جمعان جديدان:
جمع المخنث السّالم،
وجمع المسترجل السّالم !
تأملت حال الناس اليوم و تنوعهم و اختلافهم شكلا و مضمونا، و رأيت أن العربية قد وسعتهم لفظا و معنى، و قد لاحظت فشو بعض الأجناس التي كانت نادرة في وقت ما، و كانت تعتبر شذوذا في المجتمعات، و الشاذ يحفظ و لا يقاس عليه كما يقول أهل اللغة، أما اليوم فقد جعل منها انتشارها ظواهر عادية أو هي في حكم العادي، قد تبدو كأنها الأصل المطرد و غيرها الشاذ النادر فتألّمت ! و وددت لو أنني أجد في اللغة العربية جموعا لتلك الأجناس تدل بمبانيها على معانيها، أو تشير بصيغها إلى صورها، و من تلك الأجناس جنس المخنثين و هم المتشبهون بالنساء من الرجال، و جنس المسترجلات و هن المتشبهات بالرجال من النساء و لاسيما في أوساط المثقفين و أشباههم عندنا ! و أخذت أفكر في ذلك الصنف من الذكور الذين يشبهون الرجال و ليسوا رجالا، كيف يمسخون أنفسهم جنسا لا هو بجنسهم الأصلي و لا هو بالجنس الذي يحاولون الدخول فيه و اللحاق به، فأصبحوا بين هذا و ذاك كالغراب الذي حاول تقليد القطاة (نوع من الحمام البري) في مشيتها فأضل مشيته و أخطأ مشيها و صار معروفا بمشيته المضطربة المميزة له بين مشيات الطيور الأخرى، كما قيل :
إن الغراب و كان يمشي مشيـة فيما مضى من سالف الأجيال
حسد القطا و أراد يمشي مشيها فأصــابه ضرب من العقال
فـأضل مشيته و أخطأ مشيهـا فــلذلك كنّوه "أبا مرقـال"(*)
و إن حال الغراب في نظري لأهون بكثير من حال أولئك حيث لم يغير جنسه إلى جنس القطاة بل ما حاول إلا تقليد مشيتها فقط، فهو بهذا لأعقل منهم و أرشد !
و ذلك الصنف من النساء اللواتي تجردن من أنوثتهن تجردَهن من قمصانهن فصرن جنسا مأفونا ازددن نقصا إلى نقصهن، بل صرن جنسا معفونا تعافه النساء الحقيقيات قبل الرجال.
و رحت أطلق العنان لخيالي و قلت في نفسي:" لو سألت اللغة العربية عن ألفاظ تكون جموعا لهذين الجنسين لعلي أجد عندها بغيتي !"
فقصدت مجلسها العامر و كان مُغتصًّا بالعلماء و الباحثين و المحبين العاشقين مثلي، و كانت هي تتصدر المجمع الكريم مستوية على عرشها الملكي في كمال و جلال جميلة أنيقة يعلو محياها السمح طمأنينة الثقة في النفس و سكينة الأنس بالجلساء، و رغم ذلك كله كان في عينيها النجلاوين مسحة من الحزن الدفين المكظوم و المفهوم، فلما رأيتها في أزهى حلة و أبهى خلة جرأتني بشاشتها على مساءلتها بعدما حييتها بأدب و قدمت لها فروض الولاء و الوفاء قائلا:
- كيف تجمعين ـ يا سيدتي ـ المخنثين من المثقفين ؟
فأجابتني عفوا و هي تبتسم ابتسام الأم الرءوم : المثقفونات !
فقلت لها متعجبا : ما هذا الجمع الغريب؟
فقالت و هي تضحك : إنه جمع المخنث السالم !
فضحكت لضحكها، ثم قلت بعدما استهواني الفضول و راق لي الحديث : و كيف تجمعين المسترجلات من المثقفات؟
قالت : المثقفاتون!
فقلت لها : و ما هذا الجمع الآخر؟
قالت : هو جمع المسترجل السالم! و ضحكنا معا هذه المرة و استأذنتها إذ راق لي المقام و أغراني تواضعها على إتمام مقالتي هذه عندها فأذنت لي كريمة و هذه حالها.
إنني أعتذر إلى اللغة العربية و إلى علمائها الغُيُرِعلى هذه الجرأة إذ أنطقتها بما ليس فيها، و ما قصدت إلا ممازحتهم و التنادر(**) على أولئك الممسوخين فكرا و ثقافة و الذين تنكروا لجنسهم فما بلغوا قصدهم و لا هم حفظوا أصلهم، و قد سبقني إلى هذا الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رحمه الله تعالى، ريئس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في وقته و خليفة الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى، حيث تنادربالمخنثين في أحد مجالسه الأدبية فصاغ الجمع الأول و نسجت على منواله و قفوت أثره في طريقته، و تقليد الكرام فلاح، فصغت الجمع الثاني، و بعد هذه الفذلكة الطريفة يتبادر إلى ذهني حقيقة أخرى و هي إن كانت اللغة العربية قادرة على صنع النوادر و اختراع المُلح (جمع مُلحة) في المزاح المباح فهي على صنع الأسماء في العلوم و المخترعات أقدر، و قد وسعت كتاب الله لفظا و غاية فكيف تعجز عن وصف آلة أو تنسيق أسماء لمخترعات؟ على حد قول حافظ إبراهيم رحمه الله. (ّ***)
______
(*)الأبيات الثلاث منقولة حرفيا من كتاب "جواهر الأدب" للسيد أحمد الهاشمي، رحمه الله، الجزء الأول، ص183 طبعة مؤسسة المعارف، بيروت لبنان، و ليست من نظمي فلست شاعرا.
(**) تنادر : حدّث بالنوادر (المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بمصر، مادة "ندر").
(***)أرجو من الإخوة الذين يقرؤون مقالتي هذه ألا يبخلوا علي بنقد أو نصح أو ... عتاب و رحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي !