الجاسوس الذي ظل يعمل لحساب المخابرات المصرية 15 عاما دون أن يدرى
بقلم : د . سمير محمود قديح
باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
فى يونيو 1961 بدأت محاكمته ولم تتمكن المخابرات الإسرائيلية من معرفة الطريقة التى استطاع بها نقل المعلومات والأسرار الحربية الى موسكو. وبالتالى الى المخابرات المصرية عن طريق ريناتا التى عاشت فى باريس واقتربت من الرجل الغامض للحصول على مافى جعبته من أوراق ومستندات عسكرية.. إنه إسرائيل بيير الذى اختاره بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلى مستشاراً للأمن القومى بعد ان ظل يخدم لفترة فى الجيش الإسرائيلى، وبعد اكتشاف دوره مع المخابرات السوفيتية صرخ بن جوريون: ألهذه الدرجة كنت مغفلاً! اطلع الرجل الغامض على الخطط العسكرية وحصل على أدق الأسرار وكان يلقى بها بمجرد دخوله شقة صديقته ريناتا التى كانت تقدم له الخمور ليسكر حتى الثمالة فتبدأ فى تصوير المستندات ونقل الأسرار الى المخابرات المصرية، من بينها قوائم المنشأة العسكرية الإسرائيلية والأسلحة وحجم المساعدات الأمريكية ل إسرائيل بل ومفكرة بين جوريون الشخصية التى حصل عليها بيير من صديقه بحجة كتابة مسيرة بن جوريون! ولنقرأ التفاصيل: فى ركن من اركان الملهى الليلى الشهير بباريس جلس رجل اصلع الرأس طويل القامة، ذو ملامح أوروبية يشرب الخمر بنهم شديد وبين الفينة والاخرى ينظر حوله كمن يبحث عن شى محدد لكنه لا يعرف عن اى شيء يبحث بالضبط وان كان يبدو انه ينتظر أحدا حيث لفت انتباهه حركة اولئك الذين كانوا يتوافدون على الملهى بين وقت وآخر.
وكان رغم سكره الشديد ثابتا فى مكانه ولا يتحدث كثيرا ولا يأتى بحركات كذلك التى يقوم بها السكارى الثملون وعلى مقربة منه جلست امرأتان بدت احداهما كما لو كانت فتاة ليل وقد انشغلت بالحديث مع السيدة الاخرى التى كانت شديدة الجمال تشى ملابسها وهيئتها بأنها احدى سيدات الاعمال الثريات اللاتى يفدن على باريس لعقد صفقاتهن. كانت فتاة الليل تحاول ان تلفت نظر الرجل الاصلع الغامض الذى يجلس على مقربة منهما مع حرصهما على ان يبدو الامر بصورة طبيعية لا توحى بسعيها الى التعرف اليه أو مجالسته.. لذلك ارتفع صوتها ليسمعها الرجل المقصود ماذا تقولين؟! ثلاثة ملايين فرنك! نعم وماذا فى ذلك؟ انها اقل صفقة عقدتها هذه السنة.
- وهل هذه التجارة مربحة الى هذا الحد.
- نعم... انها تعادل تجارة المخدرات ولكنها بالطبع ليست مثلها بل اكثر امنا. - وأين ستذهب هذه الصفقة؟
إلى إسرائيل.
التفت الرجل الاصلع فجأة نحو السيدتين.. وقال عفوا هل ناديتمانى؟ ردت فتاة الليل: يسعدنا ان نناديك ولكن كنا نتحدث عن عملية تجارية ستتم فى إسرائيل ضحك الرجل السكران وقال لم تذهبا بعيدا.. فانا اسمى إسرائيل واعيش فى إسرائيل.
صرخت المرأة ووجهت حديثها إلى صديقتها هل تصدقين هذا ياريناتا.. يالها من مصادفة؟!
hقترب إسرائيل بيير او بارائيل كما يطلق عليه فى إسرائيل من السيدتين قائلا... اذا لم تمانع سيدتاى فيسعدنى ان استضيفكما الليلة.
كان هذا الرجل هو الهدف المحدد لعمليتى المخابرات المصرية لانه ببساطة كان مستشار بن جوريون للأمن القومى، ولكن قبل هذا اللقاء الحميم الذى تم بين العميلة ريناتا وصديقتها بسنوات وتحديدا فى خريف العالم 1950 كان مجلس وزراء الدولة اليهودية الوليدة قد دعا من قبل رئيس الوزراء ديفيد بن جوريون لاجتماع عاجل حضره ايسر هاريتل رئيس جهاز الموساد وبقية اعضاء مجلس الوزراء بما فيهم موشيه ديان وزير دفاع الدولة العبرية وكان ضمن الذين شملتهم الدعوة المحلل السياسى والضابط السابق إسرائيل هارنيل وكان هذا امرا غريبا استنكره بشدة موشيه ديان عندما مال على ايسر هارئيل قائلا له: ما الذى اتى بهذا الرجل إلى هنا؟!
نظر الجميع لبعضهم بعضا يستطلعون الحدث قبل وقوعه وقطع نظرات الدهشة احد الوزراء عندما هم بالكلام وقبل ان يكمل كلمته الاولى اكمل بن جوريون قائلا: انه ليس تعارفا بالمعنى الذى فهمتموه ولكنى اود ان اقول لكم اننى أصدرت صباح اليوم قبيل هذا الاجتماع مباشرة قرارا بتعيين السيد إسرائيل بيير مستشارا للامن القومى الإسرائيلى ومساعدا فى الشئون الامنية.
وصرخ ديان: تقول من ياسيدى الرئيس؟
قال بن جوريون فى حزم: صديقى ومستشارى إسرائيل بيير.
لم يخجل ديان من الوقوف منتصبا وكأنه يهم بالخروج من المجلس قائلا لبن جوريون: سيدى هذا الرجل الذى تريد ان تسلمه خزائن امن إسرائيل، مجهول الهوية تماما كيف يحدث هذا.. انا غير موافق على تعيينه فى هذا المنصب. ضحك بن جوريون ورد على ديان وهو ينظر باتجاه الرجل الاصلع بيير قائلا: هذه مشكلتك ديان اذا لم تكن تعرفه. اما انا فأعرفه جيدا وأثق فيه تماما. لقد خدم هذا الرجل إسرائيل بجدية ونشاط منذ ان هاجر اليها من النمسا عام 1935، ورأيته فى جيش الهاجاناه السرى ورأيته وهو يخدم فى جيش الدفاع الإسرائيلى بنشاط فائق كما انه متميز سياسيا ولديه قدرات تفتقر انت شخصيا إليها.. ارجوك اصمت ولست هنا بصد أخذ رأيك.. ثم اردف: انا اعلم تماما ان الغيرة لها مكان فى صراخك هذا..
لم يكن بن جوريون مصيبا فى كل المعلومات التى ذكرها عن صديقه الحميم إسرائيل بيير فهو بالفعل رجل مجهول السيرة وصل إلى فلسطين فى اعقاب الحرب العالمية الثانية وقدم اوراقه على انه يهودى نمساوى ثم التحق بالجيش السرى للحركة الصهيونية واستمر يترقى فى هذه الحركة حتى قامت الدولة العبرية عام 1948 فانضم للجيش بصفته إسرائيليا يهودى الاصل، وقدم اوراقا تفيد انه تدرب تدريبا عسكريا عاليا طيلة اقامته فى النمسا وظل يترقى فى الجيش الاسرائيلى حتى وصل الى رتبة عقيد وتم اختياره فى اعقاب حرب 1948 التى اطلق عليها الاسرائيليون حرب التحرير لرئاسة قسم العمليات والتخطيط من مقر قيادة الجيش ومنذ هذا الوقت توطدت صلته برئيس الوزراء الاسرائيلى ديفيد بن جوريون شخصيا، ولكن بعد عامين اخرجه بن جوريون من الجيش وعقد اجتماعه الوزارى ليعلم الوزراء بقراره تعيين بيير مستشارا للأمن القومى الإسرائيلى. بعد انتهاء الاجتماع العاصف الذى شهد اعلان تعيين اسرائيل مستشارا للامن القومى الإسرائيلى خرج ديان من مكتب رئيس الوزراء ليسير بمحاذاة أيسر وكل منهما ينظر نحو الاخر نظرات صامتة ذات مغزى.
وفى المساء طلب ايسر من ديان ان يزوره فى مكتبة أو ان ينتظره ليحضر هو اليه، ودون ان يسأله ديان عن سبب اللقاء ادرك ان ايسر يريد ان يتحدث معه بشأن المستشار الجديد للأمن القومى للإسرائيل.
فى الثامنة مساء كان ايسر يستقبل ديان بمكتبه بمبنى الموساد فى تل ابيب و الذى فاجأه بسؤال حاسم وحازم: أيسر اريد ان اعرف كل شيء عن هذا الرجل. نظر اليه ايسر نظرة استخفاف وقال له: اليوم وبعد كل هذه السنوات تأتى لتسألنى من هو هذا الرجل؟!
قال ديان: فى الماضى لم يكن مهما ان يلتحق بالجيش ولكن اليوم سيضطلع بمهام تمس أمن إسرائيل فى الصميم.
خرج بيير من قاعة الاجتماعات منتشيا بالنتائج التى حصل عليها خلال هذا الاجتماع فقد كان هذا المنصب هو أكبر مما كان يطمح اليه فى هذا الوقت وفى مثل هذه الظروف خاصة بعد ان عمد موشيه ديان الى الاساءة لسمعته فضلا عن ملاحقة ايسر هارئيل له ومتابعته متابعة حثيثة اثناء لقائه بإحدى عشيقاته. وخلال الطريق الذى قطعه من غرفة الاجتماعات وحتى الباب الخارجى كان يتلقى التهانى من كل العاملين بمجلس الوزراء وقبيل ان يخرج من بوابة المجلس ليستقل سيارته فوجئ بأحد الحراس يعدو خلفه طالبا موافاة بن جوريون فى مكتبه. عاد بيير منزعجا لهذا الاستدعاء السريع بعد هذا الاجتماع الصاخب ودخل مكتب رئيس الوزراء.. سيدى ماذا هناك لقد كنت خرجت بالفعل من المقر رد بن جوريون عزيزى بيير.. أرجو ان تسمعنى جيدا.. اليوم بالطبع ادركت كم يكرهك ديان وكم يكرهك ايسر ايضا وهما اخطر شخصيتين فى المجلس، فكان حذرا ولا تفسح لهما المجال لان يمسكا عليك موقفا يحسب عليك لانك انت إسرائيل بيير محسوب على. فى المساء كان لابد لاسرائيل بيير ان يحتفل بهذه المناسبة فاتصل بإحدى عشيقاته وكان اسمها حنه وطلبها ان تلتقيه فى حانة أتوم فى شارع بن يهودا الصاخب فى تل ابيب وقال لها لا تتخلفى فلدى هدية رائعة لك ومفاجأة ستسعدك بلا شك؟
فى التاسعة مساء كان إسرائيل بيير يقدم هديته لعشيقته - وهى زوجة لاحد ضباط وزارة الدفاع الإسرائيلية وكان زوجها شديد الغيرة عليها ودائم الشك فيها لشدة جمالها. وبعد نصف ساعة بالضبط من وصولها لحانة أتوم ولقائها بيير فوجئ الاثنان بشالوم زوجها يقف على رأسيهما وقبل ان ينطق احدهما بكلمة نهال الضابط بالكلمات والصفعات الشديدة على وجه إسرائيل ببير حتى وقع سنان من اسنان بيير واخذ ينزف وقام بعض العاملين بالحانة بنقله لمستشفى تل ابيب. وبعد ايام عندما سأله بن جوريون عن اسنانه المفقودة قال له: لقد فقدتها يا سيدى فى حادث سيارة.. بينما ضحك كل من ديان وايسر عندما وصلهما الخبر. واصل ديان بأيسر قائلا له: لا اعتقد انك بعيد عما حدث لهذا المارق. فى إسرائيل يطلق الاسرائيليون على حرب عام 1948 حرب الاستقلال وهى تسمية شائعة فى إسرائيل حتى يومنا هذا ولا يعرف احد ماذا يعنون بكلمة استقلال فمن الذى كان يحتلهم؟ وهل كانت فلسطين فى الاصل موطنهم ام وطن وهب لهم ممن لا حق له فى الهبة، المهم ان بن جوريون استدعى مستشاره الأمين عام 1955 وطلب منه كتابة التاريخ الرسمى والتأريخ لحرب الاستقلال وخصص له من أجل ذلك غرفة بوزارة الدفاع ليقوم بأبحاثه فيها.. وكان هذا التاريخ الذى كتابه من الأعمدة الرئيسية فى تعزيز مركز وموقف بيير لدى المجتمع الإسرائيلى وبن جوريون شخصيا. لم يترك ايسر هاركيل بيير بعد قرار تعيينه بعيدا عن عينيه او بعيدا عن اعين رجاله ورصد فى السنوات التى تلت هذه الواقعة حركة إسرائيل بيير رصدا دقيقا فقد اكتشف انه كثير العلاقات الغرامية يعيش حياته على هواه وينفق ببذخ شديد على عشيقاته وبنات الهوى كما توصل الى ان علاقته بزوجته رفقه سيئة للغاية وان الخصام بينهما يدوم اياما واسابيع طويلة، كما لاحظ انه يقوم بجمع معلومات عسكرية لا تتصل بعمله فى شيء وانه زار موسكو وبرلين ووارسو وبوخارست اكثر من مرة وهذه عواصم دول شيوعية ليست على وفاق كبير مع إسرائيل الدولة الحديثة، كما جاءته تقارير تفيد بأنه على علاقة وثيقة بكثير من الدبلوماسيين الروسى العاملين فى تل ابيب ويلتقى بهم كثيرا. كان ايسر يرى فى هذا الرجل الفساد كله، فهو على عكسه حيث ان ايسر كان يهوديا متدينا ومتشددا بعكس إسرائيل بيير ولذا فإنه كان يخشى على إسرائيل الدولة من وجود رجل كهذا يسهل تجنيده بأبسط الطرق حتى ولو كان عن طريق امرأة غانية. ذات مساء رن هاتف بيير فى مكتبه، كانت المكالمة من خارج إسرائيل وكان الصوت المتصل من الأصوات المحببة لبيير ولذلك عندما سمع صوت المتصلة هلل فرحا كفرحة طفل صغير بلعبة، فقد كانت المتصلة صديقة باريس التى التقاها مؤخرا.
وبعد أسبوع بالضبط كان إسرائيل بيير وصديقته ريناتا يلهوان فى كل ملاهى باريس ولم يتركا شيئا لم يفعلاه حتى نفدت أموال بيير تماما وقرر العودة إلى إسرائيل وعندها طلب من صديقته أن تستعد للعودة معه.
تركته ريناتا بحجة ترتيب أمورها وتوجهت على الفور إلى محل للعطور المشهورة فى باريس وكانت مديرته فتاة مصرية وأخبرتها بأنها تريد مقابلة الضابط ف من المخابرات المصرية.. أقول له من أنت أخبريه بأننى صديقة بيير
كانت هاتان الفتاتان من العاملات مع جهاز المخابرات المصرى وهما اختان من الأب وكانت التى تمتلك محل العطور أمها فرنسية بينما الأخرى وهى تعمل مضيفة بالشركة الوطنية، من أم مصرية.
وكانت المضيفة تتولى توصيل المعلومات والوثائق التى تطلبها المخابرات إلى مصر أو إلى الضابط ف.
طلب ف من ريناتا السفر مع بيير إلى إسرائيل والحصول منه على كافة الوثائق التى توجد بحوزته وتصويرها وتسليمها لصاحبة محل العطور والباقى تعرفه هذه بدورها.. سافرت ريناتا مع إسرائيل إلى تل أبيب وعاشت معه قرابة شهر فى بيت استأجره لها بيير بعيدا عن تل أبيب.. وكان يقضى أياما طويلة معها بعيدا عن زوجته، فهذا الرجل شديد الثقة بنفسه وشديد الاهتمام فى نفس الوقت رغم أنه موظف مهم فى الدولة العبرية.. .
وكان بحكم عمله يطلع على وثائق ومستندات مهمة خاصة بالخطط العسكرية الإسرائيلية إلا أنه كان يلقى بمجرد دخوله شقة صديقته، بالأوراق دونما اهتمام ويترك أهم وأخطر المستندات العسكرية قريبة من يدى ريناتا التى اعتمدت طريقة ذكية فى الحصول على ما تريد حيث كانت تجعله يسكر تماما فلا يستطيع أن يرى ما يحدث أمامه ثم تجذبه إلى غرفة النوم فتجهز على ما تبقى منه وتقوم بعد تأكدها من استغراقه فى نوم عميق إلى غرفة المكتب وتفتح حقائبه وتجمع المستندات وتصورها تصويرا دقيقا وتحتفظ بالأفلام لحين موعد سفرها. واستمرت على هذه الحال قرابة الشهرين وهى تعيش معه وتحصل منه على كل المستندات التى يحوزها بصقته الوظيفية فتأخذ نسخا منها ومن تلك التى يحتفظ بها فى خزانة خاصة فقد استطاعت أيضا أن تصل إليها وإلى ما فيها وتأكدت من خلال هذه الوثائق والمذكرات التى كتبها بخط يده أنه عميل لجهاز الكى جى بى السوفيتى!.
بعد هذين الشهرين سافرت ريناتا إلى باريس وهناك سلمت الفتاة المصرية الباريسية الأفلام التى وصلت فى النهاية إلى المخابرات المصرية التى تمكنت من أن تخدع إسرائيل وجهاز الموساد باستخدام عميل للسوفيت ليعمل لصالحها دون أن يدرى العميل ودون أن تدرى المخابرات السوفيتية وبطبيعة الحال دون أن يدرى الموساد ورجاله.
كانت من ضمن الأوراق والمستندات التى حصلت عليها ريناتا المفكرة الشخصية لديفيد بن جوريون شخصيا وكان بيير حصل على هذه الفكرة من صديقه بحجة أنه سيكتب كتابا عن سيرته وسيحتاج لمعرفة بعض الأمور الخاصة عن حياة بن جوريون ليستكمل كتابه وكم كانت مفاجأة ضابط المخابرات المصرى عندما وجد بين يديه مفكرة تضم أخطر أسرار إسرائيل والموساد ومكتوبة بخط يد بن جوريون نفسه، وهكذا توصلت مصر إلى حقائق ومعلومات خطيرة كثيرة من تلك التى كانت تدور فى كواليس وأروقة مجلس الوزراء الإسرائيلى والموساد والقوات العسكرية الإسرائيلية.
كانت الساعة قد جاوزت الثامنة مساء فى الثامن والعشرين من مارس عام 1961 وفى الثامنة ودقيقتين تحديدا خرج رجل من شقته فى 67 شرع برانديس فى تل أبيب وهو يزر أزرار معطفه وبيده حقيبة جلدية تضم مجموعة ضخمة من الأوراق. أسرع الرجل الذى كان يسير وحيدا تقريبا فى الشارع الخالى وأخذ يتلفت حوله كمن يريد التأكد من أن أحدا لا يراقبه واستدار نحو شارع جانبى ثم دخل كابينة هاتف من هواتف الشوارع وكانت لا تبعد عن منزله أكثر من ثلاثمائة متر وتوقف يلتقط أنفاسه اللاهثة ثم تلفت حوله مرة أخرى وعندما اطمأن أنه غير مراقب انطلق متجها إلى شارع منخفض قليلا نحو مقهى صغير يقبع فى إحدى زوايا الشارع.
طلب الزبون زجاجة خمر وأخذها وانزوى فى ركن بعيد من المقهى ليتحاشى أضواء الشارع الشديدة ووضع الحقيبة التى كانت بيده جانبا ثم اشعل سيجارة وأخذ ينظر بقلق لساعته يتابع الوقت بين دقيقة وأخرى.
بعد خمس دقائق أخرى دخل المقهى رجل آخر وكان يرتدى بدلة سوداء وقبعة ذات حافة عريضة وأشار بيده نحو الجالس فى زاوية المقهى ثم اقترب منه وجلس على المقعد المواجه له.. وبعد لحظات جلس الرجلان صامتين تناول الضيف الحقيبة ومضى خارجا وكأن شيئا لم يحدث.. وبعد دقائق قليلة نهض الرجل ذو المعطف ودفع الحساب وخرج صامتا كأنه ميت بعث لتوه إلى الحياة!. عندما ظهر فى الشارع أخذ يتفحصه مرة أخرى ثم مضى فى طريقه ولكن كانت يداه خاويتين هذه المرة.. وبعد أن صعد الدرج متجها إلى شقته اتجه إلى مكتبته العامرة بالكتب بكل اللغات وجلس وكأنه ينتظر شيئا ما.. لعله كان ينتظر هاتفا أو زائرا!!.
فى حوالى الساعة الثانية عشرة وقفت سيارة أمام البناية رقم 67 وصعد الرجل الذى تسلم الحقيبة إلى شقة لم يكن بابها موصدا وترك السيارة تعمل، وعندما دخل لم يمكث طويلا حيث وضع حقيبة الأوراق التى كانت بحوزته. فى هذه اللحظة دق هاتف منزل أيسر هارئيل الذى كان قريبا من الهاتف ويتوقع مكالمة فى هذا التوقيت رغم بدء مراسم عيد الفصح.
قال المتحدث على الجانب الآخر.. التقى صاحبنا برجل المخابرات الروسى للمرة الثانية هذه الليلة وسلمه حقيبة الأوراق ثم افترقا، وبعد ساعات عاد إليه فى بيته وهو الآن بالداخل معه..
هل أنت متأكد من العنوان والشخص؟.
نعم أنا الآن بالضبط أمام 67 شارع برانديس، نعم هذا هو محل إقامة بيير. طلب أيسر من محدثه استخراج أمر من النيابة بتفتيش شقة إسرائيل بيير ثم أغلق السماعة ليطلب بن جوريون مرة أخرى.. لم تستغرق المحادثة أكثر من عشر دقائق وفى نهاية المكالمة قال السير ل بن جوريون سألقى القبض اليوم على إسرائيل، رد بن جوريون عليه وهو شبه مصدوم؟ قم بواجبك!! عندما هم ضيف بيير بالانصراف بعد أن أدى مهمته دخلت ريناتا من الخارج بينما كان الضيف قد تجاوز المنطقة ما بين غرفة مكتب بيير والباب الخارجى حيث تبادلت النظرات مع ضيفه وأومأت إليه بتحية سريعة وبعدها ألقت نفسها بين ذراعى صديقها وسألته فى براءة من هذا يا بيير؟. أجاب إجابة مقتضبة وسريعة توحى بأنه لا يريد الدخول فى تفاصيل ما دار بينه وبين صديقه.. أدركت ريناتا أن بيير ليس فى حالة طبيعية فلم تشأ أن تواصل أسئلتها لكنها لاحظت أن هناك كومة كبيرة من الأوراق والمستندات إضافة إلى الحقيبة التى أحضرها الزائر منذ قليل.
وبعد حوالى ساعة كان بيير قد أكمل رحلة السُكر اليومية وبدأ يترنح حيث ساعدته ريناتا حتى وصل إلى السرير وتركته على الفور لتبدأ مهمتها حيث استطاعت تصوير أفلام خبأتها على الفور وتظاهرات بالنوم بجواره وعند الساعة الرابعة فجرا أفاق بيير لما سمع صوت اصطدام شديد فهب مذعورا ليجد عشرة عناصر من الموساد داخل شقته وقد خلعوا باب الشقة بضرباتهم وأصبحوا فى لحظات داخل غرفة نومه.
كان كل شيء فى مكانه الأوراق والحقيبة التى تركها ضيفه فى زيارته الثانية ولم يزد على الشقة شيئا سوى وجود ريناتا فى غرفة نومه. تحدث كبير القوة التى هاجمت شقة بيير وقال له: أنت معتقل الآن ولدينا تعليمات بتفتيش الشقة.
عقدت الصدمة لسان بيير الذى تجمد فى موضعه ولم يقل أكثر من نفس العبارة التى قالها منذ قليل بن جوريون لأيسر.. قم بواجبك..!
فتح الضباط ورجال الموساد الحقيبة التى كانت تضم عددا من الوثائق السرية جدا ومن ضمنها وثيقة لقائمة مفصلة لمصانع الأسلحة الكبرى فى إسرائيل والأخطر من هذا كانت مفكرة بن جوريون ضمن المستندات والأوراق التى عثروا عليها بشقة إسرائيل بيير منذ أن استعارها المحلل الكبير من صديقه رئيس الوزراء لتساعده فى كتابة عدد من المقالات ومؤلف خاص عن فلسفة بن جوريون فى الحكم وقيادة إسرائيل..!
تم القبض على إسرائيل وصديقته ريناتا التى وجهت إليها التهمة نفسها، ولكنها دافعت عن نفسها بأنها لا تعلم عنه أكثر من كونه موظفا كبيرا بوزارة الدفاع وأنها كانت مجرد صديقة لا علاقة لها بأعماله الأخرى كما برأها إسرائيل نفسه وبالتالى خرجت بعد أيام قليلة من السجن لتطير إلى باريس وتسلم الأفلام التى صورتها فى تلك الليلة للمصرية الباريسية التى سلمتها لشقيقتها المضيفة التى سلمتها بدورها للمخابرات المصرية. وظل الموساد زمنا طويلا لا يعلم أن المرأة التى قبض عليها مع إسرائيل كانت عميلة للمخابرات المصرية وأنها حصلت على كل الوثائق والمستندات التى حصل عليها السوفييت عن طريق إسرائيل بيير.
Sameer_qodeh@hotmail.com
المصدر
http://www.alwatanvoice.com/arabic/content-147342.html