النقد الأدبي وحرفة السباكة

--------------------------------------------------------------------------------

د. محمد عبد المطلب - مصر
*****
بداية أوضح احترامي لكل المهن والحرف اليدوية وغير اليدوية وما أكتبه الآن لا ينتقص من أي حرفة، ومنها حرفة السباكة، وهدفي أن أعرض للواقع العام في المرحلة الأخيرة، وما ساد فيه من (تداخل الاختصاصات) تداخلا مخلا، ومن هذا التداخل: التداخل بين النقد الأدبي وحرفة السباكة، ولم يأت التداخل من السباكة للنقد الأدبي، وإنما جاء من نقاد الأدب الذين اعتمدوا تقنيات السباكة في مهمتهم. في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قامت حركة هائلة لنقل الثقافة النقدية الغربية الي الواقع العربي، وقد ساعدت هذه الحركة علي تغيير وجه النقد الأدبي، والصعود به الي زمن الحداثة بكل اجراءاتها الكاشفة عن الأدبية، والملاحظ أن هذا النقل قد اهتم بالتقديم النظري الذي طرحته المناهج الجديدة، مثل البنيوية والأسلوبية والتفكيكية، وعندما انتقل النقاد من التنظير الي التطبيق علي النص العربي، تبين لهم أن (مرحلة النقل) تحتاج الي مرحلة مكملة هي: (انتاج الثقافة النقدية) التي تلائم خصوصية النص العربي، وخصوصة البيئة التي أنتجته، ومن النقل الي الانتاج، تمت مرحلة من أهم مراحل النقد العربي في العصر الحديث. وكان المأمول من جيل النقاد الشباب، أن يكملوا هذه المسيرة، وبخاصة في اجراءاتهم التطبيقية، لكن الذي حدث، أن هذا الجيل الأخير من النقاد تراجع مرة أخري الي مرحلة النقل، واستخلص كل ركائزها التحليلية، ثم أقدم علي قراءة النصوص الأدبية شعرا ونثرا محتكما الي هذه الركائز، فارتكب خطيئتين، الخطيئة الأولي: تطبيق اجراءات نقدية بأدوات مستخلصة من نصوص غير عربية، لها خصوصيتها الثقافية واللغوية، علي نصوص عربية، وارغام هذه النصوص علي تقبلها، وهو ما أدي الي تشويهها ومسخ هويتها.
الخطيئة الثانية: توظيف هذه الأدوات آليا علي الخطاب النثري، وبخاصة الخطاب الروائي، وعلي الخطاب الشعري، وبخاصة شعر الحداثة، ومن هنا جاء التداخل بين النقد الأدبي وحرفة السباكة، وإن جاء التداخل بلا قصد.
إن عامل (السباكة) يجمع في حقيبته (السمسونايت) مجموعة أدوات محددة، صالحة للتعامل مع كل الأجهزة التي تدخل في دائرة اختصاصه، وكذلك النقاد الجدد، فكل منهم يقدم علي النص مستحضرا (عدته النقدية) المحددة بمجموعة أدوات محفوظة، يوظفها في قراءته للنصوص، دون فرق بين نص وآخر، فإذا كان بصدد نص روائي، فتح حقيبته علي أدواته المحفوظة، بدءا من العنوان، ثم: الزمن، والاستباق، والاسترجاع، والوقفة، والحذف، والراوي الخارجي والداخلي، والحوار المباشر وغير المباشر، الي آخر هذه الأدوات التي يلصقها بكل نص، حتي أصبحت النصوص كلها نصا واحدا، لا فرق بين هذا وذاك.
واذا انتقل الناقد الي النص الشعري، فتح حقيبته علي مجموعة أدواته الجاهزة: النص المفتوح والنص المغلق، المسكوت عنه، المساحات البيضاء والسوداء، قصيدة التفاصيل، المشهد، القناع، الجسد، الأسطرة، الي آخر هذه المصطلحات التي جاءت مع نقد الحداثة، والتي يوظفها الناقد في كل النصوص والدواوين، فتتحول الي نص واحد.
وهذا هو التداخل الأول بين النقد الأدبي وحرفة السباكة، ذلك أن أدوات (السباك) المحددة صالحة لكل الأجهزة، وكذلك أدوات الناقد صالحة لكل النصوص، أو لنقل ان النصوص كلها تصبح نصا واحدا، يجري فيها الناقد أدواته التي لا يستطيع أن يتجاوزها، لأن حقيبته ليس فيها سواها، والمتلقي المسكين يتأمل ما يقدم اليه، دون أن يجد فرقا بين قصيدة لصلاح عبدالصبور، وأخري لحجازي أو البياتي، (فكله عند العرب صابون) كما يقول المثل.
لقد تناسي هؤلاء النقاد الجدد أهم مقولة في نقد الحداثة، وهي: أن النص يفرض علي القاريء طريقة الدخول إلي عالمه الجمالي، فما يصلح لنص، ربما لا يصلح لآخر.
وهنا يأتي التداخل الثاني بين النقد الأدبي و حرفة السباكة، ذلك أن عامل السباكة في المرحلة المتأخرة وسع دائرة اختصاصه، ويضم إليها بعض أعمال لم تكن من مهمته الأصلية، وقد جاءني أحدهم يوما لاصلاح بعض الأجهزة، وبعد أن فرغ من مهمته، بادرني بالسؤال: هل عند شيء آخر في حاجة الي اصلاح؟ لأنني أستطيع اصلاح أجهزة (البوتاجاز) وبعض الأجهزة الكهربائية، وهنا استحضرت بعض نقاد الجيل الجديد، الذين أهملوا مفهوم التخصص، وأصبح الواحد منهم يجلس مجلس المتكلم في كل مجالات الكلام، في النقد، في الفلسفة، وقد يعرج علي التاريخ، وقد يذهب الي الفن التشكيلي أو التمثيلي، ويستفيض في كل ذلك بكلام فصيح خال من أي مضمون، ثم يتمادي في توثيق كلامه بمقولة هذا الناقد أو ذاك، وبمقولة هذا المستشرق أو ذاك، و كأن ذاكرته تحتوي كل ثقافة العالم، وقد استمعت الي واحد منهم منذ فترة قريبة، يقدم بعض أفكاره، ثم يوثقها بأقوال للعقاد وطه حسين، وبما قاله أحد المستشرقين الفرنسيين، كنت أستمع اليه، وأفتح ذاكرتي علي هذه الأسماء والأقوال التي رددها الناقد، فلا أتذكر منها شيئا، بل عدت سريعا الي مؤلفات هؤلاء الأعلام، فلم أجد فيها شيئا مما ذكره الناقد. التداخل الثالث بين النقد الأدبي وحرفة السباكة، يعود بنا قليلا الي الوراء، والي زمن قريب لحرفة السباكة، عندما بدأ استعمال (السيراميك) في تجديد (دورات المياه) وظهر الاعلان الشهري (انسف حمامك) وراجت حرفة السباكة رواجا هائلا، ووصلت دخول أصحاب هذه الحرفة الي أرقام مذهلة، في هذا الزمن زاد الطلب علي عمال هذه الحرفة، مما أغري كثيرين ممن لا صلة لهم بها الي عرض أنفسهم بوصفهم من أهلها، وقد انخدع الكثيرون ممن أقدموا علي هدم (حماماتهم) لأن هؤلاء الدخلاء أفسدوا كل شيء، وتسببوا في كثير من الخسائر، لأنهم أقدموا علي ما يجهلون.
وفي الزمن الأخير سكت كثير من كبار النقاد عن متابعة ابداع الحداثة، وربما كان السكوت سكوت رفض، وربما كان السكوت لأن أدوات الناقد لم تعد صالحة لمواجهة هذا الابداع بكل تجاوزاته ومغامراته مع الشكل والمضمون، وهنا ظهر الدخلاء وأدعياء النقد الذين لا يمتلكون شيئا من الثقافة والخبرة النقدية، ولا يمتلكون الأدوات التي يواجهون بها النص الأدبي، وأصبحنا نقرأ في كل يوم عن هذا الناقد أو ذاك، وعن الندوات التي أصبحت مجالا يصولون فيها ويجولون، ومن يستمع لهم سوف يدرك علي الفور أنهم لا صلة لهم بالأدب ونقده من قريب أو بعيد، والمؤسف أن بعض المبدعين قد لحقوا بهذه الفئة الدخيلة، وتحولوا الي نقاد يسرفون في المديح تارة، وفي الهجاء تارة أخري، وهذه طبيعة المبدع، لأنه ينحاز * بطبعه * الي مذهبه الفني، والي ذوقه الجمال
ي. لقد قصدت بهذا المقال أن أنبه الي هذا التداخل الذي يهدد المسيرة الصحيحة للنقد الأدبي والابداع، وأن أدعو الي وقفة تصحيحية، تعطي كل تخصص لأهله، وأن يقود هذه الوقفة كبار نقادنا خلال المنابر المفتوحة أمامهم في أجهزة الاعلام المختلفة: المقروءة والمسموعة والمرئية.
****** ********** *******
(نقلاً عن أخبار الأدب )