الفلسطينيون والانتفاضة الثالثة
د.غازي حسين
تكتب فلسطين حاضرها ومستقبلها منذ عقود بدماء شعبها، ملحمة بطولية في الشهادة والاستشهاد والمقاومة والتمسك بعروبتها، دفاعاً عن المسجد الأقصى المبارك ومدينة الإسراء والمعراج، في واحدة من أعظم الملاحم البطولية الخالدة في تاريخ الإنسانية.
ولقد رفض ويرفض الشعب العربي الفلسطيني الهزيمة والاستسلام والتنازل عن وطنه، وطن آبائه وأجداده، للكيان الصهيوني وللاستعمار الأوروبي والامبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية وأتباعهم من الملوك العرب، ويرفض الاعتراف بكيان الاستعمار الاستيطاني اليهودي العنصري والإرهابي، ويناضل بأشكال المقاومة كافة لتحريرها وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية لكل مواطنيها دون تمييز بالدين والعرق.
وإن قرية العراقيب في النقب التي بناها سكانها العرب /78/ مرة ودمرتها دولة الاحتلال /78/ مرة تقدم مثالاً واضحاً على التمسك بعروبة أرض فلسطين العربية، ويشكّل كيان الاستعمار الصهيوني أبشع أنواع الترحيل الجماعي والتطهير العرقي لإقامة دولة اليهود الاستعمارية العنصرية والإرهابية والمعادية لجميع شعوب المنطقة وللاستقرار والسلام في العالم.
إنّ ما جرى ويجري من تهويد لفلسطين العربية هو من صنع الدول الاستعمارية وحكام الإمارات والممالك التي أقامها الاستعمار، وتحميهم الامبريالية الأمريكية، وترضى عنهم الصهيونية العالمية، ولقد أدت اتفاقات الإذعان في كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة للاعتراف بإسرائيل وإقامة العلاقات الدبلوماسية معها والتنازل عن عروبة فلسطين والموافقة على المشروع الصهيوني لتصفية القضية، وكان طبيعياً أن يرد الشعب الفلسطيني بانتفاضته الوطنية المتواصلة منذ سنوات.
ولقد بدأت الانتفاضة الأولى /انتفاضة الحجارة/ في كانون الأول عام 1987 عفوية في قطاع غزة، إثر قيام سائق شاحنة صهيوني بدهس أربعة من العمال الفلسطينيين على معبر /إيرتز/ ثم انتقلت الانتفاضة إلى القرى والمخيمات والمدن الفلسطينية، وعجزت إسرائيل عن إخمادها، وجاء اتفاق الإذعان في أوسلو بتاريخ 9/8/1993 وتوقيع إعلان المبادئ في البيت الأبيض بتاريخ 13/9/1993 وقضى عليها.
وبدأت الانتفاضة الثانية /انتفاضة الأقصى/ في 28 أيلول 2000 بسبب دخول وتدنيس السفّاح شارون لحرمة المسجد الأقصى، وفشل المفاوضات التي رعاها بيل كلينتون في كامب ديفيد بين عرفات وباراك في تموز 2000 واستشهد فيها /4412/ وجرح /48322/ فلسطينياً، وقُتل من الجيش الإسرائيلي /334/ وجرح /735/ وبلغ مجموع القتلى الإسرائيليين من الجيش والمدنيين /1069/ قتيلاً و/4500/ جريح، وجاءت خارطة الطريق، وتضمنت رؤية الدولتين التي أخذها مجرم الحرب بوش من مشروع السفاح شارون، ووافق عليها الرئيس الفلسطيني وجامعة الدول العربية وأنهت الانتفاضة الثانية.
وفي عام 2014 شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة في القدس والخليل وبيت لحم وداخل الأراضي المحتلة عام 1948 وفي قطاع غزة هبّة شعبية على إثر اختطاف وتعذيب وحرق الفتى محمد أبو خضير حيّاً على يد حاخام صهيوني وثلاثة من أولاده، وشملت الهبّة الشعبية كل فلسطين التاريخية، حيث دارت مواجهات عنيفة ومظاهرات نظّمها الشباب الفلسطيني الغاضب ضد جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية.
وهتفت جماهير المشيعين في مخيم شعفاط بالقدس تصرخ “انتفاضة..انتفاضة” وارتفعت الأصوات تطالب باندلاع انتفاضة ثالثة، ولكن التنسيق الأمني بين أجهزة الأمن الفلسطينية والإسرائيلية والحرب العدوانية التي أشعلها الإرهابي نتنياهو على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة عام 2014 حال دون اندلاعها آنذاك، ولعبت سياسات أنظمة دول الخليج وفضائيات الجزيرة والعربية وجامعة الدول العربية في الحيلولة دون تصعيد الهبّة الشعبية إلى الانتفاضة الثالثة.
وتحدّث وزير الخارجية جون كيري عن إمكانية اندلاعها إذا ما بقيت إسرائيل متمسكة بمواقفها المعرقلة لتحقيق أي سلام ورؤية الدولتين، وحذّر جيفري فيلتمان السفير الأمريكي السابق في لبنان ومساعد الأمين العام للأمم المتحدة من اندلاع انتفاضة ثالثة، ولقد وقفت إسرائيل والسلطة الفلسطينية ودول الاعتدال العربي والتي وقّع بعضها اتفاقات إذعان مع العدو الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية ضد اندلاع الانتفاضة الثالثة.
وخلال الشهرين الماضيين اندلعت الانتفاضة الفلسطينية مجدداً، معلنة أنها تريد تحرير الأرض واستعادة الحقوق، وموجهة رسائل بالغة الدلالة للقيادات الفلسطينية أولاً، وللنظام الرسمي العربي، وللمحتل الإسرائيلي وداعميه في الغرب الأمريكي والأوروبي، بأن قضية فلسطين حية لن تموت، وأن هذا الشعب الذي انتفض منذ عقود، سيواصل نضاله وصموده حتى تحقيق حلمه بدولته الحرة فلسطين.