هل النظرية مفتاح لفهم الأحداث الدوليةالنظريات في العلاقات الدوليةبقلم :سوسن زهدي شاهينمختصة في الشؤون السياسيةيدل مفهوم النظرية فيالتمثل الشائع على الرأي الشخصي أو المتمثلات و الأحكام الفردية، التي قد يتبناها شخص حولقضية ما أو مسألة معينة، لذا يشترط أن تكون النظرية مرتبطة بالممارسة و العمل, من هنا نستنتج أن مفهوم النظرية فيالدلالة الشائعة تحمل بعدا برجماتيا يعبر عن أراء شخص أو مجموعة أشخاص أو اتحاد فكري نحو مسألة بعينها.(1القدس/فلسطين
ما هي إذن طبيعة العلاقة التي تجمع بين النظرية فيدراسة العلاقاتالدوليةو تصورات ممارستها؟
فيمعرض الجواب عن هذا الإشكال المحوري، "نعتبر أن الطرح الذي يحظى بالرواج و الجاذبية، هو الذي يشير إلى تواري و أفول دور النظرية و طغيان الفضاء الوقائعي المتشكل من نسيج الأحداث و التفاعلات الدولية، لدرجة اعتقد معها الكثير أن الأفكار لا تصنع الأحداث، و خاصة أن العديد من المفكرين لم يستطيعوا التنبؤ و توقع أحداث كسرت وتيرة التاريخ، كانهيار جدار برلين، و أدخلت بذلك مجموعة ن التفسيرات المرتكزة على منطق الحرب الباردة إلى قاعة الاحتضار".
فيالحديث عن طبيعة العلاقة بين التأصيل النظري لدى الأوساط الأكاديمية و الممارسة العملية، تثار الملاحظات التالية: لقد تزامن طرح هذا النوع من الأسئلة مع بداية الحرب الأمريكية على العراق، تلك الحرب التي ناءت فيها الأوساط البحثية و الأكاديمية بعيدا و كأنها لا علاقة لهذه الحرب بما يتم دراسته فيحقل العلاقاتالدولية، فعندما "عقدت جمعية الدراسات الدوليةملتقى "بورتلاند" فيشهر فبراير 2003، أي عشية اندلاع الحرب على العراق، لم تتعرض بأدنى إشارة لموضوع الحرب، و كان قبل ذلك أحداث الحادي عشرة من سبتمبر و الحرب على أفغانستان، و كل ما تخلل تلك الفترة من المواجهات بين الفلسطينيين و الإسرائيليين و تعثر مسلسل السلام بينهم".
*إن الطريقة التي تعامل بها الأكاديميون مع الأحداث المعاصرة اتسمت بالجمود و عدم الاهتمام، الشيء الذي يجعل من الوقت الحاضر مناسبا للبحثفيالروابط بين النظرية و الممارسة(2).
* لقد نبهت أحدات الحادي عشر من سبتمبر و غزو العراق الباحثين فيالعلاقاتالدوليةإلى دور العوامل العقدية و الإيديولوجية الذاتية فيإفراز سلوك معارض يعزف خارج محور الدول العظمى، الشيء الذي ساهم فياغناء النقاش و معارضة الافتراضات الكبرى الأساسية فيعلم الاجتماع الغربي، و لا سيما تلك التي تتعلق بعقلانية الفعل الإنساني و الاجتماعي، و ترى هذه العقلانية أن العالم يتجه نحو مصير مشترك يتسم بالديمقراطية الليبرالية و اقتصاد السوق، و لا تبالي فيالوقت ذاته بالخصوصيات الذاتية للشعوب و الاختلاف الحضاري.
يبقى السؤال المحوري و الأكثر إلحاحا هو هل الأكاديميون المشتغلون بحقل العلاقاتالدولية، ملزمون بالتمرس و إدراك طبيعة الاكراهات التي تفرضها الممارسة ؟ أم أنه يتوجب عليهم الابتعاد عن مجالات التفاعل، طالما أن التوجه الأكاديمي يعني أن يلتزم المرء بالحياد والموضوعية؟
إن الكثير من الباحثين حاولوا جهد الإمكان تحليل الواقع و بناء نظريات انطلاقا مما تتيحه من ممكنات معاينة متغيرات الأحداث فيالواقع الدولي، و آخرون انطلقوا من البناءات الفكرية و التأملية فيمحاولة للاستقراء النظري الصرف، فيتم القفز عن فهم الواقع و إدراكه و تجاوزه على اثر تحليل السلوك الخارجي مع اقتراح نماذج و صيغ من العلاقاتو المعاملات الدولية، و هذا ما يسمى بحرب البراديغمات
إن الكثير من الباحثين حاولوا جهد الإمكان تحليل الواقع و بناء نظريات انطلاقا مما تتيحه من ممكنات معاينة متغيرات الأحداث في الواقع الدولي، و آخرون انطلقوا من البناءات الفكرية و التأملية في محاولة للاستقراء النظري الصرف، فيتم القفز عن فهم الواقع و إدراكه و تجاوزه على اثر تحليل السلوك الخارجي مع اقتراح نماذج و صيغ من العلاقات و المعاملات الدولية، و هذا ما يسمى بحرب البراديغمات
الـواقـعية
لقد هيمن المنظور الواقعي على حقل العلاقات الدولية خلال فترة الحرب الباردة، وتفترض الواقعية أن الشؤون الدولية عبارة عن صراع من أجل القوة بين دول تسعى لتعزيز مصالحها بشكل منفرد، وهي بذلك تحمل نظرة تشاؤمية حول آفاق تقليص النزاعات والحروب، غير أنها ساعدت على تزويدنا بتفسيرات بسيطة لكنها قوية للحروب، والتحالفات، والإمبريالية، وعقبات التعاون وغيرها من الظواهر الدولية. كما أن تركيزها على النزعة التنافسية كان متناسبا جدا مع جوهر الصراع الأمريكي-السوفييتي.
"الواقعية ليست نظرية واحدة بطيعة الحال، كما أن الفكر الواقعي تبلور بالأساس خلال فترة الحرب الباردة. فالواقعيون الكلاسيكيون مثل هانس مورقينتو وراينهولد نايبور يعتقدون أن الدول مثلها مثل البشر تمتلك رغبة فطرية في السيطرة على الآخرين، وهو ما يقودها نحو التصادم والحروب، وقد أبرز مورقينتو فضائل نظام توازن القوى التقليدي المتعدد الأقطاب، ويرى أن نظام الثنائية القطبية الذي برزت فيه الو.م.أ. والاتحاد السوفييتي يحمل العديد من المخاطر".
وبالمقابل، فإن النظرية النيوواقعية التي يتزعمها كينيث وولتز تغفل الطبيعة البشرية وتركز على تأثير النظام الدولي، فبالنسبة لـ وولتز، فإن النظام الدولي يتشكل من مجموع القوى الكبرى، كل منها تسعى للحفاظ على وجودها. فهذا النظام فوضوي (بمعنى انتفاء سلطة مركزية تحمي كل دولة من أخرى) وفي ظله نجد أن كل دولة لا تهتم سوى بمصالحها، غير أن الدول الضعيفة تسعى لإيجاد نوع من التوازن بدلا من الدخول في صراع مع الخصوم الأقوياء. وأخيرا، وخلافا لـ مورقينتو فإن وولتز يعتقد أن النظام الثنائي القطبية أكثر استقرارا من النظام المتعدد الأقطاب.
إحدى الإضافات التنقيحية المهمة للواقعية تتمثل في ظهور التوجهين الهجومي-الدفاعي ويتزعمهما كل من روبرت جرفيس، وجورج كويستر، وستيفن فان إيفيرا. هؤلاء الباحثون يعتقدون بتزايد احتمالات الحرب بين الدول كلما كانت لدى بعضها القدرة على غزو دولة أخرى بسهولة. لكن عندما تكون القدرات الدفاعية أكثر تيسرا من القدرات الهجومية فإنه يسود الأمن وتزول حوافز النزعة التوسعية. وعندما تسود النزعة الدفاعية، ستتمكن الدول من التمييز بين الأسلحة الدفاعية والأسلحة ذات الطابع الهجومي، آنئذ يمكن للدول امتلاك الوسائل الكفيلة بالدفاع عن نفسها دون تهديد الآخرين، وهي بذلك تقلص من آثار الطابع الفوضوي للساحة الدولية.
أما الواقعيون ذوو النزعة الدفاعية، فيرون أن الدول تسعى فقط للحفاظ على وجودها، بينما تقدم القوى الكبرى ضمانات لصيانة أمنها عن طريق تشكيل تحالفات توازنية بانتقاء آليات دفاعية عسكرية (مثل القدرات النووية الانتقامية). وليس من المفاجئ أن نجد وولتز وغيره من النيوواقعيين الذين يرون أن الو.م.أ. كانت آمنة في أغلب فترات الحرب الباردة يتخوفون من إمكانية تبديد الو.م.أ. لهذا المكسب في حال تبنيها لسياسة خارجية عدائية. وهكذا، فإنه وبنهاية الحرب الباردة تحولت الواقعية التشاؤمية لـ مورقينتو والمستمدة من الطبيعة البشرية إلى تبني نبرة أكثر تفاؤلية.
اللـيبرالـية
التحدي الأساس للواقعية يأتي من عائلة النظريات الليبرالية، التي ترى إحدى اتجاهاتها أن الاعتماد المتبادل في الجانب الاقتصادي سوف يثني الدول عن استخدام القوة ضد بعضها البعض، لأن الحرب تهدد حالة الرفاه لكلا الطرفين.
اتجاه آخرمنسوب للرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون، يرى أن انتشار الديمقراطية يعتبر مفتاحا للسلام العالمي، ويستند هذا الرأي إلى الدعوى القائلة بأن الدول الديمقراطية أكثر ميلا للسلام من الدول التسلطية. وهناك اتجاه ثالث، وهو الأحدث، يرى أن المؤسسات الدولية مثل وكالة الطاقة الذرية وصندوق النقد الدولي، يمكن أن تساعد للتغلب على النزعة الأنانية للدول عن طريق تشجيعها على ترك المصالح الآنية لصالح فوائد أكبر للتعاون الدائم. ورغم أن بعض الليبراليين احتفوا بالفكرة التي تعتبر أن الفاعلين عبر القوميين - خاصة الشركات المتعددة الجنسيات - استحوذوا تدريجيا على سلطات الدول فإن الليبرالية بصفة عامة ترى في الدول فاعلين مركزيين في الشؤون الدولية. وفي كل الحالات فإن جميع النظريات الليبرالية تطغى عليها النزعة التعاونية بشكل يتجاوز بكثير الاتجاه الدفاعي في النيوواقعية، على أن كلا منهما يقدم لنا توليفة مختلفة عن كيفية تعزيز هذا التعاون..
العلاقاتالدولية: شيء من النظرية و آخر من التطبيق
إن أهم أسباب الخلافات بين هذه البراديغمات، يرجع إلى تعقد مجال العلاقاتالدوليةو الطابع المركب لهذه العلاقاتمن جهة، و الاختلاف فيالمنطلقات و الدوافع الإيديولوجية التي ينطلق منها كل مقترب من جهة ثانية. لاشك أن اختيار العمل بمصطلح "البراد يغم" هو أجدى و أنفع، حيث أن السمة المميزة لهذا الحقل هو نسبية هذه البراديغمات التي لا تكاد ترقى حسب العديد من الباحثين إلى مستوى النظرية، بل هناك أقطاب براديغماتية فيخدمة مصالح و أهداف معينة، و بعبارة أخرى قد لا تتوفر أحيانا الشروط الموضوعية للعلمية، و يمكن الحديث عن وجود نزوعات إيديولوجية تؤطر بشكل عام توجه أصحابها.
فالنظرية الواقعية، قامت على أنقاض النظرية المثالية التي دعت إلى تجاوز الخلافات بين الدول عبر سيادة القانون الدولي و رفض طغيان مصالح الكيانات الدولية على نسق التحالفات الدولية، ويعتبر أبرز ممثلي هذا التيار أمثال "كينان" و "مورغنتاو"أن النظام الدولي ذو طبيعة فوضوية يسيره قانون وحيد وأوحد هو فانون النزاع و الاستئثار بالمصالح الوطنية اعتمادا على منطق القوة و إشباع أنانية الإنسان، فالواقعية حسب ما يبدو فهي حصيلة تجربة و فهم امبريقي للسياسة.
و على خلاف المدرسة الواقعية، فقد أضافت تجربة الواقعية الجديدة و طورت نظرية العلاقاتالدولية، فقد قدم "كينيت وويلز" فيكتابه "نظرية السياسات الدولية " سنة 1979، مفهوما جديدا للسياسة الخارجية يقوم على فهم النظام و ليس الأشخاص أو الدول- كما نهج رواد التصور الواقعي-و كذا التركيز على دراسة المظاهر الاقتصادية الدولية، مع تطوير نظرية الاستقرار الهيمني، بمعنى الحفاظ على الوضع القائم، حينما تحاول قوة عظمى فرض مفهومها و تصورها على الجميع، كما هو الشأن بالنسبة لمبادرة تأسيس مؤسسات مالية دولية ذات طبيعة ليبرالية ( أوفاق بروتن وودز) لدعم تصورها و نظرتها الإيديولوجية.
أما بالنسبة لحالة الفوضى حسب هذا الاتجاه، فإنها تدفع الدول إلى تبني مواقف واقعية، و تبقى دراسة النسق العام أو النظام المتحكم فيالتفاعلات الدولية، هو من أولويات هذا المقترب، فيحين يحتل الدين،علم النفس، السياسة الداخلية و الاقتصاد مرتبة ثانوية.
دون التطرق لمميزات العديد من المقتربات النظرية، أعتقد أن كل براد يغم حاول تفنيد و تصويب بناءات و معطيات البراد يغم السابق، و هذا ما يفسر أيضا ظهور المدرسة السلوكية، البنائية، الليبرالية و غيرها من التيارات فيالعلاقاتالدولية (3).
فيكتابه المعنون ب "ماذا تفعل الدول بالفوضى" فيسنة 1992، دفع "الكسندر ووندت" بالمقترب البنائي إلى صف الرهان المفاهيمي للعلاقات الدولية، فهذا المقترب لم يحاول البحثفقط عن فهم التعارض القائم بين العقلانية و التأملية،و لكنه فتح المجال لإعادة التفكير فيالموضوعات المركزية لهذا التخصص من قبيل الفوضى فيالنظام الدولي،توازن القوى، المصلحة و النظام و دور المؤسسات.
و بالانخراط فيهذا المنطق، فان البنائية تعتمد على سوسيولوجيا التفاعلات مع تقوية مفهوم الهوية (4
.فهذا الاتجاه يركز على تأثير الأفكار، فبدلا من النظر إلى الدولة كمعطى مسبق و الافتراض أنها تعمل من أجل بقاءها، يرى البنائيون أن الهوية تتفاعل عبر عمليات اجتماعية( تاريخية)، كما يولون أهمية للخطاب السائد فيالمجتمع، لأن هذا الخطاب يعكس و يشكل فيالوقت ذاته المعتقدات و المصالح، و يؤسس أيضا لسلوكيات تحضي بالقبول ، فالبنائية تهتم أساسا بمصدر التحولو التغير، و هذه المقاربة حلت بشكل كبير محل الماركسية كمنظور راديكالي للشؤون الدولية.
أما بالنسبة للمقترب الليبرالي، و ضدا عن مجرى النظرية الواقعية و غيرها، فهو يعتبر الليبرالية هي الفكر المهيمن القادر على إنتاج الأبعاد التفسيرية الضرورية للعلاقات الدولية، فالتطور العلمي و التكنولوجيا المتقدمة و التحولات الاقتصادية، ساهمت بدورها فيإرساء قواعد متينة لليبرالية كنموذج فكري ازدهر بداية مع رواد مدرسة القانون الدولي أمثال جون بودان(1552-1608) و غروسيوس ( فيكتابه قانون الحرب و السلم سنة 1625)، هؤلاء عملوا على تمجيد الحرية الشخصية و تضخيم مكانة الفرد داخل الدولة و المجتمع و سيادة القانون على أطماع و أنانية الدول.
أما الليبرالية الجديدة، فقد تجاوزت الإطار الضيق للسيادة الوطنية، لتصل إلى وضع لبنات للتعاون الدولي على غرار دعم المنظمات و المؤسسات الإقليمية و الدوليةالتي ما فتئ دورها يتنامى بشكل كبير، ومن أبرز تياراتها الوظيفية و الوظيفية الجديدة، و يعتقد "ديفيد ميتيراني" أن ظهور هذه المنظمات هو تلبية حقيقية لرغبات وظيفية للرأي العام و التكنوقراط على وجه الخصوص الذين يحبذون السير فياتجاه المسار العبر الوطني، و يرجع الفضل فيذلك إلى ازدهار وسائط الاتصال و سهولة تبادل المعلومات، مما أدى إلى خلق بنية مشتركة تتمثل فيالمنظمات الدوليةالتي تتعهد بانجاز مهام الاتصال و التقارب بين الدول و الشعوب."
و ضمن تيار الليبرالية الجديدة، أشار" كارل دوتش" و هو يفكر من داخل حلقة الاندماج إلى دور التواصل و الإعلام بين الأفراد و الجماعات ، و سجل كل من" كيوهان" و" واي" أن العلاقاتالدوليةيجب أن تتجاوز إطار العلاقاتبين الكيانات الدولية، لتدخل غمار العلاقاتالعبر وطنية.
من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال نظريات أخرى دعت إلى تبني رؤى مغايرة حولالواقع الدولي، كنظرية التبعية التي طورها بعض مفكري دول العالم الثالث، و بموازاة مع ذلك برزت نظريات سياسية و أكاديمية حاولت تفسير المتغيرات الدوليةبعد نهاية الحرب الباردة، وتتنبأ بنوع و طبيعة الصراعات العالمية المرتقبة من قبيل مقولة نهاية التاريخ ا "فرانسيس فوكوياما" و مقولة صراع الحضارات ل "صامويل هانتغتون" التي تختزل الصراعات المقبلة فيالجوانب الدينية و الثقافية (5
فيالحقيقة، لا يمكن لمقاربة منفردة أن تدعي الإطلاق و الصرامة فياستيعاب و إدراك أبعاد التعقيد المميز للسياسة العالمية، فنحن إزاء مجموعة كبيرة من الأفكار المتنافسة، وليس إزاء تقليد نظري واحد، وهذا التنافس بين النظرياتيساعد على معرفة مواطن القوة و الضعف فيها، و يثير بالتالي التحويرات اللازم إجرائها عليها.
قراءات متعددة لنظام دولي واحد
لقد تعددت القراءات و التحليلات للأحداث الدوليةو النظام الدولي الجديد، كما أن أحداث الحادي عشرة من سبتمبر، دفعت بالعديد من المحللين إلى إعادة قراءة النظام الدولي، الذي بدأت ملامحه الأولى توحي ببوادر السيطرة و الهيمنة الأمريكية،" بداية بالتدخل الأمريكي بأفغانستان ووصولا إلى التدخل العسكري فيالعراق، بناء على ذلك، فان الأوضاع الجيوستراتيجية لما بعد نهاية الحرب الباردة، تتطلب أكثر من أي وقت مضى لإعادة صياغة البراديغمات التي تحتكم فيالسابق إلى منطق التنافسية الثنائية بين القطبين و الصراع على مناطق النفوذ بين المعسكر الاشتراكي بزعامة الإتحاد السوفيتي البائد و المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية."
إن هذه التحولات المركزية فيبنية النظام الدولي، لم تسلم من أثارها و نتائجها الاستراتيجيات الوطنية و الجهوية، و أفرزت العديد من القراءات لمحتوى و طبيعة هذه التحولات، فمن الدارسين من ألبس النظام صبغة الأحادية القطبية، و منهم من اعتبره أقرب إلى التعددية منه إلى الأحادية ، على أن العلاقاتالدوليةتعرف بعد نهاية الحرب الباردة العديد من التموجات الوقائعية و المعطيات الحاسمة، مما يعطي الانطباع أن النظام الدولي لم تكتمل صورته النظامية بعد (6
لقد عنيت مجمل هذه الدراسات بمعاينة نوعية التحولفيالنظام الدولي انطلاقا من مؤشرات أساسية و هي: تعدد الفاعلين، طبيعة النظام الدولي و نمط التفاعلات السائدة. فبعد انهيار طرف المعدلة فيالتوازن الإستراتيجي –الإتحاد السوفييتي-، أصبح الحديث عن التغيير فيبنية توزيع القوة الدوليةلصالح الولايات المتحدة الأمريكية، مع تسجيل صعود قوى اقتصادية جديدة كاليابان و ألمانيا و الصين(7.
كما أن "البعد الاقتصادي، أضحى من العوامل الأساسية المساهمة فيرسم ملامح الإستراتيجية الدولية، بما يتضح من عمق الهوة الاقتصادية و المالية بين دول الشمال و الجنوب، مما يدفع إلى البحثعن تصورات جديدة فيمجال السياسة الدوليةو الاقتصاد الدولي (8
.و تماشيا مع البعد الاقتصادي، "فان النقاش القائم حولكيفية التعامل مع الصين، يأخذ أبعادا متعددة ، ففيرأي إحدى المنظورات الواقعية، فان الصين تعد من إحدى النماذج الحديثة لتوجه القوى الصاعدة من أجل تغيير توازن القوى العالمي بأشكال يمكن أن تتخذ منحى خطيرا، وخاصة أن نفوذها المتعاظم يجعلها أكثر طموحا . ومن منظور اندماجي أخر، فان مفتاح التوجه المستقبلي للصين يتوقف على ما إذا كان سلوكها سيتغير بفعل اندماجها فيالأسواق العالمية و الانتصار للمبادئ الديمقراطية، أما من وجهة نظر صراعية و فيإطار سؤال الهوية، فان العلاقاتبين الصين و بقية العالم سوف تتشكل بفعل تأثير عوامل الثقافة و الانتماء للحضارة الكونفوشيوسية"، (فهل سينضر إلى الصين كعضو طبيعي فيالمجموعة الدوليةأو كمجتمع متميز يستحق معاملة خاصة.)
و بالطريقة ذاتها، نسوق مثالا توضيحيا حولالمقاربات النظرية "بشأن دور حلف الشمال الأطلسي قي إدارة الأزمات الإقليمية و الدفاع عن العالم الغربي، فالمنظور الواقعي يعتبر أن توسيع الناتو يندرج ضمن مسعى توسيع النفوذ الغربي فيما وراء المجال الكلاسيكي للمصالح الأمريكية الحيوية، و هذا مقابل تراجع النفوذ الروسي و تضيق الخناق عليه من طرف الغرب فيظل استمرار نظرة التوجس لهذا البلد، ففيحين لا يحاول الغرب إزعاج الصين، أو تعريض علاقته معها للتوتر،فانه لا يمانع فيإثارة حفيظة الروس و غضبهم ، مع فرض نماذج عديدة من القيود عليه استكمالا لحرب باردة قديمة (9".
"أما المنظور الليبرالي، فيرى أن توسيع الناتو سيعزز الديمقراطيات الناشئة فيأوربا الوسطى، و يساهم فيتوسيع نطاق الآليات الأطلسية فيإدارة النزاع فيمنطقة تبقى فيها الاضطرابات أمرا واردا.
أما من منظور الواقعية الجديدة، فان إدماج دول أوربا الشرقية (جمهورية التشيك، المجر و بولندا) ضمن المجموعة الأمنية الغربية التي تتقاسم أعضاءها هوية مشتركة يجعل من الحرب أمرا مستبعدا
التقاطعات المنهجية للمقاربات النظرية
لقد أصبحت الحدود الفاصلة بين هذه المنظورات غير ذات معنى، إضافة إلى أنها تتسم بالمرونة إلى حد بعيد، فإنها تعطي فرصة أكبر للتحكم العقلي و الاستفادة العقلانية من كافة الأطروحات و المقاربات. فما هي إذن المنظورات التي تلقي الضوء أكثر على الشؤون الدوليةالمعاصرة ؟ و أي منها الأقرب إلى الفهم و التطبيق من طرف محترفيو صانعي السياسة ؟
"يعتقد أن المدرسة الواقعية تبقى هي الإطار العام الأكثر شمولية و الماما بالواقع الدولي بالرغم من إبداء اهتمام كبير بعناصر أخرى كالصراع الحضاري ،الهوية والانتماء الثقافي، فان الدول ما زالت مستمرة فيإعطاء أهمية كبيرة لتوازن القوى، و ما زال القلق قائما بشأن احتمال حدوث نزاع شامل.
فبالرغم من تصاعد موجة العولمة و ارتفاع وتيرة الاعتماد الاقتصادي المتبادل، فان الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تلعب دور الدر كي فيوقت الأزمات ، إضافة إلى ذلك، فان الاهتمام بالقوة والأمن يفسر لنا السبب الذي جعل الأسيويين و الأوربيين يصرون على توسيع التواجد العسكري الأمريكي فيمناطقهم مع صياغة مفهوم جديد للأمن ينسجم مع رغبة القوة العظمى و تصميمها على البقاء فيوضع المهيمن ،حيث فرضت سلسلة من الاتفاقيات الأحادية الجانب لمراقبة التسلح ضد روسيا، وهيمنت على مساعي السلام فيالبوسنة، و أصبحت منشغلة بشكل متزايد بالقوة المتعاظمة للصين."
بالرغم من دعوات الولايات المتحدة الأمريكية المتواصلة للارتكان للوساطة والمساعي الحميدة المتعددة الأطراف، و إعطاء دور أوسع للمؤسسات الدولية، فإنها تتعامل مع الأمم المتحدة و منظمة التجارة العالمية مثلا بعدم اهتمام، كلما تعارضت توجهاتها مع مصالحها، فقد رفض الأمريكيون الانضمام إلى المجموعة الدوليةلحضر الألغام الأرضية المضادة للأفراد، تماما كما رفضوا التعاون فيقمة الأرض ب "كيوطو"، كما لا يخفى على أحد الموقف الأمريكي بشأن الصراع العربي الإسرائيلي المنحاز كليا لإسرائيل، التي أقدمت فيالآونة الأخيرة فيسابقة من نوعها إلى اعتقال وزراء و نواب فلسطينيين من قطاع غزة، تأكيدا لسياسة القوة و الكيل بمكيالين.
"و أخيرا فان هذه المقاربات المتقاطعة من الناحية المنهجية، ترصد جوانب هامة فيالسياسة الدولية، و فهمنا قد يعتريه بعض القصور ادا ما انصب اهتمامنا على إحدى المنظورات دون الأخرى، و لهذا فان الدبلوماسي أو صانع القرار يلزم عليه أن يتوفر علي ميزات خاصة أبرزها الدراية الأكاديمية و الفهم العميق لهذه الاتجاهات التي تكمل بعضها البعض، فادا كان لا ينبغي له أن يتجاهل أهمية عنصر القوة، فانه إلى جانب ذلك يجب أن يؤمن بدور القوى الوطنية و دور المؤسسات الدولية، و أن يقتنع أيضا بإمكانيات التغيير و التحولحسب المنظور البنائي
الهوامش
1. اللغة العربية فان لفظ النظرية مشتق من النظر الذي يحمل فيدلالاته معنى التأمل العقلي و كلمة النظرية باليونانية تحمل معاني التأمل و الملاحظة العقلية، و فيالفرنسية فان كلمة النظرية هي بناء أو نسق متدرج من الأفكار، يتم فيه الانتقالمن المقدمات إلى النتائج، و تكاد الدلالة اللغوية تقترب إلى حد كبير من المدلول الفلسفيللنظرية، فهذا ابن رشد يربط النظر بمفهوم الاعتبار، ولما كان الاعتبار هو القياس ، فان النظر العقلي هو أفضل أنواع البرهان لأنه يتم بأفضل أنواع القياس. أما لالاند، فيعطي للنظرية بعدا فلسفيا يقترب كثيرا من الدلالة الفرنسية، فالنظرية عنده تتعارض مع الممارسة، وتتقابل مع المعرفة العامية، لأن هذه الأخيرة معرفة امبريقية، وتتعارض أيضا مع المعرفة النفسية،لأن النظرية بناء فرضي استنتاجي وتتعارض مع المعرفة الجزئية لأن النظرية بناء شمولي.
JEAN LOUIS MATRES : DE LA NECESSITE D’UNE THEORIE DES .2 RELATIONS INTERNATIONALES, COLLECTIONS « AFRI », VOLUMME IV, 2003,PAGE 20.
JEAN LOUIS MATRES : DE LA NECESSITE D’UNE THEORIE DES .5 RELATIONS INTERNATIONALES, BIS, PAGE 21.
VOIR ANN TICKNER : GENDERING WORLD POLITICS, COLOMBIA .3 UNIVERSITY PRESS, NEWYORK.2001.
ALEXANDER WENDT: CONSTRUCTIVISME ET REFLEXIVISME EN .7 THEORIE DES REALTIONS INTERNATIONALES, COLLECTIONS AFFRI, ETUDES POLITIQUES, JURIDIQUES ET APPROCHES THEORIQUES, VOLUME III, ANNEE 2002, PAGE 2
JEFFERY T « THE CONTRUCTIVST TURN IN INTERNATIONAL .8 RELATIONS”, WORLD POLITICS, VOL 50, N°2, 1998 PAGES 324 ET 348.
.4 ادريس لكريني، العالم بين الفوضى و وهم النظام، مقال منشور فيالمجلة الإلكترونية حوار متمدن العدد 1549 بتاريخ 13-05- 2006
.5جيمس دورتي و روبرت بالستغراف، النظرياتالمتضاربة فيالعلاقاتالدولية، ترجمة وليد عبد الحي، كاظمة للنشر و الترجمة و التوزيع-الصفحة الأولى سنة 1985.
.6محمد عصام لعروسي، السياسة الخارجية المغربية إزاء العالم الإسلامي-مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة-أطروحة لنيل الدكتوراه فيالقانون العام، سنة 2006 ، جامعة محمد الخامس أكدال، الرباط، صفحة 214.
MOHAMED JARI : LES TENDANCES DU SYSTEME INTERNATIONAL .12 POST-BIPOLAIRE, RAPPORT ANNUEL SUR L’EVOLUTION DU SYSTEME INTERNATIONAL 1997 PAGE 2.
ZAKI LAIDI : « PENSER L’APRES GUERRE FROIDE », IN ZAKI LAIDI, .7
L’ORDRE MONDIAL RELACHE, SENS ET PUISSANCE APRES LA GUERRE FROIDE, PRESSE DE LA FONDATION NATIONAL DES SCIENCES POLITIQUES, 1992 PAGES 41.
.8راجع جميل مطر، تطويع الخصم، الضغوط الغربية على روسيا، مجلة المستقبل العربي العدد 323، كانون الثاني، يناير 2006، ص 53
PIERRE HASSNER : L’AMERIQUE ET LE MONDE, THEORIE ET .15 PRATIQUE, ETUDES INTERNATIONALES, OCTOBRE 1998, PROSPECTIVES SUR LE MONDE, PAGE 302.
VOIR JEAN ANN TICKNER : REVISIONING SECURITY OF WORLD .16 POLITICS, FOREIGN AFFAIRS, VOLUMME 8, 1998.
.9للاطلاع على بعض وظائف الدبلوماسية راجع، السفير إبراهيم يسري في، حتمية تجديد الدبلوماسية العربية، مكتبة مدبولي، 1998 ص34.