رسائل الأشجان .. لأبي علي الغلبان /2
الرسالة الثانية: سفر الخوف
كتب الغلبان في تقديمه لسفر الخوف:
جلست استرق السمع قبالة الوطن••
كان صوت الصمت يثير الريبة ••
الليل مثل الليل،
والخوف مثل الخوف••
والعتمة مثل العتمة ،
بعضها فوق بعض ، تنام على سفوح الجبال وأسطح المنازل•
كنت قاب قوسين أو أدنى ..
دنوت إلى عبق ترابه وعتيق زيتونه وأزهار لوزه الثلجية••
قريب بعيد هو••
أراه أبي وأمي ..
وأراه الحبيبة .
أراه امرأة تغمر أطفالها بالدفء••
وأراه عيون أطفال تشغلهم الابتسامة عن الحزن ، بيتاً وشارعاً أو وريقات شجيرة تعزف للوقت نهايات الخريف••
وحين تضيع هذه الصور•• يكون المرء كمن ولدته أمه•• عارياً من كل شيء•• ضعيفاً لا ظهر له أو سند••
لذلك•• كان الخوف المميز من فقدان الصور والأمل•• فالخوف هو مكونات المغامرة أو التراجع!
كتب أيضاً على هامش التقديم:
(كان حسين رمضان من رفح ، في دمشق ، يحلم بمدينة فاضلة ••
وكان توفيق حجي من غزة في ليبيا ، يحلم بقرية فاضلة ••
وكان محمود فرسخ من طولكرم ، في إربد ، يحلم بخيمة فاضلة••
وأنا أحلم بغد أفضل ..
نحلم ، كنا جميعا ..
لا أعرف أينهم ، أينني الآن ••
لا أعرف مصير أحلامهم••
فبقيت وحدي•• ألهث خلف الذاكرة والحلم)•
00
في واقع الحال، لا نستطيع أن نتفق مع الغلبان حول تكريس ظاهرة الخوف في زمن يعج بالشجعان (••!) إلا أنه بطريقة خاصة كان يقنعنا بوجهة نظره في كثير من الأحيان••!
يقول:
كان للغول في عقول الصغار ألف حكاية ..
تحكيها جدتي أو عمتي أو خالتي .. لا أعرف حتى الآن لماذا كانت الحريم فقط تحكي لنا تلك الحكايات ، خصوصا قبل النوم ..؟
كانت الحكايات تلك تترصد أحلامنا ، فيهرب الشاطر حسن من الذاكرة!•
لذلك كنت في حاجة إلى قرار يبعد عني الخوف لاجتاز أكثر من حاجز واجمع شتاتي••
بدايات المنافي تكون مرة ، كدواء ..
لا بد من العودة للوطن مهما كلف الأمر ..
كان يجب أن ابتلع نبض قلبي ، وتدفق شراييني ، حتى لا ترقبني عيون البنادق وأذيال السياط ••
كان اجتياز الأسلاك إلى الوطن جريمة مزدوجة في النهار•• وخوفا واحدا في الليل•• والخيار الأفضل هو الثاني••
الساعة تقترب من الثالثة فجراً••
درب جبلي ، بعد اجتياز النهر ، لا يتسع لاثنين •• جرف جهة اليمين، وهوة نحو اليسار•• وعلى بعد عشرين مترا تقريبا ، تسد صخرة منتصف الدرب•• فوقها شيء أسود لا يتحرك ..
يضع الغلبان بضع نقاط بين قوسين ، يقول:
( أنا الآن في منتصف الخوف•• ).
خوف أمامي••
خوف خلفي ..
المجازفة الأخيرة يستحقها الوطن•• التراجع يحتاج إلى جرأة•• والإقدام يحتاج إلى جرأة أكبر••
اقتربت•• ربع خطوة، نصف خطوة، .... خطوتين ..!
كان ضبع يرقبني، لم يتحرك من جلسته تلك، كأنه كان ينتظرني ، كأنه مخلوق لي ..!
خلعت سروالي وقميصي ( بقيت بالزلط ) وجعلتهما درعاً على ساعدي••
اقتربت أكثر•• شعرت أن أنفاسي تثير عاصفة، حاولت كتمانها•• مددت ساعدي حتى إذا راودته فكرة اللحم وقرقشة العظم، القمته ملابس جافة وبقايا نعال ••
ضيق إلى حد الاختناق ذلك الدرب ••
صامت إلى حد الفجيعة ذلك الصمت ..
الأمكنة والوقت كخرم إبرة••
عيناي الآن محدقتان في عينيه ••
وحدي أنا••
وحده هو••
وحدنا نحن ..!
النتيجة تحسمها الشجاعة وليس الخوف••
قلت في نفسي واقتربت، كأني أشم أنفاسه ..
كادت نظراته تخذلني••
ساعدي الآن عند أنفه..
كُلْ•• لم يأكل•• !
تجاوزته في لحيظات كأنها دهر••
تراجعت نحو الأمام رويداً رويداً•• خطوة•• اثنتين ، ثلا ...
لم أركض حتى لا يطمع في جسدي ..
لا أريده أن يكتشف خوفي الذي تلاشى تماماً من رأسي وسقط في قدمي••
بعد أمتار قليلة•• وقفت•• نظرت إليه لكنه أشاح بوجهه عني••!
..
تركني ارتدي ملابسي••
ذلك الضبع النبيل•• استحى أن ينظر إليّ عرياناً•• !
...
علمني منذ تلك الليلة أن الخوف من المكونات الأساسية للمغامرة والإقدام•• في لحظة ما••
أمامي ساعة قبل أن يشقشق الضوء•• عليّ أن اختبئ من أعدائي المدججين بكل وسائل القوة والبطش ..
أنا أعزل ، لا أريد أن أموت دون ثمن ..!
سأنتظر حتى ينام الليل مرة أخرى على سفوح الجبال وأسطح المنازل••
نمت تحت شجرة تين حتى شمس الضحى ، حين يد مرتعشة لسيدة ترتدي ثوبا مطرزا ، تربت على رأسي ، وفي الأخرى رغيف خبز وبعض زيتون••
ابتسمت، وابتسمت هي••
كان الوطن هو كلمة السر الوحيدة التي نطقت بها العيون••!
ابتعدت .. وبقيت تحت شجرتها حتى جن الليل ..
...
..
.
سلاما أيتها المرأة المطرزة ..
سلاما أيها الضبع النبيل ..!!
حسن سلامة
h_salama_51@yahoo.com