التذوق الموسيقي من خلال القيثارة
أحمد حبصاين
سنتعرف على مفهوم الجمال الفني المتخصص للموسيقى ، ثم أقوم بإعطاء تحليل و أمثلة لأعمال موسيقية في هذا المجال.
إذا عدنا إلى التاريخ البعيد لنشأة الإنسان، سيتضح أنه كان ممارسا للموسيقى
بالفطرة والغريزة باستعمال أطرافه العليا كآلة إيقاعية. من هذه الحركة انطلقت فكرة التذوق الموسيقي بشكله البدائي وعلى حسب وجوده الاجتماعي في البيئـــة والوسط الذي يعيشه يوميا.
كان الإنسان الأول يهتم بالفنون وهي الأداة الوحيدة والوسيلة القريبة للتعبير عن مشاعره وعواطفه ووجدانه. ولو كان همجيا، بل كان متذوقا على ما تدل عليه بعض الحفريات والمخلفات البشرية داخل الكهوف التي عاش فيها منذ ملايين السنين، و من ذلك الحين و هو
يرتقي في سلم التطور الحضاري من مرحـــــــلة لأخرى ومن عصر إلى عصر حسب أزمنة التاريخ.
فالموسيقى في رأي بعض المفكرين هي المقياس الحضاري للإنسان بشكل فطري حتى اصبحت تربية مهمة في حياته، ودليل على ذلك حينما نكون في المهد وأمهاتنا تهدهدنا و تدندن لنا ألحانا وأنغاما لتهدئ من انفعالاتنا و بكائنا ثم ننام بسلام.
فالموسيقى في الحضارة الصينية إحدى أسس الدولة في التركيب الامبراطوري والحكومي والشعبي: من هنا انطلق حكيم الصين وفيلسوفها (كونفشيوس 551-479 ق.م) بتعاليمه الفلسفية قال: الأغاني توقظنا و الموسيقى تكلمنا واللي يقوينا.أفكاره الجمالية تمزج بين الأخلاق و الجمال.
ويؤكد أن " اللي " والموسيقى هما وسيلتان مهمتان للتربية، ثم أضاف كلمتان صينيتان(ماي) يعني بها الشيء الرائع و (شان) المحتوى الاخلاقي.
اما الفيلسوف مين-تسو 372- 289قال الإنسان رائع بالفطرة فيناقضه سيون-تسون 292-238 ق.م قال الانسان سيء بالفطرة و بفضل العلم و الفن يصبح رائعا.
حين نشأت الحضارة الإغريقية كان الفن اليوناني قد بلغ ذروته فانطلقت المدرسة الفيثاغورية في نظرية الجمال باعتبارها هارمونية الأعداد قانونا موضوعيا يسير كل الظواهر في الحياة. وانطلاقا من سقراط في تحليله للجمال بقوله: { الجميل هو المفيد ، ما يتلائم مع هدفه ثم أعطى مثالا عن ذلك : الحب هو تعطش الروح البشرية الى الجمال المقدس فالعاشق لا يتلهف على أن يجد الجمال فحسب بل يعمل على تخليده. ثم ختم كلمته في الجملة التالية : الجمال هو أقرب طريق يؤدي الى الله .}
أما الجمال عند أفلاطون فلا ينشأ ولا ينعدم بل إنه أساس مثالي صوفي رائع.
ووفقا لنظريته الجمالية نجد الموسيقى خدمت البشرية في ربط وتوحيد المشاعر والعواطف الإنسانية ، و هي وسيلة رئيسية للعبادة وصلة وصل بين الآلهة والبشر ونشر التعاليم والقوانين والفضيلة والتربية والاخلاق، كذلك كانت تصاحب الرقص الذي كان عنصرا مهما في الطقوس الدينية والتقاليد الاجتماعية.
أما أرسطو فقد انتقد نظرية افلاطون المثالية ، وجعلها في العالم الواقعي الموضوعي، إذ تسمو مؤلفات الفن الإنساني عن طريق التطهير.Catharsis
ومن خلال هذه المقارنات نكون قد أدركنا واستوعبنا بعض مفاهيم الحضارة البشرية، لذلك فإن تطور الذوق عند الانسان لم يأت هكذا جاهزا موضوعا كما نتصوره حاليا في المفهوم الذي نعرفه الآن . بل قطع مراحل و أحقاب تاريخية وأجيالا من البشر في العصور المختلفة بما ورث عن أجداده وأسلافه أنواعا من القوالب و الأسالب الموسيقية والفنية والثقافية والتقاليد الاجتماعية والمكتسبات السيكولوجية منذ الآلاف من السنين.
أما الآن فقد طور الإنسان ذوقه على حسب بيئته وعصره وثقافته وتكوينه البيولوجي والسيكولوجي ومفاهيمه للفن، حتى اصبح يميز بين أسلوب و آخر.
هنا نتساءل في قضية الأسلوب والتمييز بينهما؟ الأسلوب ينطلق من الأعمال الفنية المطروحة من طرف المؤلفين الموسيقيين الذين يكتبون أعمالا رائــــــــعة وتظهر تلك الملامح في الروح الموسيقي الفني بين أنامل العازف كما عبر عن ذلك الموسيقي الألماني جوهان سيباستيان باخ : إن الاسلوب هو عبارة عن ملامح روح العمل الفني. فسر هذه الجملة يوسف السيسي بقوله { الملامح هي التي تميز بين الافريقي و الاسيوي ، هذا عن ملامح الوجه والقسمات المادية للإنسان فمـــا بالك بملامح الروح.}
فالموسيقى والإنسان والتاريخ صلة واحدة مرتبطة مع بعضها البعض. حينما نستمع ونتتبع عملا موسيقيا رائعا ، نكون في ذلك الوقت نمتع ذاكرتنا ونهذب حواسنا بمتعة جمالية ، بمعنى اننا نتذوق النصوص الموسيقية القائمة على دراسات علمية ممنهجة وفنية. وأكثر متعة حين يأتي دور العازف الذي نسميه
Interprète الذي يستهوينا ببراعته حين يؤدي جملا موسيقية معقدة فننفعل معه كما تملؤنا السعادة في الوقت الذي يكبر الخط الميلودي ويتطور ويرصف أساسه بالايقعات الهارمونية المتماسكة ، من هنا تقودنا الانفعالات الروحية الى عالم المتعة الناضجة.
كيف يمكن ان نتذوق هذه الروائع؟
الجواب يكون صعبا ومثيرا وشائكا جدا، لأننا أصنافا مختلفة من البشر في التكوين البيولوجي والسيكولوجي و السوسيولوجي والبيداغوجي، فكل فرد منا له مؤهلاته التربوية الخاصة به في الوسط والبيئة التي يعيش بداخلها وتكيفه معها ، الإنسان قابل للتربية يجب أن نعتني به ونوجهه باحسن طرق في البناء التربوي ، فالتربية قبل التعليم.
أولا: يجب تربيته خلقيا وثقافيا وعلميا ثم نلقنه التربية الفنية لتهذب عواطفه و إحساسه و مشاعره وذلك بأدوات جمالية رائعة في الموسيقى الجيدة.
ثانيا: نجعل منه فردا اجتماعيا يشارك في التظاهرات الفنية، موسيقية ومسرحية وسنيمائية ومعارض تشكيلية... حتي يستأنس هذه الاشياء وتكون أهدافه صائبــــة وتقييمه للأشياء عادل كما عبر إدوارد هيث : إذا كنت تتأمل شيئا جميلا فلا شك أنك جميل.
حينما نكون أمام مشهد فني نكون نقرأ ونتأمل هارمونية الألوان وتوازن الظلال والأشكال وتقنية الموضوع المعالج والفكرة الأساسية للموضوع الموضوع ، سواء كانت تاريخية أو حديثة تندرج عبر المدارس والأسالب الأساسية في هذا الفن ؛ كلاسيكية أو انطباعية أو تجريدية أو تكعيبية أو سريالية أو واقعية......
اما المطلوب من الموسيقيين هو رفع مستوى الفن الموسيقي الذي بين أديهم ورفع مستوى المتلقي إلى أعلى درجة من السابق ؛ هذا يرجع الى الطرق الفنية والمعرفة الموسيقية لكل موسيقي على حسب تكوينه الفني والثقافي والتربوي والاجتماعي والأخلاقي فهناك شروط لابد ان يتعامل معها الفنان الموسيقي وهي:
الأناقة؛ والتأدب؛ والرشاقة؛ والتواضع؛ والتسامح؛ والتوازن؛ والتبصر؛ والتأني؛ والرزانة؛ والصبر؛ والهدوء......
ومن أهم التزامات الموسيقي الأكاديمي التي تتجلى في صعوبة الأعمال الأساسية التي يجب أن يتخذها بجد و مسؤولية تامة تكلفه مجهودات في الاشتغال بكثرة على التداريب ؛ والإتقان التقني والفني والتعبيري ثم معرفة المراحل التاريخية والحضارية والثقافية والفنية ليكون موسيقيا عالما مصنفا في درجة المفكرين والمنظرين لمستقبل الموسيقى الجادة التي ترفع راية البلاد الى القمة السماء دون أن تغرب عنها الشمس تظل دائما مرفرفة في العلياء.
إذا قلنا أن العازف الحقيقي للموسيقى العالمة يلخص لنا حضارات إنسانية في الإبداع والخلق التي مضت أو الحاضرة في ظرف ساعة من الزمن و نحن نتذوق كل فترة من التاريخ ؛ لا نكون مبالغين في ذلك مثلا:
إذا حضرنا عرضا موسيقيا أو كونشرتو في إحدى القاعات الثقافية بذلك يكون بين أيدينا برنامج المعزوفات التي سوف نستمع لها ؛ نجد هناك معزوفات مسطرة تبين مؤلفها و تاريخ عصرها كما هو مبين في المثال التالي:
* كابوطا......................... ج.س. باخ
*صوناطة ......................ف. صور
*النزوة العربية.................ف. طاريغا
*تكريم ديبوسي.................م. دي فايا
*تكريم شومبرغ................م. انجيل
*فانتازيا..........................مصطفى عائشة
نعلم جيدا أن العازف واجه و صادف صعوبات و متاعب في البحث و الدراسة من تمارين تدريبية و تهييئات تجهيزية كلفته ساعات طويلة من العمل المكثف المتواصل تقدر بشهور؛و في آخر المطاف استوعب مفاهيمها و عرف طبوعها و فسر أساليبها و بين مدارسها و حافظ على كل مرحلة لكل معزوفة في الريبيرتوار.
باخ: ينتمي إلى العصر الباروكي الذي بدأ من سنة 1600 - 1750 به ظهرت القوالب الموسيقية في مستواها الجاد مثل المتتالية و غيرها.
صور: ينتمي إلى المرحلة الكلاسيكية الذي بدأ من 1750 - 1800 في هذه الحقبة ولدت السيمفونية و تطورت الاشكال الموسيقية مثل الصوناطة و الكونشيرتو.
طاريغا: من مؤسسي المرحلة الرومانسية التي بدأت من 1800 - 1900 في نفس الوقت تطور البيانو على يد شوبان و الكمان على يد باكانيني ثم القصيد السيمفوني على يد فرانز ليست.
دي فايا: من الانطباعيين بدأت هذه المرحلة من 1880 - 1918 إنها حقبة متداخلة في الرومانسية و موسيقى القرن العشرين.
انجيل/ شومبرغ : من الموسيقيين الدوديكافونيين.
مصطفى عائشة: عاش في النصف الثاني من القرن العشرين إلى بداية القرن الواحد و العشرين ألف في عدة مدارس موسيقية كالكلاسيكية الجديدة و الرومانسية الجديدة و الدوديكافونية و الموسيقى الالكترونية و الالياطورية و الأطونالية و غيرها.
يا لها من مراحل قطعنا و نحن جالسين نستمتع و نتتبع المجهودات الجبارة التي تركوا هؤلاء الموسيقيين خدمة للحضارة و للإنسانية .
الفنان الموسيقي تتجلى فيه ظواهر فطرية و موهبة قوية يجب صقلها بالعلم و المعرفة. كما يجب أن يدعم ماديا إنها دراسة طويلة تتطلب كثيرا من الصبر.
ثم يجب فتح له أفاقا لعرض ما درسه و مساعدته معنويا و ماديا ليمكن له أن ينتج و يعطي عطاءات إبداعية راقية ليربي بها الأذواق و يهذب مشاعر الأجيال ليكونوا أفرادا صالحة في المجتمع . فالعمل الفني دائما يعرض نفسه لحدسنا او لتمثيلنا الحسي الداخلي و الخارجي.
احمد حبصاين
http://maakom.com/site/article/5638