مهند الياس
الشيخ والبحر ...ونهاية البطل المهزوم
يجمع اكثر النقاد ، بان رواية الشيخ والبحر The old man and the sea للروائي الامريكي ارنست همنغواي والحائز على جائزة نوبل عام 1953، هي من افضل ما كتب منذ صدور رواية في زمننا In our time عام 1924 ، وحتى اخر عمل مهم له عام 1970 ، وهي رواية جزر في التيار Islands in the stream فقد عبر عنها الناقد ( ليو كوركو) بقوله ( تؤكد اغلب روايات همنغواي على ما لا يستطيع الانسان تحقيقه ، وتحدد القيود والمعاناة والشر السائد في هذا العالم ، بيد ان روايته ( الشيخ والبحر) ، تكتسب اهمية كبرى لتأكيدها على مايتمكن الانسان بلوغه .. وان هذا العالم ، عبارة عن مسرح صراع حيث تصبح الافعال البطولية امرا مركبا ..) .. لقد اتسمت ( الشيخ والبحر) بملامح جدية ، وافصحت عن الحقائق التي تملي للانسان مايمكن ان يفعله ازاء العنف الذي يواجهه من خلآل مؤثرات الحياة بصورها المتداخلة والفجة ، والتي كثيرا ما تفرز هذه المؤثرات ذلك الصراع الازلي الذي يتمثل بالمواجهة المباشرة بين الانسان والطبيعة ، بشكل خاص .. بين ما يملكه الانسان من قوى روحية ومادية ، وبين ما تملكه الطبيعة من قوانين لها ثوابتها ومعاييرها واقدارها ..!
إرنست ميلر همنغواي(1899 - 1961)
جائزة نوبل في الأدب 1954 .. تبدأ الرواية ب ( تحرك) البطل سنتياكو .. وهو رجل كما يصفه همنغواي ( ناحل العود ، وتوغلت في قفاه ندب عميقة ، وقد عادت حرقة الشمس في انعكاساتها على مياه البحر ، على بشرته عدوانا قاسيا ‘ فملئت بالبثور ، واستدارت فنشرت الكثير منها على جانبي وجهه ،، اما كفاه فقد حفرت فيهما الحبال التي طالما جرتها الاسماك الثقيلة جراحا عميقة الغور..).
اذا ف .. سنتياكو ،، رجل عجوز ، منحته طبيعة عمله كصياد ماهر قوة وحيوية ، لذا فالبحر هو ملاذه الوحيد والتي تقوم عليه حياته اليومية ، فهو العالم الذي يدور في معالمه ، والمحيط الذي يقرأ فيه احلامه وبالرغم من الصراع اليومي القائم بينهما ، هذا الصراع المرير ... يتحرك سنتياكو ليصل الى نقطة بعيدة في البحر وبهذا التجاوز يقرر الرجل العجوز بان عليه ان ( يكون او لايكون) ..!
وعليه ايضا ان يدخل مغامرة اكبر حجما من حياته ( كلها) .. مغامرة لابد ان تمنحه الثقة اكثر ,, وهو رجل تضاءات قواه اذ نجده يتحدث مع نفسه عن الضعف والقوة .. هذان العنصرات المتناقضان في الوجود .. فيقول : (ان حياة الطيور اصعب من حياة بني الانسان، باستثناء الطيور الكواسر ، لماذا خلقت هذه الطيور بكل هذه الرقة ، وخلف المحيط بكل هذه الوحشية ..؟!
لقد وصل العجوز الى مسافة بعيدة ، وهي المسافة التي قد لاينتظر منها غير الخطر ، لكنه لا يأبه بهذا كله فهو يرى ان رحلته هذه اشبه بالمزحة، اواللعبة، وانه لا محال سيحتوي ما سيحدث حتى لو انقلبت هذه اللعبة الى مشاكسة حادة ووقحة قد تؤدي به الى موت محقق في الوقت الذي رأى فيه ( فوج من الدلافين حول القارب في ظلام الليل، اذ سمع العجوز دوارانهما وقفزاتهما في الماء ، وتمكن من التمييز بين صوت الذكر وصوت الانثى .. قال لنفسه : (انهما يلعبان، ويلهوان سوف يمارسان الحب ، انهما من الرفاق تماما مثل الاسماك الطائرة ..) .
.. وفجأة تتحول اللعبة الى مواجهة بينه وبين سمكة القرش والتي اعلنت بدء الصراع معه حتى الموت ..! انك تقتليني ايتها السمكة لكنك محقة في ذلك ، فانا لم اشهد شيئا اكبر ولا اجمل ولا ارصف ولا انبل منك ، ايتها الاخت، هيا اقتليني، فلست ابالي اينا يقتل الاخر ..! ان الرجل العجوز الذي يرسمه همنغواي .. يحاول ان يصد قدره، بكل ما يملك من قوة ومنعة، وحتى يدافع ليس عن نفسه فحسب ، بل عن سمكته التي اصطادها بعد جهد جهيد ..( ان تكون بطلا بقي ان تحاول بجرأة اكثر من الاخرين وان تعرض نفسك الى اخطار اكثر ..)! وتكون المواجهة شرسة ، شرسة الى حد نفاذ قوة الرجل العجوز : ( و.. ربما قفزت لتخيفني بحجمها ، وها انا قد علمت ، كم اتمنى ان اريها انا ايضا اي نوع من ارجال اكون ..)!
ويستمر التحدي بين الرجل العجوز والسمكة المشاكسة الشرسة ، واخيرا يكون الانتصار من قبل الرجل : (لقد نلت من القرش الذي عض سمكتي .. لعمري انه اكبر قرش من نوع ابو الاسنان رأيته في حياتي .. ان الله وحده الذي يعلم كم قرشا كبيرا من هذا النوع شاهدت ..) ! ويطلق عبارته المشهورة الرجال لم تخلق للهزائم ،، قد يتحطم الانسان دون ان يهزم ..)!
حيث تبقى هذه العبارة الخالدة (وسام رواية الشيخ والبحر) الذي ابتكرها همنغواي، ولغرض ان تعزز قيمتها وقيمة ( بطلها الحقيقي) المؤلف نفسه .. ولكن هل ان همنغواي تمثل بها حقا ..؟؟! لقد انهزم همنغواي من مسرح حياته بعد ان شاكسته اقدارها بحدة ولم يستطع مواجهتها بتلك القوة التي اطلق بها صرخته عندما كان يجابه البحر، لقد سقطت اسطورة الرجل المتفوق لهمنغواي .. وهزم همنغواي نفسه امام الحياة، ولم يعد ان تكون المواجهة ( لعبته) المفظلة ، كما كانت في احلبة مصارعة الثيران ، او في (حلبات الملاكمة) .. لقد فعل همنغواي موقفا معاكسا ومغايرا عما اراد ان يفصح عنه في فلسفته في الحياة وقد طعن جميع افكاره بتلك الرصاصة التي اطلقها على رأسه .. والسؤال لماذا ؟؟! و .. يبقى محيرا ..!!