاع عنه. وفي عام 1517 ألصق لوثر بنوده الخمسة والتسعين على باب كنيسة وتنبرغ فأشعل بها جذوة الإصلاح، وفي عام 1520 أعلن أن روما هي بابل، وأن البابا هو المسيح الدجال، وطالب بزواج القسس والسماح بالطلاق.
إزاء هذه الطروحات التي تقوض أساس الكاثوليكية أصدر البابا ليو العاشر مديتشي قرار الحرمان بحق لوثر، ونظراً لخطورة الوضع تحالف ضده مع الإمبراطور شارل المتربع على عرش الإمبراطورية الجرمانية المقدسة، الذي أصدر بدوره مرسوم (ورمز) القاضي باعتبار لوثر خارجاً على القانون. ومن الغريب أن نابليون إمبراطور فرنسا الكاثوليكي اتهم شارل بأنه أضاع إحدى الفرص العظيمة في التاريخ عندما رفض دعوة لوثر له لتزعم حركة الإصلاح في ألمانيا، ولكن لا نستغرب ذلك إذا نظرنا إلى خلفية العداء المستحكم بين الإمبراطورين، فالفرنسيون المتمسكون بالدين القويم عدوا لوثر مستحقاً للتشجيع ليقض مضاجع الإمبراطورية الجرمانية التي كانت أعتى أعدائهم.
ومع تحالف البابا والإمبراطور شارل ضده فقد كان لوثر معبود جانب كبير من الألمان، خاصة الطبقة الوسطى، إضافة إلى أن الظروف قد خدمت قضية اللوثرية بشكل عام، فالإمبراطور انشغل بالحرب مع فرنسا، وبعصيان المجالس المحلية عليه، أما أخوه ملك النمسا فكانت مواجهة الأتراك قد وضعته في حاله لا تسمح له بأي مواجهة مع الهرطقة الألمانية.
أخذت جامعة وتنبرغ تعاليم لوثر فكانت حاضناً لها، وبثت إصلاح التعليم في كل ألمانيا، حيث استطاع كل ألماني أخذ مفاهيم العصر بلغة يفهمها، فوجد فيها العقل القومي لألمانيا، وتمكنت وتنبرغ من منافسة السوربون ذات التعليم التقليدي، ومن وتنبرغ أخذ أساتذة جامعة كمبردج الإنكليزية مفاهيم اللوثرية فساهموا بتحويل بريطانيا إلى البروتستانتية.
لكن البروتستانتية لم تنتشر بسهولة ويسر في ألمانيا، فكما كان لها مؤيدين كان لها معارضين، فبعد حروب دينية عقيمة أخرت ألمانيا قرنين من الزمان تشكل أساس اللوحة الدينية للأمة الألمانية، فقد خرجت منها: سكسونيا وبروسيا وهس وبراندنبرغ وبرنزويك، وعدد من المدن الهامة في الشمال وفي الجنوب لوثرية، (عصبة شمال كالدة اللوثرية)، وبقيت بافاريا والنمسا ومناطق الراين كاثوليكية.
دور العوامل السياسية والعسكرية:
مع أن الإمبراطور شارل يعد ألمع وأنجح شخصيات أوروبا في عصره فقد كان في ألمانيا يلقى كل صد وتحقير من قبل الأمراء الألمان، كانوا جميعاً يخشون محاولاته لتوسيع نفوذه على حساب سلطاتهم، إضافة إلى أن الكاثوليك لم يرتاحوا إليه لرغبته في إصلاح المفاسد الكنسية، والبروتستانت لا يحبونه لإخلاصه للبابا.
تعقدت الأمور السياسية في ألمانيا عندما قام الأمير موريس حاكم سكسونيا اللوثري في عام 1546 بالاتفاق مع الإمبراطور شارل الذي كان يرغب بكسب المزيد من السلطات، بينما موريس كان يرغب بتصفية أملاك جون فريديريك حاكم سكسونيا وحقوق أسرته وضمها إليه. فانضم موريس بجيشه اللوثري إلى الإمبراطور ضد تحالف اللوثريين الألمان، وأدت خيانته لهزيمتهم أمام الإمبراطور وأسر جون فريدريك. ولكن موريس المتقلب لم يلبث أن انقلب ضد الإمبراطور، وتحالف مع هنري الثاني ملك فرنسا الذي أدرك أهمية مصالح فرنسا على الراين، واتفق موريس وزمرته من القواد البروتستانت مع هنري عام 1522 على تسليمه مدن: متز، وتول، وفردان، وكامبري، ليحكمها مقابل دعمه لهم ضد الإمبراطور. هذه الصفقة هي التي وضعت قدمي فرنسا في الألزاس واللورين وخلقت المشكلة المستعصية، وأدت إلى عدة حروب عالمية.
وجاء صلح وستفالية عام 1648 لينهي حرب أوروبية طويلة عرفت بحرب الثلاثين عام، وعمل هذا الصلح على تحقيق توازن سياسي وديني في ذلك العصر، وأقر قانون للعلاقات الأوروبية استمر لأجيال عدة، وكان من مقرراته: إعطاء إمارات الألزاس لفرنسا، فأكملت بذلك استيلائها على الألزاس العليا والسفلى كثمن لتدخلها في تلك الحرب بين الأمراء الألمان، مما سيشكل قلق دائم لفرنسا واستفزاز مستمر لألمانيا.
أما اللورين فتعود مشكلتها لمعاهدة فيينا الثالثة 1738، فعندما كان شارل السادس هابسبورغ يحكم إسبانيا – النمسا حاول رشوة فرنسا وإنكلترا لقبول تولية ابنته الوحيدة من بعده على العرش، لأن ولايتها مخالفة للقانون السالي، فأرضى إنكلترا بإلغاء شركة الهند الشرقية المنافسة للمشاريع الإنكليزية التجارية والاستعمارية هناك. وكان ثمن إرضاء فرنسا باهظ أكثر، إذ طالبه الكاردينال فاليري رئيس وزراء فرنسا الداهية بإقليم اللورين وحصل عليه.
دور الشعب البروسي:
كانت بروسيا دولة عجيبة وفيها شعب أعجب، فهي دولة مشتتة، حيث كانت موزعة على ثلاثة أقسام: برندرنبرغ في الوسط، وبروسيا في الشرق، ودوقيات صغيرة في الغرب. وكان للبروسي طابع خاص به، فلقد كان في هذا الشعب العجيب، مع حيويته الفائقة، خشونة بالغة تختلف تماماً عن الرقة المعهودة في السكسون والفرانك، وحتى سكان بلاد الراين. فأية عوامل شكلت العرق البروسي؟ ربما الدم السلافي، أو المناخ القاسي في شمال ألمانيا، وربما التقاليد العسكرية الصارمة التي فرضتها الطبيعة على دولة لا تحميها حدود طبيعية، وربما هذه الأسباب كلها ساهمت في تشكيل البروسيين. وقبيل منتصف القرن الثامن عشر أدرك ساسة أوروبا أن هذا الشعب الحي، المحب للسيطرة الذي لا يمتع نفسه إلا بالقليل من متع الحياة، وبما عرف عنه من التزامه الشديد بالنظام، والمهارة باستخدام السلاح، أنه أصبح يمثل مشكلة جديدة وخطيرة بالنسبة إلى السياسة الأوروبية.
ففي عهد الملك فريدريك وليم الأول، والد فريدريك الكبير، عمت الروح القتالية في بروسيا، ووجهت كل الطاقات نحو الصناعات الحربية، حتى غدت برلين قلعة عسكرية، وتمكنت بروسيا من فرض تقاليدها على كافة الألمان، فكان فريدريك وليم سابقة وقدوة لهتلر. وعندما تولى الملك فريدريك الثاني على بروسيا وجد خزائن مليئة وشعب مطيع، فتمكن من جعل جيش بروسيا مرهوباً في أوروبا كلها، ووضع أسس شهرة بروسيا العسكرية، وبوأها زعامة الدويلات الألمانية.
ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى:
كانت ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى دولة عظمى بكل معنى الكلمة، وأقوى دول القارة، وللدول العظمى مصالح مستديمة توجه سياستها الخارجية مهما كانت الحكومات أو نوع النظام السياسي منها.
وفي السنوات العشر قبل الحرب كانت ألمانيا على درجة واسعة من النمو الاقتصادي والسكاني، فقد كان النمو الاقتصادي فيها عظيماً وأفضل من إنكلترا، لأن ألمانيا حققته دون القضاء على الزراعة بل طورتها. وكانت أول دولة أوروبا في استخراج الفحم الحجري، والأولى في الصناعات التحويلية المعدنية، وكذلك الكيميائية والكهربائية، وفي صناعة النسيج تأتي مباشرة بعد بريطانيا. يضاف إلى ذلك ما عرف عن الألمان من روح المبادرة في المشاريع، وحب النظام والاندفاع في العمل، لكن مع غطرسة قومية لا تخلو من نوازع السيطرة.
كانت ألمانيا ما بين أعوام 1900-1914 أكبر مصدر في العالم للمنتجات الصناعية، مع نجاحات واضحة في التجارة الخارجية، لكن كان يهيمن على تفكير الألمان أنه لاستمرار نجاحاتهم الاقتصادية يجب فتح أسواق جديدة، بينما كانت سياسة بسمارك مبنية على الحفاظ على المكتسبات في القارة ولا ضرورة للمغامرة وراء أراضي جديدة. لكن بعد سقوط بسمارك عام 1890 فضلت الجامعة الجرمانية سياسة التوسع في القارة أولاً، لضم ألمان الخارج: سكان النمسا، والبلطيق، وألمان هنغاريا، والهولانديين، والفلمند. وخارج القارة كانت سياسة غليوم الثاني على خلاف سياسة بسمارك، فقد كان يسعى لمكان تحت الشمس، ولكن ألمانيا، التي استفاقت متأخرة على عملية الاستعمار، لا يمكن أن تطالب بما بأيدي الدول الاستعمارية العريقة التي لم تترك مكاناً لمستعمر جديد.
فكرت ألمانيا بمراكش، وحاولت الامتداد نحو آسيا الصغرى عبر مشاريع اقتصادية، ولكن الحكومة الألمانية لم تتمكن من تلبية دعوات الجرمانيين الاستعمارية إلا بإقليم واحد استعمرته هو أفريقيا الوسطى. وكانت ألمانيا تعتمد في سياستها الخارجية على امتلاكها لأقوى جيش في العالم، له دعم شعبي هائل، وأسطول حربي كبير أسسه الإميرال جون تيريبتز. وإزاء هذه القوة العسكرية والمطامع الواضحة نشأ الوفاق الودي أو الثلاثي عام 1904 من تكتل فرنسا وروسيا وبريطانيا لتطويق الخطر الألماني، وقد صرحوا بأنهم لا ينون مهاجمة ألمانيا، وأن تكتلهم فقط لحفظ السلام ومنعها من خرقه.
ألمانيا في الحرب العالمية الأولى:
منذ 1904 بدأت تحدث أزمات دولية تهدد بالحرب، ومنها الأزمة المراكشية التي وقفت فيها ألمانيا ضد توطيد نفوذ فرنسا في المغرب العربي، ثم تلتها الأزمة البلقانية حين ضمت النمسا البوسنة والهرسك، وبعدهما جاءت أزمة أغادير، التي كانت تجديد للأزمة المراكشية، وحصلت بنتيجتها ألمانيا على القسم الداخلي من الكونغو الفرنسية كترضية. هذه الأزمات كانت كلها ذات خلفيات اقتصادية، فالمكاسب الاقتصادية ولدت لدى الدول الاستعمارية رغبة في القضاء على المنافسين بالقوة، لكن مما يحير أنه عندما تشتد رغبة السياسيين للحرب يعبر رجال الأعمال، وهم المعنيين المباشرين بالمنافع الاقتصادية، عن مقتهم لها، فالحرب تضر بتجارتهم وتوقف تعاملاتهم.
لكن يجب أن لا ننسى أن هناك أيضاً أسباباً أخرى، فقد سبقت الحرب الأولى حالة من الهياج القومي العظيم في ألمانيا، بسبب قضية الألزاس واللورين التي عادت للتفاعل قبل الحرب الأولى، علماً أنها كانت على الدوام سبباً لوقف كل تقارب فرنسي ألماني، ففرنسا تريد من ألمانيا التخلي عن المطالبة بها، وألمانيا تريد استعادتها.
بدأت شرارة الحرب بقتل ولي عهد النمسا من قبل شبان قوميين صرب، فوجهت النمسا إنذاراً إلى صربيا، وأخذت تستعد لسحق حركتها التحررية، هنا تدخلت روسيا واتخذت بعض التدابير العسكرية، فقامت ألمانيا بإنذار روسيا لعدم التدخل، ردت روسيا بإعلان النفير العام، فأعلنت ألمانيا النفير العام، وتبعتها فرنسا. وأعقبت ألمانيا ذلك بإعلان الحرب على روسيا ثم على فرنسا لدعمها روسيا، وسارعت بريطانيا لتدخل الحرب إلى جانب فرنسا.
مع أن القائد الألماني لودندورف تمكن أن يحقق انتصارات على البريطانيين والفرنسيين على الجبهة الغربية عام 1918، لكنها كانت حرباً مضنية لكل الأطراف، والغريب أن الحكومات استمرت بخوضها دون كلل، فقد أراد كل طرف منها المضي نحو نصر حاسم أو صلح ظافر. وكان من الممكن أن تستمر لسنوات وسنوات إلا أن حدثان غيرا مجرى الحرب كلية هما: الثورة البلشفية ودخول أمريكا الحرب. وعندما أخذت بريطانيا وفرنسا تستقويان بأمريكا ومواردها الهائلة، وأعلنتا بكل مجال أنهما الآن تريدان سحق ألمانيا، تدخل الرئيس الأمريكي ولسون وصرح بأنه لا يريد سحق ألمانيا، بل سحق الروح العسكرية الألمانية، وتشجيع الأوساط الحرة في ألمانيا.
في الوقت الذي أجهد فيه الطرفان وصل الدعم الأمريكي ليقلب موازين القوى، ولما كتب لودندورف إلى غليوم يشرح له سوء الموقف الألماني، قال: أرى أننا غلبنا، إننا على حدود قوانا، يجب إنهاء الحرب. ثم طلب لودندورف الهدنة مباشرة لإنقاذ جيشه، واتصل مع ولسون الذي رفض التفاوض إلا مع حكومة تمثل الشعب الألماني، فاستقال لودندورف وتنازل غليوم الثاني عن العرش. وفي هذه الأثناء أخذت تنتشر من برلين حركة ثورية ضد الحرب وضد الحكومة، مما دفع الألمان للتساؤل: هل غلب الجيش الألماني بقوة السلاح؟ أو طعن من الخلف بسبب الثورة؟ فالقوميون الألمان ونازيو هتلر كانوا يعتقدون بأن الثورة هي السبب، علماً بأن حركة برلين الثورية لم تبدأ إلا بعد إرسال وفد المفاوضات الألماني للهدنة، وإعلان أن الحالة العسكرية ميئوس منها.
عقدت مباحثات السلام بفرساي وتمخضت عن معاهدة، وصرح الألمان منذ البداية أن معاهدة فرساي فرضت عليهم دون مناقشة، وأسموها: (إملاء فرساي). وفكر بعض الألمان برفض توقيعها، لكن كبار القادة الألمان ومعهم الرئيس هندنبرغ أكدوا من أن هذا غير ممكن، لأن ألمانيا انهارت عسكرياً وسياسياً ومعنوياً. ونتيجة لمعاهدة فرساي أضاعت ألمانيا الألزاس واللورين، والممر البولوني، ودانتزغ أصبحت حرة، وأراضي ضمت لبلجيكا وأخرى للدنمرك، ففقدت بذلك ألمانيا حوالي عشر سكانها، هذا عدا عن التعويضات المالية الهائلة المفروضة عليها، كما حدد تعداد جيشها، وأن يكون دون مدفعية ثقيلة أو طيران، ومنع التجنيد الإلزامي، ونزع سلاح منطقة رينانيا. إن هذا السلام الذي أقامته معاهدة فرساي كأنه كان مقدمة للحرب التالية، وقد قيل: إن فرساي حضت ألمانيا على الأخذ بالثأر، دون أن تنزع منها وسائل الأخذ بالثأر. فقد أقامت المعاهدة حول ألمانيا عدداً من الدول الضعيفة تستطيع أن تبتلعها بسرعة، خاصة مع امتلاكها لجيش محترف، يمكن أن يتحول بكامله إلى ضباط وصف ضباط في جيش جديد كبير. كما أن معاهدة فرساي لم تمس القوة الصناعية لألمانيا، بل شجعتها على أمل أن يتم دفع التعويضات من إنتاجها.
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article23694