جيران العرب/أثيوبيا
يكتسب موقع أثيوبيا الجغرافي أهمية استثنائية في علاقتها مع الوطن العربي، حيث أن 70% من مياه مصر (ربع سكان الوطن العربي) تأتي منها، كما أنها تجاور مجموعة من الدول العربية الملتصقة بالعمق الإفريقي، وكانت قبل استقلال إريتريا عنها، مطلة على مضيق باب المندب المنفذ البحري الهام على صعيد العالم ..
المساحة و السكان :
تبلغ مساحة أثيوبيا بعد استقلال إريتريا عنها 1,127,127كم2، ويبلغ عدد سكانها حوالي 60 مليون نسمة. يدين نصفهم بالديانة الإسلامية، والباقي يدين حوالي 40% منهم بالديانة المسيحية الأرثوذكسية التي كانت تتبع للكنيسة القبطية في مصر لغاية منتصف السبعينات من القرن الماضي، كما أن هناك من يعتنق ديانات وثنية أو يهودية وهؤلاء يشكلون بمجموعهم 10%. ويقدر خبراء السكان في الأمم المتحدة أن يصبح عدد سكان أثيوبيا عام 2050 حوالي 170 مليون نسمة (قناة الجزيرة في 11/7/2006) .
التسمية والتاريخ :
لم تكن أثيوبيا ذات يوم بحجم ثابت، فقد كانت نواتها التاريخية تتمثل بالهضبة التي تمثل أمهرة و جوجام مثابة قلعة انطلاق، فكانت تتوسع على حساب جيرانها من صومال و أوغادين و إريتريا، وأحيانا تتجاوز الى اليمن عابرة البحر. ويشكل العرق الصومالي المسلم داخل أثيوبيا الغالبية العظمى من مسلمي أثيوبيا ويبلغ عدد من ينتمي إليه حوالي 20 مليونا، يكنون كراهية شديدة للأسرة السليمانية التي تزعم أنها من نتاج النبي سليمان وزواجه بملكة اليمن (بلقيس) ولقد حصرت تلك الأسرة الأحقية بالحكم بنفسها حوالي 1000عام.
وتقول الدراسات التاريخية أن سكان أثيوبيا الأصليين من الزنوج، وقد طردهم الحاميون حتى تمركزوا في جنوب البلاد، وقد دخل العرب قادمين من الجزيرة العربية فسيطروا على الحاميين، وتزاوجوا مع السكان الأصليين ونتج عن هذا التزاوج بعد عدة أجيال نمطا هجينا من العروق أطلق عليه العرب بأحد لغاتهم القديمة اسم ( حبش) تمييزا عن السكان الأصليين أو العرب.
وأثيوبيا، لفظ يوناني يعني (ذوو الوجوه المحروقة .. أي السود)، وقد استعاده حديثا الملك ( منليك الثاني) 1889ـ 1913 الذي نفر من اسم (حبشة) لما فيه من دلالة استعمارية قديمة، حيث هناك مدينة تسمى (صبا) قرب (أكسوم) العاصمة القديمة لمملكة (أكسوم) .. وصبا تحريف (لسبأ)، حيث كان فيها قصر تقيم فيه (بلقيس) ملكة اليمن والحبشة..
أثيوبيا و الإسلام :
بدأت معرفة المسلمين و علاقتهم بأثيوبيا منذ بدء الرسالة الإسلامية، حيث كانت الهجرة الأولى، ويقال أن ملكها (أصحمة النجاشي) قد اعتنق الإسلام سرا هو وبعض أعوانه .. وقد ازداد توجه المسلمين الى الحبشة في القرن الثاني الهجري سلميا، عن طريق التجار من ناحية، وعن طريق المهاجرين الذين لم يطب لهم المقام تحت حكم بعض الولاة ..
وبعد أن ازداد النشاط الإسلامي في ميناء ( زيلع) .. تعاظم دور العرب المسلمين في القرن الخامس الهجري، فأسسوا دولة (هرر) الساحلية، وقد تدخل المسلمون في فض النزاعات القبلية بين الوثنيين ونشروا الإسلام بينهم، وكونوا عدة إمارات تحكم بالإسلام، منها إمارة (إريتريا) وإمارات أخرى مثل (زفات، أدل، موده، جداية، وغيرها جنوبي نهر (هوش)). وفي القرن العاشر الهجري ، ازداد قلق المسيحيين والأحباش من انتشار الإسلام فبعثوا برسائل الى كل من الفاتيكان وبريطانيا وروسيا واسبانيا يطلبون فيها تزويد المسيحيين بالسلاح لإيقاف الزحف الإسلامي وإبادته، مدعين بأنهم محاصرون ببحر إسلامي يهدد كيان المسيحية في البلاد.
بدأ الأحباش حربهم الغادرة على إمارة هرر الإسلامية ووصلوا الى مشارفها فتصدى لهم الإمام احمد ابراهيم وردهم على أعقابهم ، ثم اعدّ لهم جيشاً قوياً وزحف بجيشه هذا حتى وصل مدينة اكسوم عاصمتهم آنذاك ، وحكم البلاد زهاء 16 سنة ، نشر فيها الإسلام حتى وصلت نسبة المسلمين فيها الى 90% . وانتشر الإسلام كذلك بين قبائل (سلامة) الحبشية المستقرة وما حولها من قبائل البدو، كذلك دخل ملوك بلاد (كوشي) في الإسلام وأصبحت مدينة هرر في مملكة (دوارة) مركزاً من المراكز الإسلامية المهمة، والتي كانت في أوج تطورها واستقرارها منطلقاً للإشعاع الفكري، حيث شهدت حركة فكرية إسلامية واسعة بنيت خلالها المساجد ومدارس اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وكان فيها ما يقرب (90) مسجداً لا تزال باقية حتى اليوم شاهدة على عظمة الإسلام ونفوذه، وكما كان معظم الدعاة من اليمن والجزيرة العربية ومصر.
ومن مدينة هرر هذه انطلقت الحركات الجهادية التي كانت تدعو الى توحيد المسلمين في تلك الارض تحت راية واحدة لتشكيل الدولة الإسلامية الإفريقية الكبرى. وكان من أهم هذه الحركات حركة الإمام احمد ابراهيم الفرّان الجرافي، أمير هرر، الذي ما إن تعرضت إمارته لهجوم الصليبيين حتى دعا الى الجهاد الشامل وذلك سنة 1527م لدرء الخطر عن الإمارة وفتح البلاد الوثنية والنصرانية.
واصل الإمام احمد الزحف بجيوشه حتى فتح أثيوبيا كلها، ووصلت جيوشه الى منطقة التاكا السودانية وسيطرة على مساحات شاسعة من أراضي إفريقيا الوسطى والشرقية ولولا تدخل الغرب الصليبي ممثلاً بالبرتغاليين الذين كانوا يجوبون سواحل المنطقة وبحارها بأساطيلهم الحربية وسلاحهم الناري المتطور حين استنجدت بهم الكنيسة النصرانية، فتمكنوا من إيقاف زحف المسلمين وخاض المسلمون معارك دامية ومدمرة استشهد خلالها الإمام احمد عام 1537 وتفرقت جيوشه وطويت باستشهاده صفحة مشرقة من تاريخ المسلمون.
وبقيت هرر بعد استشهاده بمدارسها ومساجدها مركز نشر الإسلام ودعوته بين القبائل هناك. وكان لمجيء الحملة المصرية بقيادة رؤوف باشا عام 1875م إبان حكم الإمبراطور النصراني يوحنا – الذي كان شديد البطش بالمسلمين والتعصب للنصرانية – اثر كبير في دخول المزيد من قبائل الاورومو في الإسلام وانتشار الدين بشكل واسع هناك، خاصة بعد سيطرة المصريين على زيلع وبربرا وهرر. لكن قيام الثورة المهدية في السودان وانسحاب الحاميات المصرية من المنطقة ادى الى إضعاف إمارة هرر، خاصة بعد ان لحقت بالجيش المصري هزائم متكررة من قبل جيوش الحبشة بقيادة (منليك) الذي أصبح إمبراطورا للحبشة بعد يوحنا. فسقطت الإمارة وهزم أميرها عبد الله علي عبد الشكور أمام جيوش منليك النصراني.
إثيوبيا من الهضبة الى الإمبراطورية ..
عرفنا أن إثيوبيا الهضبة هي النواة لإثيوبيا المعاصرة .. وقد بقيت تلك النواة ثابتة على كل العصور .. وقد كانت بمثابة جزيرة مسيحية تتراجع عند الشدائد وتكتفي بالهضبة، ثم تتحين الفرص لتتمدد الى ما خارجها .. وقد كان الجذر لسكان تلك الهضبة يتكون من ثلاث مكونات عرقية هي: (الأمهرا و التيغران و الغلا ) وعاشت تلك العروق في المرتفعات حول بحيرة (تانا) من جنوب (أديس أبابا) .. وقد مررنا على ما آلت إليه تلك الدولة في عهد ملكها القوي (منليك الثاني) .. ويمكننا تقسيم مراحل تطور الأوضاع السياسية في إثيوبيا الى:
المرحلة الأولى 1882ـ 1913م
تبدأ هذه المرحلة ببداية التوسع الإيطالي في إريتريا عام 1882، وتنتهي بوفاة (منليك الثاني) عام 1913 والذي اكتملت في عهده صورة إثيوبيا المعاصرة، فيما عدا الوضع الخاص بإريتريا ..
وفيما بين هذين التاريخين شهدت المنطقة فرض الحماية البريطانية على الصومال عام 1884 وانسحاب مصر من المنطقة وقيام الصومال الإيطالي في 20/5/1889، هذا فضلا عن النزاع الإثيوبي الإيطالي، خاصة حول أوغادين وهود.
كان التوسع الإيطالي في إريتريا قد بدأ منذ 5/7/1882 رغم أن بريطانيا قد عقدت مع مصر معاهدة في 7/9/1877 اعترفت فيه بسيادة مصر على كل سواحل الصومال حتى رأس (جافون). وبدأت إيطاليا بوضع يدها على (عصب)، ثم أسرعت بمد نفوذها شمالا وجنوبا، فاحتلت (بيلول) في 25/1/1885، بعد انسحاب المصريين منها، واحتلت (مصوع) في 25/2/1885 قبل انسحاب المصريين منها.. وتوغلت غربا واستولت على (زولا)، كما مدت نفوذها جنوبا حتى أصبحت جنوب شرق (سواكن) بحوالي 160كم، لتكون وجها لوجه أمام الفرنسيين في مستعمراتهم في (أوبوك) ومقابلين ل (باب المندب).. وهكذا بسط الطليان نفوذهم على إريتريا بموافقة (بريطانيا).
في هذه الأثناء قام الملك (منليك الثاني) وبتنسيق مع الطليان بحملاته التوسعية شرقا، فيما بين 1871و 1876م ضد قبائل (الوالوغالا) كما قام بغزو إمارة (هرر) فضمها لملكه.. ثم ضم (أوغادين) الى إثيوبيا برضا (بريطانيا) التي ساعدها في إخماد الثورة المهدية في السودان لصالح بريطانيا .. ونرى هنا كيف أن بريطانيا و إيطاليا ساعدت الملك (الإثيوبي) كل على حدا، بشكل يتضاد مع مصالح الفرنسيين ..
كانت إيطاليا تغض النظر عن توسع الإثيوبيين، لكنها لم توفر أي فرصة في تحسين وضعها حتى لو كان على حساب الإثيوبيين أنفسهم، فقد تحرك الطليان ليحتلوا جنوب إثيوبيا والتي نتج عن هذا الاحتلال توقيع معاهدة (أوتشيالي) المعروفة والتي كانت نسختها الإيطالية تختلف عن نسختها (الأمهرية ـ الإثيوبية) إذ أنه في النسخة الإيطالية تبين المعاهدة أن إثيوبيا كلها تعتبر (محمية إيطالية) ..
واستغلت إيطاليا الظروف لتمد نفوذها على بلاد الصومال الواقعة بين الصومال الإنجليزي وسلطنة (زنجبار) لتنتزع بعدها اعترافا دوليا، بأن سيطرتها تمتد من النيل الأزرق حتى سواحل البحر الأحمر بما فيها (كسمايو أو قسمايو) ..
أدى هذا النشاط الإيطالي الى فك العلاقة بين الطليان والإثيوبيين، الذين تحولوا في تعاونهم الى الجانب الإنجليزي .. وأدى تصاعد سوء العلاقات الى مواجهة عسكرية استطاع الإثيوبيون أن يهزموا قوات الجنرال الإيطالي (باراتيري) بعد قتال استمر ثلاثة أيام في موقعة (عدوة) الشهيرة .. وسيبقى هذا النصر الذي دوت أصداءه في كل إفريقيا .. وشكل غصة في حلق الطليان، لم ينسوه حتى عهد (موسوليني) .. وقد كان من نتائج هذه الحرب أن أصبحت إثيوبيا قوة ودولة معترف بحدودها، كما ألغيت على إثر تلك الحرب معاهدة (أوتشيالي).
المرحلة الثانية 1914ـ 1954
بموت (منليك) عام 1913 ونشوب الحرب العالمية الأولى، شهد القرن الإفريقي عدة تغييرات أهمها:
1ـ غزو إيطاليا واحتلالها لإثيوبيا بين عامي 1935و 1941.
2ـ سيطرة بريطانيا على كل الأراضي الصومالية التي كانت تتنازع عليها مع إيطاليا وإثيوبيا.. (عدا جيبوتي)..
خلف (منليك) في حكم إثيوبيا (ليج ياسو)، إلا أنه ولتحالفه مع ألمانيا خلع عن العرش عام 1916، ونصبت بدلا منه (زوديتو) بنت (منليك) وعين الرأس (تافري ماكونن) وصيا على العرش. وبعد وفاة الإمبراطورة التي انكمشت البلاد في عهدها، اعتلى العرش (هيلاسيلاسي) عام 1930.
فر (هيلاسيلاسي) الى المنفى بعد أن عجز في مقاومة الاحتلال الإيطالي الذي ضم إثيوبيا رسميا مع إقليم (أوغادين) الى ممتلكات إيطاليا.. ووجه دعوة في منفاه الى عصبة الأمم لمؤازرته.. وبهزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، فدخلت بريطانيا (أديس أبابا) وضمت الممتلكات الإيطالية الصومالية لها.. وكان هذا الحدث قد وحد الصوماليين الى مقاومة الاستعمار البريطاني.. حيث منحت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949 إيطاليا في إدارة الأراضي الصومالية لمدة عشر سنوات. ولم تتعاون إثيوبيا مع الأمم المتحدة في رسم الحدود فيما بينها وبين الصومال..
المرحلة الثالثة من عام 1955 فما بعد :
استطاعت إثيوبيا أن تحصل من بريطانيا على إقليم (هود) وإقليم (أوغادين)، كما استطاعت من قبل أن تحصل على (إريتريا) عام 1952، لتطل على البحر الأحمر لأول مرة .. ودفعت ثمنا لهذا القبول بخط الحدود بينها وبين الصومال، والذي لم يكن خط حدود بمعنى الكلمة، بل كان خطا فلكيا يتكلم عن خطوط عرض وخطوط طول، بصرف النظر أين تقع تلك الخطوط، مما أبقى المشكلة قائمة حتى اليوم ..فعندما استقل الصومال عام 1960 ظهر النزاع حول الحدود مجددا، وقد رأينا أن أطماع إثيوبيا لم تتوقف، وشاهدناها في التحالف ضد المحاكم الإسلامية في الصومال مؤخرا ..
وسنفرد بالحلقة القادمة الحديث عن إريتريا، معتبرين أنها دولة حدودية غير عربية!