«قوس قزح.. ومشكلات المجموعات المشتركةتُوقِع المجموعات المشتركة الدارس بالحيرة، وبعض الارتباك.. فهل يدرسها على أنها تحمل اتجاهاً فكرياً واحداً أو متقارباً؟ وهذا لا يحصل في مجموعات شخصية.. حيث تتعدد الرؤى، وتختلف الأفكار من حين إلى حين.
هل يدرس النصوص على أنها متقاربة فنياً.. وآليات كتابة؟.. أيضاً هذا لا يصحّ.. فقد تتنوع آليات الكتابة في المجموعات الفردية وتختلف بين نص وآخر.
هل يدرسها على أنها تحمل هماً موحداً أو متقارباً..؟.. وهذا لا يصحّ أيضاً فالهموم متنوعة، كما أن دراسة مثل هكذا مجموعات مشتركة، وفق الأسس السابقة أو بعضها، قد يغبن بعض المشتركين ممن ينفردون بخصوصية ما، قد يكون الحل الأكثر سلامة، ولكنه من غير المثالي تناول القصص قصةً- قصةً، على ما في هذا الحل من نوع من الابتسار، والاختصار المخل، الذي قد يجور على بعض النصوص، ولكنه الحل الأكثر سلامة، فمن حق كل مشترك أن يتعرف على نتيجة عمله ويطمئن إلى مستوى ما قدّمه سلباً أم إيجاباً.
اشترك في هذه المجموعة «قوس قزح» سبعة عشر قاصاً وقاصة أو هاوياً وهاوية، وتفاوتت فيها المستويات إلى درجة التنافر والتباعد بين تجارب تمتلك أدوات الكتابة القصصية، وتجارب بدت وكأنها في طور الهواية والتدريب، وتجارب لم تعبّر عن السوية الحقيقية لأصحابها، لسوء في الاختيار ربما، أو لتسرع فيه، على الرغم من غنى تجربة هؤلاء في الكتابة، ومعرفتهم بأساليبها وتقنياتها، وسأرافق النصوص الواردة وفق ترتيبها الذي جاءت عليه، معتمداً على الإلماح والاختصار، لأتمكن من استيفاء النصوص جميعاً.
النص الأول.. لإحسان شرباتي «مقعد فارغ» وقد اعتدنا أن نقرأ للسيدة إحسان نصوصاً تمتلك لغة أدبية عالية، تتمتع بحساسية تجاه الكلمة والعبارة.. فتحمّلها شحنات وجدانية عالية، وهذه طريقتها المفضلة في الكتابة، التي لا تستطيع أن تحيد عنها بسهولة، ولا يشذ نص «مقعد فارغ» الوارد في المجموعة عن هذه القاعدة، فالبطل الحقيقي هو اللغة العالية المشحونة بكم كبير من العاطفة، بحيث تستدر تعاطف القارىء مع البطلة، التي أحبت وأخلصت لوعدها وسرعان ما أصبح مقعد الحبيب فارغاً إلا في قلبها ووجدانها.
الحكاية بسيطة، تحمل طابع الحزن.. وتلعب التفصيلات دوراً مهماً في بناء الأحداث وتعزف على وتر الذكريات بحساسية بالغة، وتتوسل لغة جميلة حساسة «كلما أوغلت الدقائق في أحشاء زمني، كان قلقي يتناسل شهيقاً مرعباً تزفره أنفاسي» المجموعة «ص 8».
غيوم في نهار حار
النص الثاني. «غيوم في نهار حار» للقاص «أحمد جميل الحسن» لا يخرج في نصه هذا عن أسلوبه الواقعي المعتاد، الذي يمتح من الحياة، ومن التجربة الشخصية بشكل مباشر، وتظهر من خلال النص معرفته اللصيقة بأجواء المعارك والمناورات الحربية من خلال معايشة حقيقية لها «رشقات كثيفة من الصواريخ تخترق الأفق من الشمال إلى الجنوب.. تبعتها صليات رشاشات غطّت سماء المكان» المجموعة «ص 19».
يُحمد للقصة أنها جعلت الخاتمة تفيض بالأمل على الرغم من الشهادة، فليس ثمة نهاية، لأن الشمس لم تغب «زحف قليلاً نحو الماء، أوقفه النزف، حدّق ملياً، رأى مزق العصافير المتناثرة حول بركة الماء الصغيرة نظر إلى السماء، أبصر القرص البرتقالي، ما زال يضيء السماء، همس قبل أن يطبق جفنيه: لم تغب الشمس بعد..» المجموعة «ص 20».
هي قصة جيدة من حيث الفكرة والصياغة.. وتعد خطوة في مسيرة أحمد جميل الحسن القصصية، حيث تطورت لديه فيها معالجة الشخصية من الداخل، مع التركيز على بعض تقنيات الاسترجاع والمناجاة، التي أغنت الحدث والقصة.
النص الثالث.. «أحزان معتّقة» لأحمد سعيد العمري.. نص يقع في جادة الهواية، ويبتعد عن الاحتراف.. فالنص مليء بالهفوات المعنوية والفنية.. واللغوية أيضاً.. ويعتمد النص على البكائية، وتتوسل موضوعة «الشهادة» لتكون رافعاً معنوياً للقصة، ولكنها لا تنجح في ذلك.
تستغرق القصة في ذكر التفصيلات وتستفيض بالشرح.. بشكل لا يخدم تقدّم الحدث أو يفيد في إعطاء أبعاد للشخصيات، فتنتفخ الأسطر دون أن نرى طحناً.. ففي غرفة المشفى تستغرق الشخصية الرئيسية في استعراض أشياء الغرفة بدقائقها الصغيرة، بينما المنطقي أن يتوجه انتباه الشخصية نحو النعش المسجّى فيه والده.. «في المشفى، غرفة واسعة، بأضواء شاحبة، فيها طاولة كبيرة بأربعة قوائم حديدية، استراحت عليها بلاطة من الرّخام المصقول، لونها عاجي مائل للاصفرار..» المجموعة «ص 25».
ماذا أضافت مثل هذه التفصيلات للقصة؟!.
وربما يحرف هذا الانفلاش القصة ولغتها نحو لغة ألصق بالرواية.. والغريب أن الشخصية الرئيسية لم تستجب لطقوس البكاء والحزن لأنها أكبر من رأسه الصغيرة، ولكن هذه الرأس الصغيرة، لاحظت الطاولة المائل لونها العاجي للاصفرار ولاحظت قوائمها الأربعة، وبلاطة الرخام.. كيف تفرّغت هذه الرأس لمثل هذه الملاحظات الدقيقة، بينما والد الشخصية مسجّى، ويحوطه البكاء والنواح، لو كان السارد حيادياً، لكان ثمة تسويغ لهذا كله، ولكن السارد هو الشخصية ذاتها.
النص يحتاج إلى إعادة نطر، بل إعادة كتابة، مع إعادة ترتيب للأحداث بشكل يتناسب مع تقنيات القصة القصيرة.. ولغة القصة القصيرة.
وصية زوج
النص الرابع.. «وصية زوج» لـ خليل صالح النابلسي، تتوسل القصة بالانتفاضة وبقضية نضال الشعب الفلسطيني، وتقوم على جزئية مهمة وبسيطة وهي استبدال اسم المولودة الموعودة.. من مريم على اسم أم الزوج إلى «جنين» على اسم المخيم المناضل ليصبح الوطن هو الأم.. الفكرة جميلة، ولكن المعالجة رديئة، حيث يقع الكاتب بمطبات تحيل النص إلى موضوع في الإنشاء، حيث يلجأ إلى الاستشهاد بالآيات القرآنية من سورة الحج ص 28، كما يستخدم اللغة بشكل مجاني ص 29 «وضعت فاطمة حملها، أخبرتها الممرضة بأن ابنتها جميلة، رشيقة- حلوة» المجموعة «ص 29».
نستطيع أن نفهم جميلة وحلوة، لكن رشيقة، كيف نفهمها؟!.. ففي المعجم رَشُق، رشاقة- حَسُنَ قدُّه ولطف- ورشق عمله خف وأسرع، فأين الرشاقة في مولودة منذ دقائق معدودة؟!.
النص يقوم على الشعاراتية، ولا يحمل أيّ بعد وجداني عميق، وحامله هو رضا الأبوين أن تحمل الطفلة اسم المدينة الصامدة.. دون أن يستطيع الكاتب تعميق القضية وجدانياً، ليشكل تخلي الأب عن الاسم، الذي خطط ليكون لابنته القادمة، حدثاً مؤثراً واستثنائياً.
في نصي ريمة الخاني «حالة خاصة» و«أوراق مبعثرة» نلحظ ضعف الكتابة وضعف اللغة وعدم القدرة على بناء الأحداث، والتعثر في الصياغة والوقوع في الأخطاء اللغوية والنحوية، كما ورد في الصفحات 32- 33- 34 من ذلك «سؤال كان يتردد بينه وبين نفسه، وكم حاول أن يصل إلى الجواب وهو يصبو إلى عينيها الجميلتين» والكلام عن زوجة الشخصية الرئيسية.
صبا إلى الشيء: حنّ وتشوق، ولا حاجة لاستعمالها والشخصية تتحدث عن زوجه.. ويكتفي في مثل هذه الحالة- أن تقول وهو ينظر إلى عينيها الجميلتين، وهذا ما أدّى إلى الوقوع في المبالغة الميلودرامية، التي هُجرت في الكتابة منذ أمد بعيد، كما وقعت في أخطاء النحو.. تقول: «عندما استقبلت رئتيه نسيماً نظيفاً..» المجموعة «ص 34»، والصحيح- استقبلت رئتاه نسيماً نظيفاً.
كما تقع في المبالغة وفيما يدعى بـ عدم مناسبة الحوار أو الخطاب للشخصية، فالطفلة الصغيرة التي يصعب عليها حال أبيها تخاطبه: «حرام عليك ما تفعله بنفسك يا بابا.. لو أنك ترافقنا في مشاويرنا لأحسست بالمتعة، وخرجت من دائرة الملل، التي تربطك في دائرة مغلقة».
إن هذه الطفلة ستكون فيلسوفة أو محللة سياسية على الأغلب؟!.. إن مثل هذا الخطاب المثقف لا يتلاءم مطلقاً مع طفلة مهما أوتيت من عبقرية الخطاب.. ثم ما هذه النهاية التي تصل إليها القصة، أن يكتشف الزوج أن ثمة أشياء كثيرة وجميلة تفوته، وهو غارق في العزلة والجنون والكتابة؟!.
إن السيدة الخاني تحتاج إلى مساعدة حقيقية إذا ما أرادت أن تتابع الكتابة القصصية، فالقصة القصيرة، جنس صعب ويحتاج إلى التمرس والتجربة والثقافة والموهبة والعمل الدؤوب على اللغة والصياغة.
زغب الشمس
نص «زغب الشمس» لـ سعاد عرسالي.. نص محيّر، ففي النص سمات لغوية جيدة، إلا أن الكاتبة كانت تقع في مطب اختراق اتساق السرد، والخروج إلى لغة تقديرية غير صالحة للسرد والقص، كما في «ص 41»، حين يشعر المتلقي أنه أمام نشرة أخبار أو مقال صحفي مغرق في التقريرية.
في حين أن لغة السرد تبتعد عن هذه الحدة التقريرية باتجاه المرونة والانزياحات، التي تعطي اللغة السردية أدبيتها وتبعدها عن جفاف اللغة التقريرية العلمية.
في نص «سرّ النّغم» لـ سليم عباسي: يقوم هذا النص على ما يدعى بالحكاية الرمزية، وهو أسلوب قديم يقوم على المبادلات البسيطة، فإسرائيل هي الأفعى «التي تحقن بالسم الزعاف تربة المسجد الأقصى، وتدنس قدسية الأرض»، وآشور رمز للمقاومة التي ستدوس الأفعى، والمزمار البوق الإعلامي لإسرائيل في أنحاء العالم، إنه أسلوب بسيط استخدمه كثيرون منذ إيسوب إلى السيد المسيح إلى ابن المقفع، ولكن الكاتب لم يستطع إضافة شيء وظل بعيداً عن التأثير الوجداني بالمتلقين.
نص «ربيع ورغيف خبز» لـ سوزان إبراهيم: امتلك النص الشروط الأولية لتصنيفه ضمن جنس القصة القصيرة، الناجحة، على الرغم من أن اللغة التي استعملتها الكاتبة توحي بالسرد الروائي، ولكن القصة موفقة إلى حد جيد من حيث الحدث والفكرة، والقدرة على تعميق سمات الشخصية، إضافة إلى الخاتمة الموفقة.
وفي نص «وصية» لـ عبد المالك أبو رقطي: إنه نص يقترب من الخاطرة ويبدو أنه متأثر بالأدب الجبراني، عندما يلتقي بأحد الجبايرة ويبث من خلال حواره معه، مجموعة من الوصايا، التي يريدها الكاتب أن تصل، فالمقولة الرئيسية في النص هي: ضرورة الجهاد والعمل للعودة إلى الوطن مهما كانت التضحيات، إن الفكرة في القصة القصيرة مهمة، ولكنها لا تصنع قصة وحدها، مهما كانت عظيمة وذات قيمة عالية، فثمة آليات ولغة وتقنيات يحتاجها الكاتب ليصل بنصه إلى مستوى القصة القصيرة.
بين رصيفين
نص «بين رصيفين» لـ عدنان كنفاني، عرفت عدنان كنفاني قاصاً متميزاً وقد قدّم في هذا النص نفسه بشكل أقلّ ما عرفته، على الرغم من أن القصة حساسة وتعتمد تقنيات الحكاية الرمزية، إلا أنه استطاع أن يوصل فكرته إلى المتلقي «الجوع الذي يحاصر المتعبين، وتزاحم الناس الفقراء على اقتناص فرص الطعام، الذي بات نادراً بعد أن نهبه أصحاب المراكز والأموال.. قصة تمتلك التقنيات ولا تقدم الصورة المثلى للقاص عدنان كنفاني.
نص «أحلام حنظلة» لـ محمد خير إبراهيم عواد، فكرتها ثورة رومانتية فردية يدفع إليها الجوع، مما يجعل الحسّ الوطني في المقام الثاني بعد الجوع وإرواء حاجات أساسية للبطون الخاوية، ثم يتوسل النص بالشعارات مما يسيء إلى النص.. فلا يصل إلى وجدان المتلقي ويبقى خارج التأثير»، بعض قنابل تتفجر قريباً من الصغار، الصامدين، يستمدون صلابة العزيمة من إيمانهم بعدالة حقهم ووجودهم تحت الشمس» المجموعة «ص 80»، «مؤمنين في كل وقت بأن حدود أرضهم تمتد على اليابسة بين النهر والبحر» ص «81»، «جسداً واحداً.. ولن يكون لجبّة الليل طول بقاء، بل سيضيء القمر بيوت البؤساء» ص «81»، هذا الإغراق في الشعار أخرج السرد من منطقه إلى حالة خارجية.. أبعدت المتلقي من الاستغراق في الحدث ومتابعته مما أضعف تأثير القصة وجعلها تقترب من خطبة سياسية في حشد متحمس.
نص «درس لا ينسى» للسيدة هدى حنا.. نص يأخذ من الذاكرة الحقيقية يستغرقه عنصر الاوتوبيوغرافي، مما يبعده عن فنية القصة ويقرّبه من الحكاية الوعظية.
نص «أم نجيب» لـ هدى طه الكسيح.. نص يعتمد على الاوتوبيوغرافي مع التأكيد على الفكرة الإصلاحية.. الدينية، فإصلاح المجتمع يتم بالإحسان وتأكيد فكرة أن الخير لا يضيع وأن المعروف سيجد الوقت الملائم ليقابل بالمعروف، المعالجة اصلاحية وغير ناضجة فكرياً، فإصلاح الحال يتم من خلال قيام المؤسسات بمسؤولياتها للتخفيف من الفقر والعوز عند الناس ولا يحل عن طريق الإحسان، فكم واحداً من الناس سوف يقدّمون الإحسان.. وكم من الناس المحتاجين سوف تسوّي أوضاعهم حسنات المحسنين؟!.
إضافة إلى تأكيد الكاتبة على فكرة العطاء، الذي ذكرته مرات عديدة ص99- 101- 102، مما أوحى إلى المتلقي أن الكاتبة تريد إشهار إحسانها ليس إلا، وقد تحقق لها ذلك.
بدت خاتمة النص فيها بعض التوفيق على الرغم من أنها متوقعة، إلا أنها شحنت ببعض التوتر مما أعطاها نوعاً من المشروعية والفعل.
نص «المرهب» ليوسف الأبطح، وقد عرفناه روائياً مجيداً.. ولا أعرف لماذا يعود الأبطح إلى الرومانتية، التي سادت كتابات كتّاب عصر النهضة في مطلع القرن العشرين، كالمنفلوطي، والمازني، ومحمود تيمور، فالنص يفتقد إلى الحدث.. والمعالجة كانت رومانتية تعرض حالة إنسانية تذكر ببعض الزوايا الصحفية.. في صفحة الحوادث أو المجتمع، إضافة إلى سقطات لغة لا تجدر بكاتب مثل يوسف الأبطح.
نص «شجرة العائلة» لـ د. يوسف حطيني: قصة جيدة تمكنت من أدوات القصة، تقوم على استخدام حسن المفارقة، ففي بيئة يسود فيها الأقوى والأغنى.. الجميع في سلة واحدة.. هي سلة الحمير، لأن فوق كل قوي.. هناك الأقوى، وفوق كل غني هناك الأغنى.
المعالجة موفقة إلى حدّ بعيد.. الفكرة سياسية اجتماعية.. تدعمها حادثة إنسانية تتمثل في بكاء صابر بعد أن أدرك أن القوة والسيطرة والتعسف.. تصنع حميراً لا أكثر.
قوس قزح «مجموعة قصصية مشتركة» صادرة عن اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين.
د. غسان غنيم
http://www.albaath.news.sy/user/?id=589&a=54212