التنـاص أو العولمة النصية
٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١بقلم محمد شداد الحراق
إن عملية الإبداع الفني للنص الأدبي مخاض فكري وذهني ونفسي، تسبقه تفاعلات كثيرة، تمر عبر مراحل مختلفة من الإخصاب والتمازج الجيني للنصوص السابقة، فتتلاقح وتتفاعل فيما بينها لتنتج مولودا فنيا جديدا يطلق عليه اسم (النص الأدبي). فذاكرة المبدع أو فكره عبارة عن مستودع تتراكم فيه الصور والأفكار وتتزاحم فيه التعابير والمعاني. والمبدع كلما حاول تشغيل طاقته الإبداعية، يجد نفسه مضطرا للاستجابة للتداعيات التي تتداعى إلى ذهنه، فتنساب بتلقائية وعفوية لتساهم في البناء أو التشكيل الفني للنص الجديد. ولكن بصمات وآثار تلك النصوص تبقى حاضرة بصورة صريحة أو ضمنية في المولود الجديد، لأن المبدع، بصفة عامة، لا يستطيع التنكر لمخزونه الثقافي، أو إحداث قطيعة فنية مع ذاكرته. فهو في حوار متواصل مع ثقافته، يلبسها ويتمثلها ويخضع لها، ينصت إليها، ويصغي لنداءاتها وتوجيهاتها، ويعمل بإرشاداتها وتعليماتها. إنه يظل في أغلب الأحيان مخلصا لتراثه الخاص الذي تشكل مع دوام المطالعة وكثرة الاحتكاك وحجم المحفوظ الذي حصل عليه خلال مسيرته التحصيلية ومساره الثقافي. كل ذلك ساهم في طبع ذائقة الأديب بطوابع مختلفة، تظهر ملامحها في المستويات الفنية لنصوصه.
ولقد عالج النقد الأدبي- قديمه وحديثه- هذه الظاهرة، وجعل لها مباحث في المصنفات والدراسات النقدية، واختلفت مواقف النقاد وآراؤهم ومصطلحاتهم حول هذا المعطى الفني.فقد نظر النقاد العرب القدامى إلى هذا الموضوع باهتمام كبير، ووضعوا له مفاهيم ومصطلحات، وصنفوا فيه كتبا ومصنفات. وكان مصطلح (التضمين) أهم ما وضعوه في هذا السياق، وذلك للدلالة على عملية تسرب المعاني والأساليب وانتقالها من نص إلى آخر، ومما جاء في تحديدهم لهذا المفهوم، قول ابن الأثير في شرح عملية التضمين، وهي "أن يضمن الشاعر شعره والناثر نثره كلاما آخر لغيره قصدا للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود"#. ولكن النقاد العرب ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حينما تتبعوا الأشعار واقتفوا آثار النصوص فلاحظوا ظاهرة الأخذ والاستفادة من بعض الأعمال الإبداعية السابقة. ونظروا إلى هذه الظاهرة نظرة الريبة والرفض، ويدل على ذلك مصطلح (السرقات)# بما يحمله من دلالة قدحية. كتعبير عن موقف الإدانة لكل ممارسة إبداعية بالتبعية. ولذلك تعددت المفاهيم الحاملة لهذا المعنى كـ(الأخذ ـ الإغارة) على سبيل المثال. وقد ميز النقاد العرب بين هذه الظاهرة وخاصية (الاقتباس)، وحددوا هذا الإجراء في الاستعانة بالنصوص الدينية في عملية الإنشاء الشعري والنثري.
ومما لاشك فيه أن ظاهرة تفاعل النصوص وتلاقحها وتحاورها وانفتاحها على بعضها البعض قد فرضت نفسها على الساحة النقدية، ووجهت اهتمام النقاد إليها، وهذا ما تدل عليه أعمال النقاد القدامى الذين تتبعوا ظواهر الأخذ والسرقات في أشعار المتنبي وأبي تمام وغيرهما. وقد فرضت هذه الظاهرة نفسها أيضا على النقاد المعاصرين، وحظيت باهتمام خاص في الدراسات النقدية الحديثة. وقد أوجد لها النقد المعاصر مصطلحا واسع الدلالة يندرج فيه كل ما يتعلق باستدعاء النصوص وتحاورها، وهو مصطلح (التناص). وقد كانت بداية استعمال هذا المصطلح النقدي مع أعمال الناقد الروسي (ميخائيل باختين)# وتلميذته (جوليا كريستيفا)#. ثم ما لبث هذا المصطلح أن فرض نفسه في الساحة النقدية على يد نقاد آخرين من أمثال (جيرار جينت)# و(رولان بارت)# وغيرهما. وكانت أغلب التعريفات تلتقي في مركز أساسي يجعل من التناص مصطلحا يدل على اندماج النصوص وتقاطعها وتحاورها، وذلك باعتبار أن أي نص ما هو إلا نتاج لنصوص كثيرة سابقة عليه، وكل نص هو تشرب واستيعاب وتحويل لنصوص أخرى#. أو بعبارة جنيت، هو الحضور الفعلي لنص داخل نص آخر.
ومن هذا التداخل وهذا التقاطع تنشأ فيزيولوجية النص الجديد، وتتشكل لوحته الفيسفسائية ـ حسب تعبير كرستيفا ـ. فتظهر التفاعلات النصية المتعددة داخل بنية النص الواحد، ويتم إلغاء الحدود بين تلك النصوص جميعها، مما يعطي للنص قدرة على الانفتاح على آفاق جديدة، تجعله غنيا وحافلا بالدلالات والمعاني. وحينما تلغى الحدود بين النصوص، فهذا يعني إلغاء الأبوة النصية أو الملكية الخاصة للنص. لأن النص لم يأت من عدم، ولم ينشأ من فراغ. وإنما جاء إفرازا لتلاقحات نصية وتفاعلات كثيرة ومؤثرات متعددة. وهذا ما اصطلح عليه بالعولمة النصية التي تعمل على تذويب الحدود وإلغاء الخصوصية والملكية في النصوص الأدبية. فالنصوص الحاضرة هي مستودع لنصوص كثيرة غائبة، ورحم تتجمع فيه فعاليات نصية متعددة قد تكون متجذرة في التاريخ والتراث أو مواكبة ومعاصرة. إذ "ثمة عناصر غائبة من النص، وهي على قدر كبير من الحضور في الذاكرة الجماعية لقراء عصر معين"#.
على أن هذه النصوص الغائبة ليست كلها سهلة الإدراك والضبط فغالبا ما تكون في حالة زئبقية لزجة تمتنع عن التصيد والبوح، وبعضها يتحول إلى شفرات منسية لا يمكن إدراكها وتحديد أصولها القديمة#.
فالظاهرة التناصية تستهدف استثارة ذاكرة القارئ واستدعاء مخزونه القرائي ودفعه إلى الاستغراق في مخاطبة النصوص واستنطاقها والاستماع إلى الأصوات المنبعثة من أعماقها. فتتحول القراءة النقدية للنصوص الأدبية إلى رحلة فنية في الذاكرة الثقافية، وإلى تشخيص لجينات النص وعناصره البنيوية وشفراته الوراثية. فالقراءة التناصية تتحول إلى تحليلات مخبرية دقيقة للكشف عن الترسبات الكامنة في طبقات النص والتي أصبحت، مع عملية الاندماج، جزءا من كيانه الفني. كما أن فهم النص متوقف على قدرة القارئ وفطنته لإدراك العلاقات التناصية والاطلاع الواسع للتمييز بين النصوص المزاحة ووجهة النص الذي حل محلها#.فحضور العناصر المتحاورة داخل جسد النص الواحد يحتاج إلى فراسة القارئ المنفتح في قراءاته على نصوص متعددة.
وإذا كان النص الأدبي ملتقى لنصوص كثيرة متحاورة ومتقاطعة مقروءة ومسموعة، فهذا يعني أن النص ليس ذاتا مستقلة، بل إنه سلسلة من العلاقات التي يقيمها مع نصوص أخرى سابقة أو معاصرة، كما يعني أن "النص المعين المقروء لا يمكن فهمه دون الرجوع إلى عشرات النصوص التي سبقته وأسهمت في خلقه وتكوينه"#. وبذلك تكون عملية التناص عملية استيعاب وتحويل لعدد من النصوص، ويصبح كل نص نوعا من إعادة إنتاج لنصوص سابقة أو متزامنة#. وهذا يفرض عدم الاكتفاء بأسلوب الاجترار السكوني للنصوص الأخرى، ويدعو إلى تحقيق التمثل والتفاعل والامتصاص والتحويل. وذلك لأن "الكتابة مستويات مختلفة، فإما أن تكون سطحية اجترارية، وإما أن تكون إبداعا جديدا. والإبداع الجديد لا يسمح بظهور آثار نصوص سابقة في لحمته، وإن جعل من هذه النصوص منطلقا له. وبعبارة أخرى، فإن أي نص أدبي لا يستطيع إخفاء آثار السابقين وآرائهم يظل نصا بعيدا عن مجال الإبداع"#.
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article30247