القصة القصيرة ق ق ج في الميزان:
القصة الومضة كما يحلو لبعض الأدباء تسميتها, القصة ذات اللقطة الخاطفة السريعة.
هي نمط قصصي جديد فرض نفسه على الساحة الأدبية بقوة وسلاسة ونجاح منقطع النظير.
ربما نستطيع جوازا أن نقول هو وليد وابتكار الشابكة الالكترونية مسايرة لعصر السرعة ولرغبة القارئ بالوجبات السريعة المطلوبة حديثا وربما قبل ذلك ولكن الأرجح القول الأول.
فهل هي وليدة شرعية للقصة القصيرة التي نعرف؟
وقد حفلت بها المواقع العربية وبالأخص المنتديات الأدبية حيث قدمت نصوصا تملك من الجزالة وقوة التأثير ومقدرة على تصوير الواقع العصري المعاش باقتدار وجدارة,
وسهولة في العبور لفكر المتلقي مما ينم عن نمط نترقب استمراريته وحضوره بقوة على الساحة الأدبية,وفقا للكيفية التي ظهر بها:
يتميز نمط القص ق ق ج بالتالي:
1-الفكرة :التي يحوم حولها القاص من البداية والتي يجب أن تكون قوية كفاية كي تجذبه فورا.
2- اللغة :المدهشة الفريدة , والتي تستطيع أن تمسك بخطام السهل الممتنع .
3- الأسلوب القوي :الذي يستطيع عبور أقصر الأسطر للوصول للفكرة.
4-الهدف :والذي يقيم فكر القاص وعلوه ثقافيا وهو تقييم خطير لفكره أولا وأخيرا.
5-الرمزية :فالوضوح عبر هذا النمط الصعب غير مطلوب غالبا إن لم نقل دوما.
6-التكثيف :ويعد دعامة أساسية من دعائم القص القصير جدا حيث أن الاختزال المطلب الأول فيها.
7-الشاعرية :وهو يبوب في الدرجة الثانية حيث يمكن للقصة أن تملك تدني في هذا العنصر إن كان الهدف والموضوع المعالج جديا ويحمل قصية حساسة وكبيرة,...ورغم هذا يبقى عنصر مهم للتواصل مع القارئ.
8-القفلة الحادة :وهنا يكمن ويكشف مدى براعة الأديب في تخطي التكثيف ليصل بنا إلى العمق المطلوب في النص المختزل.
لايمكننا التقييم وبقوة حاليا عبر المعطيات التي بين أيدينا, لأنه مازال قيد النمط التجريبي إن لم نقل أن هناك أسماء بدأت تظهر على الساحة الأدبية بقوة:
من رواد القصص القصيرة جداً حاليا , والتي ظهرت من عدة سنوات خلت فقط:
الأدباء: سمير الشريف -عبد الرحيم محمود--معاذ العمري- ياسمين شملاوي -حسن الشحرة -علي جاسم-سحر أبو حرب-حسن لشهب-محمود أبو اسعد-إيهاب هديب-الأديب الراحل الشربيني خطاب.
تلك شرائح من شتى بقاع الوطن العربي الحبيب.
ويضيق المقام عن ذكر الكثير من الأسماء,فروادها رغم كثرتهم عبر الشابكة إلا أن النجاحات التي حققتها حاليا لدى رصد دقيق تعتبر قاصرة عن التقييم الحاسم.
فهي مازالت عبارة عن محاولات للوصول للشكل النهائي أو المرضي وقد تراوحت بين ترهل لافت واختزال غارق في الغموض ونجاح في توصيل الفكرة المرصودة وتكثيف يعمي مسار القصة.
ومازلنا نتتبع تلك النصوص التي تزداد تبلورا واستيلاد لأسماء جديدة تأتي وبقوة لعالم القص المشوق هذا, والتي تلقى من المتلقي متابعة لافتة.
وقبل أن نفرد لها قسما من النص لوضع شروطا لها او لنقل العناصر التي كانت واضحة فيها بجلاء,كان للأدباء قصب السبق في تحديد معالمها الواضحة التي نبحث بشكل عام, ولكي تكون خطوطا واضحة كان لهم الأسبقية في رسم خطوط ملامحها الجميلة,
ليسير وفقها الأدباء الجدد,أو يقيموا ما كتبوا بنجاح.
لنستعرض نصوصا منها نعتبرها مسار البحث في دراستنا تلك:
ثعلبة وذئب/سحر أبو حرب الفائزة بجائزة القصة القصيرة في إذاعة البيبيسي)
أحبت ثعلبة يوما ما ذئبا فأكلها..
***
نص قوي صياغة , و مختزل دون غموض مزعج ,وواضح كمعالم عامة تظهر المكر الإنساني بسلاسة وقرب للمفاهيم العامة:
بدأت القصة بثعلبة وهي رمز المكر والقوة والدهاء...
أحبت: فعل وسلوك عاطفي يجسد الأنثى وفكرها النافذ..وهنا سير القصة.
يوما ما: فهو فعل مؤقت مفاجئ جديد وطارئ...
ذئبا: وهنا تكمن أول الدهشة أنها أحبت ذئبا وهو يفوقها مكرا ً دهاء...
فأكلها: انتهت القصة بالعقدة وهنا سر نجاحها.ليتساءل القارئ لماذا؟
***
"تعب"/سمير الشريف
عاد من عمله يتأرجح تعبا،مشّط بعينيه كوكبة الناس الذين تجمهروا،سأل بحركة من رأسه، تبرع أحد الذين يملأ الغضون وجوههم صارخا.
:- سارق النهار يوقع الحد على سارق الليل.
***
عاد من عمله يتأرجح تعبا:تعبير قوي وبداية موفقة جدا..وصورة جديدة
مشّط بعينيه كوكبة الناس الذين تجمهروا:مشط هنا تعبير صورة من بعيد لبطل القصة ونظره ثاقبة تملا المتلقي تفكيرا لأبعد منها
دفعه فضول الاستكشاف :تعبير طبيعي من جراء الجملة السابقة
سأل من يقف بجانبه بحركة من رأسه:وهذه تكملة لسابقتها...
تبرع أحد الذين يملأ الغضون وجوههم صارخا:تتمة...
:- سارق النهار يوقع الحد على سارق الليل:
كانت هنا الجملة الغامضة التي تميز نصوص أديبنا الكبير سمير الشريف والتي تترك القارئ نهما لمعرفة التفاصيل
فنية عالية ولقطة مميزة
*********
حياة /ياسمين شملاوي
انسل من ثقب الباب مسرعًا ..
استوقفه المِفتاح الحائر ..
أين أجد بوابة الخلود ..؟؟
أشار إلى المقبرة القريبة ..
هناك يا صديقي .. حيث يرقد الشهداء ...
****
الجملة الأولى :انسل من ثقب الباب مسرعًا ..
تعبير قوي جدا عن مسيرة حياة ومشوار عمر ...وما يتلوه من تفاصيل وهنا تعبير غارق في الرمزية وبذات الوقت فيض من وضوح يحسب للكاتبة.
استوقفه المفتاح الحائر..
استمرار لتصوير حياتي متعب حائر ومفترق طرق للشرفاء...
أين أجد بوابة الخلود ..؟؟
هنا بوح من قلب الكاتبة على لسان بطلها وهنا تكمن العقدة القوية : أين أجد اسمي خالدا؟ وعملي مستمرا واعدا بالثمر؟
أشار إلى المقبرة القريبة ..
هناك يا صديقي .. حيث يرقد الشهداء ...
تعبير قوي عن هؤلاء الذين يريدون أن يؤدوا رسالة مهمة في الحياة ويريدون أن تكون لهم بصمة إيجابية غن لم يكن الأمر أكثر من ذلك.
نص قوي بكل ما تحمل الكلمة من معنى..
*******
استباق/الشربيني خطاب /كتبها قبل وفاته بأيام وقد توفي حديثا قبل أشهر.
لمحته يرمقني بعين تطلق شرار ، غير عابئ أعطيته ظهري
، فلما استدار صعدنا سوياً إلي السماء
**
تكثيف عال ٍ جدا للحظة ترقب الموت عند الضعف الأخير الصحي..
وربما تلقاها المتلقي بغير ما طرحها الأديب نص قوي جدا مجدول بخبرة وعناية.
***
المزار/علي جاسم
كان ينشر الرعب في نفوس الشعب، وبعد ألف سنة أصبح قبره مزارا ترنو إليه النفوس الباحثة عن الأمان .
***
اختزال قوي وصارم لفكرة وحيدة واضحة غلفت ببعض غموض.
***
طوفان الطُّهر/معاذ العمري
فاضَ الماءُ
وعَلتْ موجاتُ السيلِ
ناداني هَلمَّ
وقد مدَّ يداً إليِّ
ألقيتُ نفسي
قبلَ الصعودِ
في لُججِ البحرِ
أفتشُ في قعرِهِ
عن قبرٍ لذنوبي
***
رغم أننا نفضل هنا العنوان الأكثر اختزالا وغموضا إلا أن القاص نجح في إيصال الفكرة أن لاطهر كامل أبيض ,
وإن فهمها على محمل آخر فلن يضر السياق العام, ويفهم النص للمتلقي رغم رمزيته بسلاسة وهدوء وتفوق....
****
الكنز /عبد الرحيم محمود.......
مصطفى رجل يريد الغنى بسرعة ، يعيش حلما متكررا ، تحت قرنة بيته الجنوبية كنز ، حفر وحفر وحفر ، وجد ذات صباح تحت جدار البيت مدفونا !!
****
هنا فكرة لامعة ورغم هذا قدمت ببساطة حتى ليخيل إليك أنها خالية من الرمزية رغم أنها غارقة فيها وبقوة:
رجل يريد الغنى ويحلم به دوما , وعندما واتته الفرصة أضاع الأغلى... ويمكن للقارئ أن يجد جوازات أفكار أخرى وهذا من إبداعات القص.
****
النسخة الأولى/محمد الشقحاء
ـــــــــــــــــــــ
بوله أخذ يمزق المظروف وبرز الغلاف الموسوم بصورتها. هو النسخة الأولى من كتابه الجديد.
ما إن فتح الغلاف حتى أحس بوخز في باطن كفه الأيمن. أعاد إطباق الغلاف كانت صورة عواطف تتموج غائمة بأطراف مدببة.
وقع الكتاب على الأرض. أخذت الحروف تنسل متناثرة ومع اندهاشه انفتح باب الغرفة وارتفع صرير مزلاج النافذة لتنفتح على مصراعيها.
فأمتد خط من الأحرف ومن أوراق الكتاب إلى عنان السماء.&
نص مفعم بالرمزية اللطيفة , تشرح حالة عاطفية استثنائية , وتناثر ما لم يتوقع ضياعه, ورغم هذا ترك الباب مواربا لخيال وتوقع القارئ ببراعة وبجمل قوية معبرة.تمثلت :
ما إن فتح الغلاف حتى أحس بوخز في باطن كفه الأيمن.
فأمتد خط من الأحرف ومن أوراق الكتاب إلى عنان السماء.&
***
جولة
عبد الرزاق أبو عامر
هرعوا يزخرفون عداءهم بكل طيف بائد ولون بارد
وينسخون منه لكل خائن لوحة ووساما ..
فطافت طيور خضر تتخطف أرواح الشهداء
وعصفت ريح ابتهال تزلزل مسرح البهتان
***
هنا نموذج للقص الإسلامي واقتباس من روح الحدث التراثي نسج لهدف قيم كما نعلم وحب الوطن والعقيدة, كان واضحا في كل جملة في النص.
************
عتمة/ريمه الخاني.....
قطع التيار الكهربائي..أغمضت عينيها ....
أنار قلبها الطريق ..مضت بأمان...
***
ربما الفكرة هنا بسيطة جدا,1-
لكنها تداعب ضمير وقلب المتلقي بقوة لأننا اكبر من الشيء المحسوس الذي نعرف ولا ضير إن كانت الشاعرية هنا رغم جدية الطرح قد تكلمت..
( لا ضير من النقد الذاني)
****
ما نلاحظه كقاسم مشترك في معظم القصص المطروحة للدراسة:
1-العنوان البسيط جدا وغالبا لا يتعدى الكلمة.
2- اللغة القوية والتي لا تتسع للعبارات بين قوسين غالبا,والتي لا يمكنها أن تفقد خاصية الجذب التي تتمتع بها تلك الفنية .
3- القفلة المفاجئة والتي يمكن أن تتوضع في منتصف النص نادرا,أو آخره غالبا.
نتوقع انتشارا أكبر لهذا النمط الجديد الممتع حقيقة .
ونتمنى أن تكون الدراسة قد أوفت بالمطلوب, وربما قدمنا دراسة قريبة منها لمحنى آخر نبحثه.
18-1-2010