التجديد الحضاري بين "محمد إقبال" و"مالك بن نبي"
كتبه الدكتور جيلالي بو بكر
لما كان التجديد الحضاري شرط و أساس بناء الحضارة، الحضارة التي نبتت عناصرها و أطوارها و منتجاتها في محيط مليء بالنقص و الفساد و التخلف في جميع ميادين الحياة، و هي إما أن تقوم في قوم ضارب في حالة البداوة و السذاجة و البساطة و التخلف، أو تقوم في قوم نهض بعد غفلة، و صحا بعد نوم، و تذكر بعد نسيان، و تخلّف بعدما كان متحضرا، و في الحالتين معا فإنّ الأمر يتطلب من القائمين على التجديد الحضاري، و على بناء الحضارة و على صنع التاريخ، بذل المزيد من الجهد و التفاني في العمل، في المجال الروحي و الفكري و العلمي من جهة و في المجال العملي التطبيقي من جهة أخرى، لأنّ الحضارة في أصلها تقدم و ازدهار و بناء في الجانب الروحي و الفكري و العلمي من جهة و تطور في المجال العملي التطبيقي من جهة ثانية، و يتعلق الأمر بالعلوم و الأفكار و بالفنون و الصناعات و التقنية و العمل و وسائل و أساليب العمل و علاقات العمل، و بتنظيم حياة الفرد و المجتمع، هذا الازدهار يكون مزدوجا في حياة الإنسان الروحية و المادية. فالحضارة الإسلامية شهدت في أوجها ازدهارا كبيرا في المجال الروحي و سجلت الفتوحات الإسلامية ذلك، كما شهدت ازدهارا كبيرا في مجال الزراعة و صناعة الأسلحة و الفن المعماري و غيره.
إنّ حركة التغيير التي ينهض بها زعماء الإصلاح و التجديد لا تنبعث من العدم و الفراغ بل لها أسبابها و شروطها و مراحلها، تجعلها تنمو و تتبلور حتى يكتمل نضجها و تينع ثمارها، فتصبح صالحة للاستعمال، و قابلة للقطف و الاستغلال، ذلك ما عرفه المسلمون في حضارتهم الزاهية منذ أن أسسها "رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم" إلى وقت أفولها و انهيار معالمها و كيانها و لم يبق منها سوى الذكريات و العبر محفوظة في الأذهان و الكتب و غيرها من مصادر التاريخ المباشرة و غير المباشرة، و جاء عصر الانحطاط و الضعف في حياة المسلمين و تكلّل بالاستعمار الأوروبي الغربي للعالم الإسلامي في العصر الحديث، فازداد العرب و المسلمون انحطاطا و ضعفا على الرغم من بقايا محاولات الدفاع التحررية و الفكرية الصادرة ممن تسلّح إيمانهم القويّ بالروح الثورية الإسلامية، سواء في مجال العقيدة و الدين أو في مجال الفكر و السياسة أو في مجال الكفاح المسلح، و شهد العالم العربي و الإسلامي الحديث بعد الانحطاط و الضعف و بعد الاستعمار محاولات عديدة للإصلاح و التغيير و التجديد، و عرف عددا من المصلحين و المجددين، منهم "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده" و"محمد إقبال" و"مالك بن نبي" و غيرهم.
يكاد يتفق الباحثون و النقاد في عصرنا على أنّ زعماء الإصلاح و دعاة التجديد في العالم العربي و الإسلامي الحديث و المعاصر يفتقرون تماما إلى رؤية فلسفية و نسق فكري متكامل في تناولهم قضية الحضارة و مسألة التاريخ، يفتقر الفكر لديهم إلى فلسفة تاريخ و فلسفة حضارة، خاصة إذا ما قورنوا بفلاسفة الحضارة و التاريخ في العالم المتقدم، و رؤيتهم للواقع و للتاريخ عاجزة عن الإحاطة بسنن التغيير و عن الإلمام بشروط و لوازم النهضة الحضارية و التقدم التاريخي، فهم ليس بأيديهم فلسفة حضارة أو فلسفة تاريخ ، و هو عوز جعل العالم الإسلامي لا يبرح مكانه، و لا يكون له أمل في النجاة، لكن هذا لا يعني عدم وجود محاولات فكرية نهضوية إصلاحية تجديدية تتسم بالنسقية و الرؤية الفلسفية في العالم الإسلامي الحديث و المعاصر، فأزماته و محنه صنعت رواد فكر تميّز بالأصالة و التجديد، تجاهلتهم تماما تلك الرؤية، نذكر منهم دائما على سبيل المثال لا الحصر " محمد إقبال " و" مالك بن نبي ".
لقد كان " محمد إقبال " على حد وصف من عرفوه و عرفوا فكره و فلسفته متدينا، و فيلسوفا و شاعرا و متصوفا، و قلّما تجتمع هذه الأوصاف في شخص واحد في عصر مليء بمغريات الحضارة الغربية الحديثة و المعاصرة التي أبهرت العديد من المفكرين فانغمس في طلب ثمارها و غرق في البحث عن استثمار و استغلال منتجاتها، و لو على حساب قيّمه الذاتية و تراث أمته العتيد. إنّ ارتباط " محمد إقبال " بالإسلام و بتاريخه و فهم كل منهما، و بالحضارة الغربية و بالفكر الغربي و الإلمام بهما، و سعة اطلاعه بتاريخ الفكر الإنساني، و إحاطته بظروف و أوضاع المسلمين في عصره، و ما تميّزت به من تخلف و انحطاط في جميع جوانب الحياة، هو ما جعل منه المفكر المتميز المتفرد و المجدد الفريد في نوعه، و صاحب فلسفة تمثل الأولى من نوعها في عصره لما توفرت عليه من نسقية و تكامل في المنظور و الرؤية إلى الإنسان و المجتمع و الحياة و الوجود، و كل ما يتصل بها في عالم الدنيا و في العالم الآخر. و الإسلام دين يتميز بالوحدة و الحيوية و العالمية بعيدا عن التعصب لعرق أو لون أو لإيديولوجية أو لأرض أو لغيرها مثلما نجد في كثير من الاتجاهات و المذاهب المختلفة. و الحقيقة في أصلها و في جوهرها روحية، مبدؤها روحي و مآلها روحي، و السبيل إليها التجربة الواقعية و التجربة الصوفية معا، من خلال العلم و الدين معا، و استخدم" محمد إقبال " عبقريته الشعرية و موهبته الأدبية في نشر فلسفته و دعوته إلى الإصلاح و التجديد، فكان مثالا حيّا للشاعر المسلم، و العالم الداعي و الفيلسوف المتميز، و الصوفي العامل، و خطته في التجديد تقوم على النقد و الهدم و إعادة البناء، و هو منهج سلكه و مارسه في فكره و في كتاباته النثرية و الشعرية، أهمها كتاب" تجديد التفكير الديني في الإسلام " الذي عرض فيه عناصر خطته و منهجه في التغيير و التجديد بشيء من التفصيل في النقد و التصحيح و التقويم، هذه الخطة تمثل جزءا من نسقه الفلسفي و رؤيته الفلسفية، و ما تميّزت به هذه الخطة من عمق و دقة و أصالة و تجديد تجعل الإنسان المسلم و غير المسلم يجد فيها ضالته في التغيير، للوصول إلى مستوى التغيير المطلوب.
أما "مالك بن نبي" فكان واحدا من المفكرين المسلمين النوادر في عصرنا، اهتم بقضية النهضة و موضوع الحضارة اهتماما متميّزا، حيث ركّز في ذلك على شروط النهضة و دواعي التحضر، و على حصر أسباب التخلف و الانحطاط، و على تحديد عوامل التراجع و انهيار الحضارات و أفولها، و قدّم نظرية في الحضارة هي الأولى من نوعها و فريدة في طابعها، كما قدّم رؤية فلسفية إلى التاريخ و إلى الحضارة تختلف عن تلك التي جاء بها "عبد الرحمن ابن خلدون"، و عن تلك الرؤى التي جاء بها مفكرون غربيون أمثال" أرنولد توينبي" و"أزولد سبنجلر" و"فيكو" و غيرهم، شغلته قضية الحضارة فأدرك أنّ مشكلة كل شعب في أصلها و جوهرها مشكلة حضارته، و لما كانت الشعوب الإسلامية المعاصرة تعيش حالة التخلف و الانحلال و الانعزال و الاستعمار بمختلف أشكاله عاش هو لشعبه و لأمته الإسلامية، و لفكره و لنظرته التي تؤمن بأن العالم الإسلامي يملك الطاقات و الإمكانات الروحية و المادية ما يدفع به فعلا إلى المساهمة في حل مشكلاته و هي مشكلات حضارة لا غير و ما يؤهله لبلوغ الحضارة و الرقي، و ما يسمح له بالمساهمة الحقيقة في تطوير العالم.
إنّ التخلف الفكري و الثقافي، و الانحطاط الاجتماعي و الاقتصادي، و الاستعمار و القابلية للاستعمار، كلها أوضاع و ظروف تنمحي من الوجود إذا تمسكت الأمة بالقاعدة القرآنية التي تدعو إلى التغيير و التجديد و التحوّل على مستوى ذات الإنسان و في داخل أعماقها، أما تغيير الواقع الخارجي فيكون بعد ذلك بفعل التغيير داخلي، و يكون الله في عون المسلم ما دام المسلم يغير ذاته أولا ثم يغير محيطه. يقول تعالى:﴿إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾.[1]
إنّ خطة "مالك بن نبي" في الإصلاح و التجديد هي التي دفعتني إلى الاهتمام بفكره و فلسفته في الحضارة، من خلال موضوع التجديد الحضاري عنده، و هي خطة من دون شك يجد فيها المسلم و غير المسلم تعبيرا عن أوضاعه و عن تطلعاته، و يجد فيها الوسائل و السبل للتخلص من دنيا التخلف و الانتقال إلى عالم الحضارة و حقل البناء التاريخي و فضاء الازدهار الاجتماعي.
إنّ بحث موضوع الإصلاح و التجديد بين"محمد إقبال"و"مالك بن نبي"يعود إلى ما آل إليه المجتمع الإسلامي من تدهور و انحطاط في كافة مجلات الحياة، و ارتبط ذلك مع وجود حضارة غربية راقية، و بوجود اعتبارات تقول بأن مقوّمات الإبداع و التحضر من نصيب بعض الناس دون البعض الآخر، مثلما هو الحال عند "أرنست رينان" و في التصور النازي للجنس الآري، و الذي يقضي بمركزية التقدم الحضاري في أوروبا وحدها قديما و حديثا و معاصرا، بينما صيحة "محمد إقبال" و دعوة "مالك بن نبي" إلى الإصلاح و التجديد تبطلا كل زعم من المزاعم الداعية إلى العنصرية المدمرة و المكرسة لظاهرة التباهي و التفاضل بالأجناس القاتلة، فالحضارة لا وطن لها، و العلم ليس حكرا على أحد، و التقدم الحضاري من نصيب أيّة أمة طالما توفرت شروطه و لوازمه.
فالمتصفح للمحاولة الفكرية الفلسفية في الإصلاح و التجديد عند "محمد إقبال" يجد أنّ رؤية هذا الأخير في التغيير و التجديد و الحضارة ارتبطت بفلسفته ككل، و بنظرته إلى الحياة عامة. و رؤيته تختلف عن رؤى زعماء الإصلاح الآخرين في العصر الحديث. فهو يرى أن دوافع التغيير و التجديد حالّة في وحدات الوجود، الإنسان، الكون و الله، و الحياة متغيّرة باستمرار لا تعرف الثبات و الجمود، و تستمد تغيّرها و خلودها من طبيعتها النهائية و من الأصل الأول و هو الذات المطلقة. و التغيير لا يحصل في الإنسان و لا يجرى في الواقع دون أن يحدث في أعماق الذات الإنسانية أولاً، و يتعلق هذا التغيير بمعنى الحياة و الوجود و الإنسان، و بأساليب التفكير و العمل و بالمبادئ و القيّم التي يؤمن بها الإنسان، و بالأهداف و الغايات التي يصبو إليها. و التجديد في أصله و في مساره و في مقصده و مبتغاه روحي، و المادة ذات أصل متأصّل فيما هو روحي. فالتجديد تجديد في قوى النفس و في محتوياتها الروحية و الفكرية و الأخلاقية، و تجديد في قوى المجتمع من خلال اجتهاد البشر لتنظيم و تطوير و ازدهار حياتهم الاجتماعية، و تسخير قوى العالم لخدمة مطالب و مرامي الإنسان الروحية في أصلها. و الحضارة هي السمو الروحي الذي يبلغه الإنسان من خلال النهوض بالعمل في المجتمع و الطبيعة. و ليس المهم بالنسبة للذات الإنسانية أن ترى الأشياء بل المهم عندها أن تصير و تصبح شيئا. من خلال التجديد الحضاري و الإبداع العلمي و الازدهار الثقافي و الاجتماعي.
ما تميزت به نظرة "محمد إقبال" الفلسفية إلى الحضارة و التجديد الحضاري خاصة، و فلسفته بصفة عامة هو أنها تشكل رؤية فلسفية إلى الحياة و الإنسان و الحضارة، و كل ما يرتبط و يتعلق بهذه الجوانب. و تتميز هذه الرؤية الفكرية الفريدة في نوعها بالوحدة، لما بين عناصرها و أجزائها من اتساق و انسجام و تكامل، فهي عبارة عن نسق فكري فلسفي واحد، لا تفكك و لا انفصال بين جوانبه، و تتصف بالقوّة و المتانة لارتباطها بالإسلام و بتعاليمه و قيّمه العليا، و بالعمق لرحابه وسعة التأملات الميتافيزيقية التي قامت عليها، و بالدقة في التحليل و النقد و الاستنتاج، و هي أوصاف قلّما نجدها لدى مفكر في عصر طغى عليه التخصص، و سيطر الفكر التجريبي الوضعي و سادت فيه النزعة البرغماتيـة.
ارتبطت فكرة الإصلاح و التجديد عند "محمد إقبال" بالإسلام، و بمبادئه و قيّمه، باعتباره مشروعا حضاريا إنسانيا، يمثل رسالة إنسانية عالمية، دخلت التاريخ، و دخلت المعترك الثقافي و الحضاري و الديني، ليأخذ مكانته في ساحة هذا المعترك، و يفرض وجوده بقوّة، لما له من قوّة و مناعة في جميع جوانبه. و إستراتيجية النقد و إعادة البناء في فلسفة "محمد إقبال" استمدت قوتها منه، بما انطوت عليه من تصورات و أفكار تمثل مشروع رؤية فلسفية، و مخططا فكريا يستهدف بناء فلسفة الدين في الإسلام بناء جديدا، و توجيه الذات الإنسانية إلى الحياة الروحية الكاملة، و إلى تخلّقها بأخلاق الله. و تسخير العالم المادي لخدمة مرامي الإنسان، هذا العالم المادي المتأصل فيها هو روحاني، و توجيه الإنسان لإعادة تنظيم حياته الاجتماعية وفق مبادئ إنسانية عالمية مستمدة من الإسلام و من الطبيعة البشرية في جانبها الفردي و في جانبها الاجتماعي. استمدت هذه الفلسفة و انبثق هذا المشروع من الظروف و الأوضاع النفسية و الفكرية و الخلقية و الاجتماعية الفاسدة في القرن العشرين، بسبب غياب أسلوب حياة يضمن التوازن بين المادة و الروح، و لا يوجد غير الإسلام الذي يحفظ هذا التوازن، و من الفكر الإسلامي القديم، و من الحضارة الإسلامية و ما تميزت به من نماء و ازدهار في كافة المجالات، الأمر الذي جعل الحضارة الأوروبية الحديثة تحمل الكثير من عناصرها و معالمها، و من الحضارة الغربية، و من الفكر الغربي، و ارتبط ذلك بمناهج و نتائج العلوم المختلفة، و ما حققته تلك العلوم في الجانب التطبيقي في مجالات الحياة المختلفة، سواء بالنسبة للفكر العلمي في التأثير على الطبيعة بواسطة التقنية، أو بالنسبة لهذا الفكر في تأثيره على حياة الإنسان النفسية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية.
اقترنت الحضارة و ارتبط التجديد الحضاري في فكر "محمد إقبال" بالدين، فالحضارة توازي الدين و هي ثمرته. و الإسلام حضارة. قوتها و خلودها مستمدان من قوّة و خلود الدين، أما ضعفها و أفولها يكون بسبب فقدانها لعناصر القوّة و الخلود، و هي عناصر دينية تتمثل في النهوض بالعمل في الحياة الفردية عن طريق التجربة الصوفية و عن طريق الاجتهاد في الواقع. كل هذا لبلوغ قمّة التحضر، و هو الديمقراطية الروحية و السمو الروحي و العلى الأعلى، و ذلك مبتغى الإسلام و مقصده.
إنّ المتصفح لفلسفة "مالك بن نبي" في الإصلاح، و لنظريته في الحضارة و التجديد، يكتشف عالما فكرياً فلسفياً مليئاً بالمفاهيم، و غنياً بالتصورات، و فريداً في نوعه، و جديداً في العديد من جوانبه، خاصة فيما يتعلق بالحضارة و بعناصرها و شروطها و أطوارها. فهو يري أنّ ظاهرة التخلف ليست طبيعية في البشر، بل تعود إلى أسباب ذاتية و أخرى موضوعية، و تستفحل عندما تغيب الشروط و الأدوات اللاّزمة للنّمو الفكري و الأخلاقي و الاجتماعي. هذا النًمو هو السبيل إلى التحضر، تقابله مجموعة من المشاكل و الوضعيات و الظروف الفاسدة المنهارة في حياة الفرد و الجماعة في جميع جوانبها الفكرية و الأخلاقية و السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و غيرها. هذه المشاكل والظروف و الوضعيات ترتبط بظاهرة التخلف و الانحطاط، و تقوم الحضارة باعتبارها إطاراً يضمن لكل فرد داخل المجتمع مطالبه و حاجاته في كل طور من أطوار وجوده، بإعطائـه الأدوات و اللوازم الضرورية للمجتمع النامي المالك لقدرات فكرية و اجتماعية و اقتصادية إرادة استعمال سائر القدرات في حل المشاكل التي تواجه المجتمع المتخلف، و الحضارة هي التي تكوّن هذه القدرة و هذه الإرادة معًا، و هما لا تقبلان الانفصال عن دور المجتمع النامي. فالحضارة هي شرط إيجاد القدرة و الإرادة لتجاوز التخلف و التدهور في ذات الفرد و في مجتمعه، و هي ترتبط بالإنسان و التراب و الزمن و الفكرة الدينية التي تجمع بين العناصر الثلاثة. و لهما عمر و أطوار هي: طور الروح، طور الأوج، و طور الأفول، تسبقها مرحلة ما قبل الحضارة و تليها مرحلة ما بعد الحضارة، لكل واحدة من المرحلتين خصائص و مميزات. و تشترط الحضارة التغيير على أساس القاعدة الإلهية التي تعبر عنها الآية القرآنية، ﴿إنّ الله لا يغيرّ ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾.[2] و التغيير مجاله النفس أولا ثم المحيط الخارجي ثانيا، تشرط القدرة على الإبداع و القدرة على الإنتاج، و لا تقوم على التكديس و الاستيراد بل على البناء، و أن تلد الحضارة منتجاتها لا العكس، لأن العكس يستحيل منطقيا و ماديا و يغرق المجتمع في الشيئية من جهة و في المديونية و التبعية الحضارية من جهة ثانية، و تشترط التوجيه الأخلاقي و العملي و الفني الجمالي، و هي شروط تضمن الانسجام و التكامل بين المجهود الإنساني المبذول في مستوى الفرد و في مستوى المجتمع مع سنن و قوانين الآفاق و الهداية و التطلعات هذا من ناحية، و من ناحية أخرى تكفل تلك الشروط التكامل و الانسجام بين المجهود الإنساني و السنن الكونية مع جملة الشروط النفسية و الاجتماعية و الروحية و المادية، من أجل النمو و الازدهار في جميع مجالات الحياة الإنسانية. و الحضارة بهذا المعنى هي فعل بنائي تقتضي أُسُساً فكرية و روحية و جهوداً كبيرة في عالمي الأشخاص و الأشياء، و ذلك يشترط مخطط تربية يهدف إلى تغيير الإنسان في الداخل، وفق شروط معينة ليتمكن من أداء دوره في المجتمع و يحقق البناء الحضاري.
و إذا كانت الحضارة بناء لا تكديسا و استيرادا فهي فاعلية إنسانية تقوم على تغيير الإنسان في عالمه النفسي أولا ثم تغيير محيطه ثانيا، و تحصل هذه الفاعلية بتوفر جملة من الشروط و العوامل النفسية و الاجتماعية، الروحية و المادية، و بتوفر الإرادة و القدرة على إبداع المعرفة و إنتاج الأشياء، و استغلال ذلك لخدمة الإنسان و ضمان راحته. و لفصل الحضارة الحقيقية عن الحضارة المزيفة، فالأولى تلد منتجاتها أما الثانية فهي من صنيع منتجات حضارات الغير. و التجديد الحضاري ظاهرة إنسانية ترتبط بالحضارة و بشروطها، و عناصرها و أطوارها و ازدهارها و تكون سابقة على الحضارة فتصنع النمو و التحضر و الازدهار، كما تكون ملازمة لها، فتستمر في تنميتها و تطويرها، و قد تكون سببا في انهيارها و أفولها، و المقصود هنا عندما تبلغ الحضارة طور العقل يضعف سلطان الروح، و تسترد الغريزة نفوذها، فتهوي بالإنسان إلى حضيض الحيوانية و البهيمية حيث شريعة الغاب و قانون الأعلى.
لقد تميزت نظرية الحضارة عند "مالك بن نبي" بجملة من المميزات التي لم يشهدها مصلح آخر في فكره الإصلاحي. فهي نظرية انبثقت من تحليل تميّز إلى حدّ بعيد بطابعه العلمي، و بالدقة و العمق و الموضوعية، و الواقعية، في طرحه و معالجته للمشكلات و الظواهر في حياة الفرد و المجتمع. كما تميزت الحلول التي جاء بها لتلك المشكلات و التصورات التي خرج بها من دراساته و بحوثه المعمقة للتاريخ و الواقع بالقوّة، لارتباطها بالعلم و الواقع و التاريخ و الدين. و تميّز منهجه في البحث بطابعه العلمي و بتنوعه، فهو يستخدم المنهج الرياضي، و طريقة المؤرخ، و مسلك عالم الاجتماع، و سبيل الكيميائي و غيره، هذا زاد في متانة و قوة أفكاره، و زاد في انسجام هذه الأفكار و التصورات مع ما يجب فعله في العمل الإصلاحي التجديدي.
و تمثل نظرية "مالك بن نبي" في الحضارة، استراتيجية إصلاحية تجديدية تستهدف تغيير الواقع الإنساني عامة و واقع العالم المتخلف ـ العالم الإسلامي جزء منه ـ بصفة خاصة، بحيث تضع بين يديه آلية فكرية نظرية للخروج من التخلف، و بلوغ مستوى الحضارة، فهي مشروع منهج وضعه صاحبه للقضاء على ظاهرة التخلف بعدما درسها، و كشف عن عوامل و أسباب وجودها، و لغرض الوصول إلى الحضارة بعدما درسها و كشف عن قوانينها و آلياتها الروحية و المادية. و تميّز هذا المنهج بالقوة و المتانة لارتباطه بالعلم و الدين و التاريخ، و بقوانين هذه الأطر الفكرية المعرفية و الروحية باعتبارها مصادر توجيه و قيادة في حياة الإنسان، و لارتباطه بالفكر الإنساني القديم و الحديث و بواقع الإنسان المعاصر في العالم المتقدم بما له و ما عليه، و في العالم المتخلف بما عليه، و خاصة في العالم الإسلامي الذي لا ينقصه سوى تطبيق المناهج الكفيلة بإخراجه من عالم الانحطاط، و تمكينه من الحضارة، و هو أمر ليس بعسير على إنسان بين يديه كافة شروط التحضر. فهو منهج في الإصلاح يستند إلى رؤية فلسفية إلى الإنسان و الحضارة و التاريخ، و إلى فكر اجتمعت فيه الأصالة مع التجديد، فكان مشروع خطة للنهضة و للصحوة و للحضارة، و نموذجا من نماذج الفكر الإصلاحي لا يستهان به، بل يُقدّر حق قدره لِمَا لصاحبه من نظرة ثاقبة و قدرة على الطرح و التحليل و النقد و الاستنتاج، و لما لهذا المنهج من تكامل بين عناصره، و من انسجام مع ما تقتضيه مستلزمات البناء التاريخي و النهضة الحضارية.
لقد تبيّن لي و بوضوح من قراءتي لبعض الجوانب الهامة في فلسفة "محمد إقبال"، خاصة فيما يتعلق بنظرته إلى الإصلاح و التجديد، أي فكرة النقد و الهدم و إعادة البناء عنده، و من قراءتي لفلسفة الحضارة و التاريخ عند "مالك بن نبي"، أنّ ما يجمع بين المحاولتين أكثر مما يفصل بينهما، و يتعلق الأمر بالظروف التاريخية الزمنية و المكانية التي عاشا فيها المفكران، و التي فيها نبتت فكرة الإصلاح عندهما، فهي واحدة تماما، حيث الإسلام و الاستعمار و التخلف في العالم الإسلامي من جهة و الحضارة و العلم و التكنولوجيا في أوربا الحديثة من جهة أخرى، هذا الذي شكل روافد و مصادر تلك الفكرة، و أوجد وحدة في المبادئ و الأهداف و التطلعات، و الاختلاف بين المحاولتين ليس في الجوهر أو في الأساس أو في الهدف، بل في بعض الجوانب التي تخص طبيعة البحث و الدراسة و طبيعة الإصلاح و منهجه، و نوع المحاولة و خصوصياتها.
بالنسبة للبحث فعند "محمد إقبال" كان فلسفيا ميتافيزيقيا على منهج الأقدمين، و هو عند "مالك بن نبي" جاء بطابع علمي واقعي، و طبيعة الإصلاح عند "محمد إقبال" روحية فردية دينية إسلامية، و هو عند "مالك بن نبي" صبغته اجتماعية علمية واقعية تاريخية، و منهج "محمد إقبال" في الإصلاح من طبيعة روحية تقوم على التجربة الصوفية و الرياضة الدينية الروحية، و العمل الصوفي الصحيح هو سبيل الوصول إلى الحقيقة، أما منهج "مالك بن نبي" فيقوم على التغيير في الفرد و المجتمع، و على القضاء على أسباب التخلف و الأخذ بأسباب الحضارة كما هي في نظرية الحضارة، كما يقوم على التوجيه الديني و الأخلاقي و العملي مع الاستفادة من خبرات و تجارب الآخرين العلمية و الحضارية. و تتميز محاولة "محمد إقبال" بكونها ذات عمق فلسفي كبير و تأمل ميتافيزيقي رحب، حتى قيل عنها أنها موجهة للخاصة و النخبة من المثقفين لا للجميع، أما محاولة "مالك بن نبي" فهي للجميع لم تكن في مستوى العمق الفلسفي و التأمل الميتافيزيقي الذي عرفته محاولة "محمد إقبال".
نستنتج مما سبق أنّ فلسفة "مالك بن نبي" امتداد لفكرة "محمد إقبال" في الإصلاح و التجديد، على الرغم من أنّ الأولى يغلب عليها الطابع العلمي الواقعي الاجتماعي، أما الثانية فيغلب عليها الطابع الروحي الفلسفي الميتافيزيقي الصوفي. و لقد ذكر "مالك بن نبي" "محمد إقبال" في كتاباته، و أشاد بقوة فكره، و نظرته الثاقبة السليمة إلى الإصلاح و التجديد. جاءت فكرة الإصلاح عندهما نتيجة واقع المسلمين المتردي، و تُشكّل محاولة فكرية لتغيير النفس و الفكر و الواقع في العالم الإسلامي، تميزت بالقوة لارتباطها بالإسلام و بالعلوم المزدهرة و بالفكر الإسلامي، و تشكل رؤية فلسفية إلى الإنسان و الحياة و التاريخ و الحضارة، و تمثل مشروع خطة ذات طابع فكري نظري، للنهضة و للتجديد و لبناء الحضارة، و للدخول إلى التاريخ، و إلى حلبة المعترك الحضاري، و احتلال أمة الإسلام لمكانتها اللائقة بها في إطار الحوار و التفاعل الحضاريين .
و إذا كان الفكر الإصلاحي عند "محمد إقبال" و"مالك بن نبي" تميز بالقوة و المتانة نظرا لصلته المباشرة بواقع و حياة المسلمين في العالم الإسلامي المعاصر، و لتعبيره عن مشاكلهم و همومهم، و عن آمالهم و تطلعاتهم، و بلوغه مستوى رفيع من الحقيقة في مناهجه و أساليبه لأنه أخذ بالدين و العلم و بالتاريخ، و استطاع أن يكفل التوازن بين طرفي الكمال، الروح و المادة، الدين و الدولة، الدنيا و الآخرة. و إسناد فكرة "محمد إقبال" إلى فكرة "مالك بن نبي" أو العكس أمر ممكن خاصة من الناحية النظرية، فالواحدة منهما تثري الأخرى و تعمقها. و يمكن اعتبار فكرة "محمد إقبال" أرضية فلسفية ميتافيزيقية و إطارا نظريا لفكر "مالك بن نبي"، و اعتبار فكر "مالك بن نبي" الوجه الاجتماعي العلمي و العملي الواقعي الخارجي لفكر "محمد إقبال". و ما أحوج العالم الإسلامي المعاصر إلى المشروعين الإصلاحيين معًا للتجديد و لبلوغ السمو الروحي و الأخلاقي، و لبناء حضارة تلد منتجاتها الفكرية و المادية، و لضمان التوازن بين المثال و الواقع، بين الروح و المادة، و بين الدين و الدولة، ذلك هو عين التحضر و قمّته، و هو مبتغي الإسلام و مقصده، فالحضارة هي التمكين لقيّم و مبادئ الإسلام على أرض الله.
من كتاب "الإصلاح و التجديد الحضاري لدى "محمد إقبال" و"مالك بن نبي" بين النظرة الصوفية و التفسير العلمي"
جيلالي بوبكر
[1]- قرآن كريم: سورة الرعد، الآية 11.
[2] - قرآن كريم: سورة الرعد، الآية11.
المصدر:
http://wefaqdev.net/st_ch536.html