- قال الله عز وجل :" وإن امرأة خافت من بعلها نشوراً أو إعراضاً فلا جناح عليها أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً " سورة النساء /128/.
- ما أهمها من بداية, المرأة يعطيها الإسلام زمام المبادرة لإصلاح ما وقع من خلاف بينها وبين زوجها سبب هجرانه لها وانصرافه عنها . لقد حّملها مسؤولية لها شأن في التركيبةالأسرية وبالتالي الاجتماعية .مسؤولية حماية الأسرة وضمان استمرارها بركنيها الزوج والزوجة . هنا نلمس التكريم والتشريف. تناله المرأة بعز وكرامة. فالإسلام أحل المرأة مكانة تليق بها وأسند إليها من المسؤوليات ما هي أهل له. الأسرة مجتمع مصغر اقتضت سنن الحياة أن يحصل فيها مشكلات وأحداث تعكر صفاءها وتحدث تباعداً بين الزوجين قد يمتد إلى بعض أفراد الأسرة . ربما تكون تلكم المشاكل حول طرق تربية الأولاد ومنشأ ذلك تباين آراء الزوجين وطريقة التوجيه وأسسه ومصادره .وثمة مشاكل مالية تنجم عنها خلافات بين الزوجين لا سيما وقد أعطى الإسلام للمرأة بجانب الرجل شخصية مدينة حقوقية مثله تماماً. فلها ثروتها المالية وذمتها المستقلة عنه تماماً .ولها حق ممارسة كل العقود والتصرفات التي أباحها الإسلام فيما يتعلق بإدارة المال من بيع وشراء ووقف وإيجار وهبة وعارية ووديعة وغير ذلك
فتثور في الرجل حمية الرجولة ويصادر تلك الشخصية المدينة الحقوقية لأنه صاحب القوامة إشرافاً ورعاية وغير واثق بقدرة زوجته على النهوض بهذه الأمور فيقع الخلاف وتنشأ المشكلات في الأسرة .ولعل مما يسبب المشاكل انحياز الرجل لأهله أو مغالاة المرأة في الاعتداد بأهلها لا سيما إن كانت من ذوات الحسب والغنى والمركز الاجتماعي .والآن نلحظ في الآية الكريمة توجيهاً من الدقة العالية بمكان تنبيه المرأة إلى تطويق الخلاف في بدايته حتى لا يتفرع ويصعب حله واللافت للانتباه التعبير الرائع ب" خافت " أي حصول مشكلة أو حصول خلاف. هذا هو التوقيت المناسب للانطلاق إلى الصلح , الذي أرشد إليه بيان الله عز وجل فإذا لاحظت المرأة العاقلة الرشيدة , العارفة بأخلاق الرجال بوادر تعال من زوجها عليها , أو مؤشرات هجر وإعراض . حملت ذلك على قاعدة الجد
وأخذت تستعرض الأسباب التي نشأ عنها ما لاحظته , وتحاول إيجاد الحلول التي تلغي تلك الأسباب , وتزيلها لتحظى بود زوجها , وقربه منها , ورعايته لها ولأولادها . وفي لحظات صفاء وهدوء , تأخذ بعض الزينة المباحة , وتهيئ في البيت وسائل الراحة المتاحة أثناء خروج زوجها للعمل , فإذا عاد , بادرت لاستقباله , آخذة بيده إلى صدر المنزل . تشاركه الطعام , وتبادله الحديث الرصين الدال على سلامة التفكير وسداد الرأي , وامتلاك الخبرة والتجربة . فيصغي إليها باهتمام , يبادلها الحديث . وغالباً ما يفضي ذلك إلى الصلح . الذي يرمم بناء الأسرة , ويعيد إليه قوته وتماسكه , وتمضي أمور الأسرة في السياق الاجتماعي على قاعدة الوفاق والوئام . على النحو السابق يثمر الصلح خيراً , تنعم به الأسرة . ومن أهم عوامل استمرار الصلح واستقراره وحصول منافعه , نسيان المشكلة , وحرق أوراقها , والكف عن استعراضها , والتحدث في تفاصيلها . فهذا من شأنه أن يعصف بالصلح الحاصل , وتعود المشاكل لتطفو على السطح من جديد . وقد شرع الله الصلح وأرشد إليه , لتضمنه الخير .
فما هو الخير الكامن في الصلح ؟
الخير الذي يشتمل عليه الصلح, الذي بني على قاعدة الجدية والإخلاص , يتحدد بخمس نقاط هي :
1- استدامة المحبة والمودة بين الزوجين , وسريانها إلى بقية أفراد الأسرة .
2- استقرار الأسرة , وانصراف أفرادها , كل إلى القيام بما يترتب عليه من واجبات,والنهوض بما يناط به من مسؤوليات , ديناً ودنيا .
3- احترام أفراد الأسرة بعضهم بعضاً , فالصغير يجل الكبير ويحترمه , والكبير يحنو على الصغير , والزوجة تطيع زوجها , وتعرف له قدره ومكانته .
4- مجاراة العائلات الأخرى , من جوار وأقارب وأصحاب لتلك الأسرة , بسلوك سبيل الصلح , للحاق بها في تحصيل الخير .
5- الشعور العميق بحلاوة الطاعة , وامتثال المنهج الرباني , لا سيما إن اقترن ذلك بالشعور بمنة الله وفضله على أفراد الأسرة .
وعود على بدء , أقول : إن الصلح الذي دعا إليه القرآن المجيد . قد يصار إليه حول أمور أخرى , غير ما ذكرنا في إطار الأسرة . لكنها تنطوي على خصوصية بنحو ما,
كالمهر , فلصلح حوله يكون بتنازل المرأة عن جزء منه استرضاء لزوجها . والقسم والإنفاق . إن كان الرجل قد تزوج بامرأة أخرى , وثقل عليه حمل الإنفاق , فالصلح يكون من جهة المرأة بالتغاضي عن بعض النفقات . وربما تطلع الرجل إلى امرأة أخرى أجمل من زوجته , وتاقت نفسه إلى الزواج . ففكر بطلاق زوجته , ليتزوج الأجمل , فالصلح هنا , أن تطلب استبقاءها وأولادها , مقابل أن يتزوج زوجها .
والعجب ! كل العجب ! من بيان الله عز وجل , وهو يغوص إلى أعماق النفوس , ويكشف عن طبائع البشر . تلحظ هذا بادياً في هذه العبارة " وأحضرت الأنفس الشحّ "
فالرجل قد ينتابه الشحّ , فيقصر خيره عن زوجته , والمرأة كذلك , قد يظهر فيها هذا الطبع , فتقصر خيرها عن زوجها . لذلك , لابد من اطراح هذا الطبع الشائن , الذي مبعثه شدة البخل , وتجاوزه إلى الإحسان . ذلك الخلق العالي , فهو الحبل المتين الممتد بين الزوجين ,والذي فيه سر الزوجية المستدامة . وإنه ليستر الكثير من العيوب بدوامه
وإليك هذا الحديث أختم به هذه الرؤية من رؤانا القرآنية : عن عبد الله بن عباس , رضي الله عنهما , قال : ( خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت : " لا تطلقني , وأمسكني , وأجعل يومي لعائشة , ففعل . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين , يومها ويوم سودة . ) رواه الترمذي . / تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه . محمد علي طه الدرّه ج3 ص / 148 / .
لقد أوصدت سودة بنت زمعة , أم المؤمنين باب الطلاق , ونالت شرف البقاء ببيت النبوة , وكذلك شرف الزوجية في الجنة , مقابل شيء بسيط من الدنيا , هو : التنازل عن يومها لعائشة , إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم . وأخيراً , انظر هذا ترى عجبا!
كان عمران الخارجي من أقبح بني آدم , وامرأته من أجملهم . فنظرت إليه يوماً , وقالت : الحمد لله , على أني وإيّاك من أهل الجنة , قال : كيف ؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت , ورزقت مثلك فصبرت , والجنة موعودة للصابرين والشاكرين .
هكذا هن النساء العاقلات , يدخلن السرور على قلوب أزواجهن , فيحظين بعالي المكانة وطيب العيش . وأي صلح يفوق صلح سودة مع النبي صلى الله عليه وسلم , وصلح زوجة عمران الخارجي له بساطة ويسراً ؟ !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ