تحرير القول في مُسمّى الاستحسان عند المالكية
د. نعمان جغيم*يتناول هذا البحث موضوع الاستحسان في المذهب المالكي، حيث يدرسه من ثلاث نواحي: أحدها: التحقيق في صحة نسبة القول بالاستحسان ـ بوصفه مصطلحا أصوليا له دلالاته الأصولية ـ إلى الإمام مالك، والثانية: تحديد موقف علماء المالكية من عَدّ الاستحسان واحدا من أصول الاستنباط في المذهب، والثالثة: بيان أصل الاستحسان عند القائلين به من علماء المذهب. ويهدف إلى الوصول إلى تحديد مكانة "الاستحسان" من أصول المذهب المالكي. وقد خلص الباحث إلى أنه من الراجح أن نسبة القول بالاستحسان لفظا واصطلاحا إلى مالك لا تصحّ، وأن استخدامه في مذهبه من قبل بعض الأتباع لا يرفعه إلى درجة كونه أصلا من أصول الاستنباط في المذهب.بحث منشور في مجلة الشريعة والقانون، كلية القانون، جامعة الإمارات العربية المتحدة، عدد 33، 2008م
ملخص البحث
مقدمة
يُعدّ مصطلح "الاستحسان" من المصطلحات الأصولية التي ثار حولها نقاش كبير في كتب أصول الفقه. ومما أذكى تلك النقاشات قلَّة وضوح معنى هذا المصطلح حتى عند القائلين به والمدافعين عنه. ويظهر الغموض الذي يلفّ المصطلح في اختلافات القائلين به في تعريفه، وفي بيان حقيقة المراد به عند مؤسسي المذاهب التي يُنْسَب إليها القول به. بل إن الأمر يصل في المذهب المالكي إلى حدّ الخلاف بين علماء المذهب في صحّة نسبة القول به إلى الإمام مالك.
ويهدف هذا البحث إلى دراسة ثلاث قضايا متشابكة فيما بينها، تكوِّن في مجموعها موضوعا واحدا. وتلك القضايا هي: أولا: التحقيق في صحة نسبة القول بالاستحسان ـ بوصفه مصطلحا أصوليا له دلالاته الأصولية ـ إلى الإمام مالك، والثانية: تحديد موقف علماء المالكية من عَدّ الاستحسان واحدا من أصول الاستنباط في المذهب، والثالثة: بيان أصل الاستحسان عند القائلين به من علماء المذهب. وذلك بهدف الوصول إلى تحديد مكانة "الاستحسان" من أصول المذهب المالكي.
وينطلق هذا البحث من افتراض عدم دقّة نسبة القول بالاستحسان ـ بوصفه مصطلحا له دلالاته الأصولية ـ إلى الإمام مالك، ووجود تأثّر لدى الأتباع القائلين به بالساحة العلمية التي عاشوا فيها، خاصة الاحتكاك بالمذهب الحنفي.
أما المنهج المتَّبع فهو منهج استقرائي تحليل، قائم على استقراء استعمالات لفظ الاستحسان في الموطأ، والمدونة الكبرى، وتتبّع أقوال علماء المذهب في مدلوله، ومكانته من أصول المذهب، ويكون ذلك مشفوعا بالتحليل واستخلاص النتائج.
نسبة القول بالاستحسان إلى الإمام مالك
يقتضي التحقيق في نسبة القول بـ"الاستحسان" إلى الإمام مالك النظر في ورود هذا الاصطلاح أو اشتقاقاته في كتابه الموطأ أو في المدونة الكبرى التي هي رواية لفقهه، وتخريج عليه.
ورد عن الإمام مالك استعمال تعبير "حَسَن" في ثلاثة مواضع في كتاب الموطأ،[1] كما ورد عنه استعمال تعبير "أحبّ" في مواضع كثيرة من الموطأ،[2] ولكن لم يرد عنه في الموطأ استعمال لفظ "الاستحسان" أو "أستحسن".
والناظر في المواضع التي عبّر عنها مالك بالحسن يجد أنها تتعلق بمندوبات، سواء كان النّدب إليها بحديث، كما هو الحال في صلاة تحيّة المسجد قبل الجلوس، أو بما هو مأثور
عن السلف، كما هو في إفراد يوم الجمعة بالصيام، أو بعموم الندب إلى البِرّ بالأقارب والأموات، كما هو في إخراج زكاة الميت الذي لم يوص بذلك. ومن الواضح أن هذا التعبير بالحسن ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالاستحسان بمفهومه الأصولي، ومن التكلّف الربط بينهما.
أما في المدونة الكبرى فقد ورد لفظ "الاستحسان" في موضعين،[3] ولفظ "استحسِن" في تسعة مواضع،[4] ولفظ "استحسان" في ثلاثة مواضع،[5] ولفظ "استحسنت" في ستة مواضع.[6]
وبعد دراسة وتحليل المواضع التي وردت فيها تعبيرات الاستحسان في المدونة الكبرى نجد أنهذا التعبير قد استُعمِل في معاني مختلفة، منها: استعماله في مقابلة القياس إما بمعنى استثناء جزئية من قاعدة أو نص يتصفان بالعموم، أو بمعنى العدول عن القياس في مسألة يكون القياس فيها غير متوافق مع مقاصد الشارع، وقد ورد هذا الاستعمال في ثمانية مواضع.[7] ومنها استعماله بمعنى الاستحباب المقابل للكراهة في موضعين.[8] ومنها استعماله بمعنى فعل الأفضل والأولى في أربعة مواضع.[9] ومنها استعماله بمعنى ترجيح رأي من الآراء المختلفة وذلك في أربعة مواضع.[10]
وبهذا يتبين أن مصطلح الاستحسان ومشتقاته لم يُستعمل في معناه الأصولي سوى في ثمانية مواضع من المدونة، أما ما عداها فليس له علاقة بالاستحسان بمعناه الأصولي.
أما عن الغرض الذي كان من أجله ذلك الاستحسان فهو: إما التخفيف على الناس ومراعاة مصالحهم، وقد ورد ذلك في عشرة مواضع،[11] وإما تفضيل فعل الشيء من باب الاحتياط، وقد ورد ذلك في ستة مواضع،[12] كما استُعمِل في موضع واحد من باب المسامحة والإحسان إلى المطلّقة،[13] وفي موضع آخر مراعاة للقصد الحسن للفاعل.[14]
ويتبيّن من هذا التحليل أن استعمال لفظ الاستحسان في المدونة لم يكن مقصورا على المعنى الذي اعطاه له الأصوليون، بل استُعمِل بذلك المعنى في مواضع لا تصل إلى نصف استعمالاته فيها، واستُعمِل بمعناه اللغوي في أغلب المواضع.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن نص المدونة ليس من تأليف الإمام مالك، ولا من إملائه المباشر، وإنما هو رواية لفقهه، وتخريج عليه، ليس من الضرورة أن يلتزم فيه الراوي أو المخرِّج لفظ الإمام مالك، فإنه يكون من الصعب القول بأن ألفاظ الاستحسان الواردة في المدونة هي من عبارات الإمام مالك.
ومما يؤيد ذلك اختلاف علماء المذهب في نسبة القول بالاستحسان إلى مالك؛ فنجد أصبغ يروي عن ابن القاسم أنه نسب إلى مالك قوله: "الاستحسان تسعة أعشار العلم"،[15] كما نجد الدردير والدسوقي يوردان نسبة الاستحسان إلى الإمام مالك ولكن في أربع مسائل فقط،[16] ثم يعلق الدسوقي على ذلك بقوله: "فإن قلت: كيف تكون مستحسنات الإمام قاصرة على هذه المسائل الأربعة؟ مع أن الاستحسان في مسائل الفقة أغلب من القياس كما قال المتيطي، وقال مالك إنه تسعة أعشار العلم؟ قلت: إن الاستحسان الواقع من الإمام ليس قاصرا على هذه الأربعة، بل وقع منه في غيرها أيضا، لكن وافقه فيه غيره، أو كان له سلف فيه، بخلاف هذه الأربعة فإنه استحسنها من عند نفسه، ولم يسبقه غيره بذلك؛ لقوله: وما علمت أحدا قاله قبلي".[17]
وواضح ما في هذه الأقوال من اضطراب، وأن المخرج الذي اقترحه الإمام الدسوقي لا تبدو فيه وجاهة، ولا حلّ لذلك الاضطراب. ويؤيد ذلك إنكار كثير من علماء المذهب نسبة القول بالاستحسان إلى مالك. ومنهم القاضي عبد الوهاب البغدادي (419هـ)؛ فقد جاء في المسوّدة: "قال القاضي عبد الوهاب المالكي ليس بمنصوص (أي الاستحسان) عن مالك، إلا أنّ كتب أصحابنا مملوءة من ذكره والقول به".[18] ومما يؤكد ذلك أنه ـ وهو بصدد تعداد مصادر الإمام مالك ـ لم يذكر الاستحسان، بل حدد الأدلة المعتبرة في المذهب في الكتاب والسنة والإجماع والقياس وعمل أهل المدينة.[19]
كما أن القاضي عياض وهو يعدّد في كتابه ترتيب المدارك مصادر الإمام مالك ذكر منها: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وعمل أهل المدينة، وفي المقابل عاب على أبي حنيفة احتفاءه الكبير بالقياس والاستحسان، حيث يقول: "...فترك نصوص الأصول وتمسّك بالمعقول، وآثر الرأي والقياس والاستحسان، ثم قدّم الاستحسان على القياس فأبْعَدَ ما شاء ..."[20] وبغض النظر عن مدى انطباق ما قاله القاضي عياض على منهج الإمام أبي حنيفة في الاجتهاد، فإن الشاهد هنا هو أنه لو كان القاضي عياض يعتقد صحة ما روي عن ابن القاسم من نسبة القول إلى مالك بأن الاستحسان "تسعة أعشار العلم"، وأن الاستحسان من أصول مذهب مالك، لما تجرّأ على انتقاد الإمام أبي حنيفة في موضوع الاستحسان، لأن الإمام مالك بذلك يكون أغرق في الاستحسان من أبي حنيفة وتلاميذه.
وكذلك الأمر عند الشريف التلمساني في كتابه مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، حيث لم يورد ذكرا للاستحسان ضمن أصول الإمام مالك.[21]
وقد نقل الشوكاني عن الإمام القرطبي إنكاره لكون الاستحسان من أصول الاستنباط عند الإمام مالك، حيث قال: "ونسبه (أي الاستحسان) إمام الحرمين إلى مالك، وأنكره القرطبي فقال ليس معروفا من مذهبه".[22]
وجاء في مختصر المنتهى لابن الحاجب: "الاستحسان قال به الحنفية والحنابلة وأنكره غيرهم"،[23] وهو الرأي ذاته الذي أورده ابن جزيّ.[24] وهذا إنكار واضح من ابن الحاجب وابن جزيّ لكون الاستحسان من أصول مذهب مالك.
أما القرافي فقد نسبه إلى بعض المالكية، حيث قال: "وهو حجّة عند الحنفية، وبعض البصريين منَّا، وأنكره العراقيون".[25]
وقد اكتفى ابن خويز منداد بنسبته إلى أصحاب مالك وليس إلى مالك نفسه؛ يقول الباجي: "ذكر محمد بن خويز منداد من أصحابنا أن معنى الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك رحمه الله ...".[26]
الاستحسان عند علماء المذهب
ربما كان أول من نسب الاستحسان إلى مذهب الإمام مالك هو ابن القاسم (ت 191هـ)، حيث روى عنه أصبغ أنه نسب إلى مالك قوله: "الاستحسان تسعة أعشار العلم"،[27] ثم أصبغ (ت 225هـ) نفسه الذي يعدّ من أكثر المالكية رفعا من شأن الاستحسان، حيث روي عنه أنه قال: "قد يكون الاستحسان أغلب من القياس"،[28] وقوله: "إن المُغْرِق في القياس يكاد يفارق السنّة. وإن الاستحسان عماد العلم"،[29] وقد وصف الشاطبي هذا القول الأخير من أصبغ بالمبالغة.[30]
وقد ذكر أبو عبيد الجبيري المالكي (ت 378هـ) ـ بعد أن حدَّد المصادر الأساسية للإمام مالك في: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وإجماع أهل المدينة ـ أنه قد ترد للإمام مالك "نصوص في حوادث عَدَل فيها عن الأصول التي أصَّلنا: إما لخفاء العلّة التي توجب البناء عليها وتضطر إلى الردّ إليها، أو لضرب من المصلحة"،[31] ولكنه لم يُطلق على ذلك العدول اصطلاح "الاستحسان" ولا "المصلحة المرسلة".
وقد سبق ذكر أقوال بعض علماء المذهب الذين إما أنكروا صراحة أن يكون الإمام مالك قد قال بالاستحسان، وأن يكون من أصول مذهبه، أو يوحي عدم ذكرهم الاستحسان ضمن أصول المذهب بعدم اعتباره أصلا، أو على الأقل بالتهوين من مكانته في المذهب.
وقد سار فريق من علماء المذهب على عَدّ الاستحسان من أصول المذهب، وإن كان أفراد هذا الفريق قد اختلفوا في مفهومه بين موسّع ومضيّق، ويمكن تصنيف مواقفهم من مفهوم الاستحسان إلى ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول:
يتوسّع أصحاب هذا الاتجاه في تعريف الاستحسان ليقترب من الاستحسان الحنفي. ويمثّل هذا الاتجاه أبو بكر بن العربي، حيث عرفه بأنه: "إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخُّص، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته".[32]
وفسّره في أحكام القرآن بقوله: "الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين... نكتته المجزئة ههنا أن العموم إذا استمر والقياس إذا اطرد، فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان، من ظاهر أو معنى. ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس، ويرى مالك وأبو حنيفة تخصيص القياس ببعض العلة... ولم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة ولا رأى تخصيص العلة".[33]
وما ذكره ابن العربي من كون الإمام مالك يرى تخصيص العلة مختَلَفٌ فيه؛ فقد ذكر ابن القصار (ت 397هـ) في مقدمته في الأصول أن مذهب المالكية عدم جواز تخصيص العلل الشرعية،[34] وهو خلاف ما ادعاه ابن العربي. ومع أن كلام ابن القصار وابن العربي في مسألة تخصيص العلة مجرّد اجتهاد منهما، وتخريج على اجتهادات الإمام مالك؛ إذ يبْعُد أن يكون الإمام مالك تكلّم في اصطلاحات تخصيص العلة ونقضها، إلا أن الهدف من هذا النقل هو بيان أن بعض أسس الاستحسان عند ابن العربي ليس محلّ اتفاق بين المالكية، بل هو مرفوض من قبل بعض من سبقه من علماء المذهب المؤسسين لأصوله.
ويقسم ابن العربي الاستحسان إلى الأنواع الآتية: ترك عموم الدليل للعرف كما هو الحال في الرجوع في الأيمان إلى العرف، وترك الدليل إلى المصلحة مثل القول بتضمين الأجير المشترك مع أن الأصل في الأجير أنه مؤتمن لا ضمان عليه، وترك الدليل للإجماع ويمثل له بإيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي، فالأصل أن الضمان يكون لقيمة النقص الحاصل في الدابة وهو الذيل المقطوع، ولكن لما كانت الدابة للقاضي فإن الجاني يكون عليه ضمان القيمة الكلية للدابة، وذلك لاستقباح ركوب القاضي دابة مقطوعة الذيل، فصار إتلاف ذيلها في حكم إتلافها كلها، وأخيرا ترك الدليل في اليسير لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق مثل إجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة وإجازة بيع وصرف في اليسير.[35]
ومن هذا التقسيم يتبين كيف توسع ابن العربي في مفهوم الاستحسان الذي ينسبه إلى المذهب. ويُرْجِع محمد أبو زهرة توسُّع ابن العربي في تعريفه للاستحسان بالسعي إلى التقريب بين مفهومي الاستحسان المالكي والاستحسان الحنفي، فوسّع مفهومه عند المالكية ليصير قريبا مما هو عند الحنفية.[36] ولا يبْعُد أن يكون ذلك ناتجا عن تأثُّره بالمذهب الحنفي، خاصة في رحلته العلمية الطويلة إلى المشرق. ومما يمكن أن يستشهد به لإسناد ذلك ما سبق ذكره في كلامه في تخصيص العلة وربط ذلك بالمذهب الحنفي، ومعلوم أن رأي المتقدمين من أصوليي الحنفية القول بجواز تخصيص العلل الشرعية، وإن كان المتأخرون منهم قد أنكروا جواز ذلك.[37]
الاتجاه الثاني:
في مقابل توسُّع ابن العربي في مفهوم الاستحسان المنسوب إلى المذهب، نجد اتجاها آخر يرفض ذلك التوسُّع بحصر مفهومه في المذهب المالكي في نطاق ضيّق، وهو إما جعله تعبيرا عن أسلوب الجمع والترجيح بين الأدلة، أو حصره في كونه تخصيصا للقياس في حال معارضة إجرائه لمصلحة شرعية.
فابن خويز منداد يحصر مفهوم الاستحسان الوارد في المذهب في كونه أسلوبا من أساليب التعامل مع مختلف الأدلة بالجمع والترجيح بينها، حيث عرفه بأنه: "القول بأقوى الدليلين"، ومثّل له بمسألة العرايا التي يتنازعها دليلان أحدهما حديث تحريم ربا الفضل الذي يشتمل على تحريم بيع التمر بالتمر إذا لم يتوفر شرطا التساوي والتقابض في المجلس،[38] وهو يشمل بظاهره بيع العرايا، وحديث الترخيص في بيع العرايا،[39] فكان العمل بهذا الحديث في موضوع العرايا أقوى وأولى من التمسُّك بظاهر العموم في حديث تحريم بيع التمر بالتمر دون تساو وتقابض في المجلس.
أما الأبياري فيعترض صراحة على توسُّع ابن العربي في تعريفه للاستحسان، ويشكّك في كون ذلك التعريف يمثّل حقّا المذهب المالكي، فيقول: "الذي يظهر من مذهب مالك القولُ بالاستحسان لا على المعنى السابق (أي تعريف ابن العربي له) بل هو استعمال مصلحة جزئية في مقابل قياس كلي، فهو يقدِّم الاستدلال المُرسَل على القياس".[40]
وما ذهب إليه الأبياري يتفّق مع تعريف ابن رشد الذي يعرفه بقوله: "الاستحسان الذي يكثر سماعه، حتى يكون أغلب من القياس، هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم فيختص به ذلك الموضع".[41]
وهو النهج نفسه الذي سار عليه الشاطبي، حيث عرفه بأنه "الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي. ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس"،[42] وذلك حين يكون إجراء القياس بشكل مطلق يؤدي إلى إيقاع حرج ومشقة بالمكلَّف،[43] فيقيّد ذلك القياس بما يرفع المشقة والحرج عن المكلَّف كما هي عادة الشرع في أحكامه.
ولم يجعل الشاطبي الاستحسان أكثر من "قاعدة"[44] من القواعد التي يراعيها المجتهد في إعمال النصوص الشرعية وإجراء الأقيسة، وأدخلها ضمن باب "النظر في مآلات الأفعال".[45]
الاتجاه الثالث:
لم يحتفل أصحابه بموضوع الاستحسان سواء بإهمال ذكره كلية ضمن مباحث أصول الفقه، أو بالتصريح بأنه مجرّد تعبير من التعبيرات المستعملة في مباحث الفقه.
فمن الذين أهملوا ذكره كلية ضمن أصول المذهب المالكي: ابن القصار الذي حصر أدلة مالك في: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاستدلالات منها، والقياس عليها، ولم يورد ذكرا للاستحسان ولم ينسبه إلى مالك.[46] وكذلك الشأن عند القاضي عبد الوهاب البغدادي، حيث حدّد الأدلة المعتبرة في المذهب في: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وعمل أهل المدينة،[47] بل نُقِل عنه الإنكار الصريح لصحّة نسبة القول بالاستحسان إلى الإمام مالك كما سبق بيانه. وكذلك القاضي عياض في كتابه ترتيب المدارك لمَّا كان بصدد تعداد مصادر الإمام مالك، حيث حصرها في: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.[48] والشريف التلمساني في كتابه مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول.[49]
ومن الذين صرّحوا بأنه لا يُعدّ من أصول المذهب، وأنه مجرّد تعبير تواضع عليه بعض أهل الفقه، أبو الوليد الباجي الذي لم يُدخله ضمن الأدلة الشرعية لا الأصليّة ولا التّبعيّة، وإنما رآه مجرّد تعبير (مواضعة)، حيث يعلق على ما ذكر في بعض كتب المالكية من القول بالبناء في مَن قطع صلاته بالرعاف للرواية الواردة في ذلك، وهو ما اعتبروه استحسانا بالعدول عن القياس، فيقول: "وهذا الذي ذهب إليه (النص الوارد في الرعاف) هو الدليل، وإن كان يسميه استحسانا على سبيل المواضعة، ولا يمتنع ذلك في حق أهل كل صناعة".[50]
ويذهب الباجي خطوة أبعد من عدّ الاستحسان مجرد مواضعة، ليهدم أساسا من الأسس التي بُنيّ عليها هذا الاصطلاح، وهو كونه عدولا عن الأصل، حيث يرى أن القول في الرعاف بالبناء ليس تخصيصا للأصل الذي بُنِيّ عليه القول بالاستئناف، وإنما النص الوارد في البناء بسبب الرعاف أثبت أصلا آخر مستقلا بنفسه؛ فليس هناك استثناء ولا ما يمكن أن يوصف بأنه استحسان.[51]وهذه إشارة إلى عدم موافقة الباجي على فكرة كون بعض النصوص أصولا والبعض الآخر مخالفا للأصول، بل كلّ نص شرعي ثبتت صحته يعدّ أصلا في حدّ ذاته فيما يشمله من المسائل، وليس استثناء من أصل آخر ولا معارضا له، وهو الرأي الذي يذهب إليه ابن حزم الأندلسي.[52]
أصل الاستحسان في المذهب المالكي
لقد تبيّن مما سبق عدم وجود إشارة إلى مصطلح الاستحسان في الموطأ، أما نصوص المدونة الكبرى فإنه من المعلوم أنها لا تلتزم بألفاظ مالك، بل هي تلخيص لآرائه وما يُخرّج عليها، بأسلوب رواتها وكتّابها، ومن ثم فإن ما ورد فيها من ألفاظ الاستحسان لا يمكن الجزم بنسبته إلى مالك نفسه.
وتخبرنا الكتب التي أرّخت لأعلام المذهب المالكي عن الاتجاه الفقهي لابن القاسم (191هـ) بأنه كان يُعدّ من أهل الرأي في المذهب، حيث يقول عنه ابن عبد البرّ: "غلب عليه الرأي"،[53]وكذلك الشأن في أصبغ (225هـ) الذي تُنسب إليه الرواية عن ابن القاسم بأن الإمام مالك كان يعدّ الاستحسان تسعة أعشار العلم، حيث وصفه غير واحد بأنه كان "حسن القياس"،[54] وقد كان له كلام في أصول الفقه؛[55] فربما كان من أوائل من حاول تقنين أصول المذهب المالكي، فتكلّم عن القياس والاستحسان الذي كان شائعا في عصره وربطه بالمذهب المالكي.
كما يبدو أنه كان هناك تضخيم لفكرة الاستحسان عند المصريين من المالكية، جعلت أصبغ يقول: "إن الاستحسان عماد العلم"،[56] ويؤكد ذلك ما ذكره الباجي في الإشارات من أن بعض المالكية من المصريين ذهب إلى قبول الاستحسان وإن لم يكن له دليل واضح، ولكن شيوخ المالكية من العراقيين رفضوا ذلك.[57]
وفضلا عما سبق فإننا نلاحظ اختلافا واضحا في تحديد ماهية ما يُصطلح عليه بـ"الاستحسان" في المذهب بين موسِّع ومضيِّق ومنكر لوجوده أصلا.
وبناء على ما سبق، خاصة إنكار كثير من أعلام المذهب نسبة القول بالاستحسان ـ بوصفه مصطلحا أصوليا له دلالاته ـ إلى الإمام مالك أو عدّه من أصول المذهب، فإن الذي يترجّح للباحث أن الإمام مالك لم يستخدم مصطلح الاستحسان بنفسه، وإنما استخدمه بعض أتباعه. ويبدو أن سبب ذلك الاستخدام هو ما رآه أولئك الأتباع من توافق كثيرٍ من الاجتهادات التي رُوِيَت عن الإمام مالك في معناها مع ما اصطلح عليه فقهاء المذهب الحنفي بالاستحسان، ولَمَّا كان اصطلاح الاستحسان قد أصبح شائعا في عصرهم فقد أطلقوا على تلك الاجتهادات هذا الاصطلاح وتوسّعوا في ذلك، ونسبوا القول به إلى مالك في بعض الحالات باعتبار معناه لا باعتبار أنه استعمله كمصطلح.
ويؤيد ذلك تعليق الأبياري على تعريف ابن العربي، وذهابه إلى أن ما يعرف بـ"الاستحسان" في كتب المذهب إنما هو "استعمال مصحلة جزئية في مقابل قياس كلي"، بناء على ما اشتُهِر من أن الإمام مالك كان يقدِّم الاستدلال المرسل (المصحلة المرسلة) على القياس. وهو الأمر نفسه الذي ذهب إليه ابن رشد والشاطبي، كما سبق ذكره.
فما عُرف عن الإمام مالك من تقييد عموم الأقيسة والقواعد العامة بالمصالح الجزئية المعتبرة شرعا، يُشبه في مضمونه بعض ما اصطلح عليه علماء الحنفية بالاستحسان، فكان ذلك دافعا لبعض علماء المذهب المالكي إلى إطلاق مصطلح الاستحسان على هذه الاجتهادات.
ويبدو أن عدم تصريح الأوائل من علماء المذهب المالكي الذين استخدموا مصطلح الاستحسان ونسبوه إلى مذهب مالك بأن ذلك مجرّد اجتهاد وتخريج منهم، وليس رواية نصية عن الإمام مالك، جعل بعض من جاء بعدهم يظنّ أن تعبيرات الاستحسان الواردة في كتب الأتباع منسوبة إلى مالك نصّا وليس معنى فقط.
مقارنة بين المذهبين المالكي والحنفي
من أجل مزيد بيان العلاقة بين مفهومي الاستحسان في المذهبين المالكي والحنفي نعقد مقارنة سريعة بينهما لنرى أوجه التشابه وأوجه الاختلاف.
أوّل ما يلاحظ في هذه المقارنة أن علماء المالكية غير متفقين على نسبة الاستحسان إلى مالك وعلى جعله أصلا من أصول المذهب، في حين نجد اتفاق علماء الحنفية على نسبته إلى المذهب وأئمته وإن اختلفوا بعد ذلك في المعاني التي استخدموه فيها، كما أن المثبتين للاستحسان من فقهاء المالكية لم يضطربوا كثيرا في تحديد مفهومه وإن اختلفوا في مداه بين موسِّع ومضيِّق، حيث يدور في مجمله على ترك دليل إلى دليل آخر يكون العمل به أولى مراعاة لمصلحة وطلبا للتيسير، في حين نجد عند فقهاء الحنفية بين المتقدمين والمتأخرين خلافا واضطرابا كبيرا في تحديد مفهومه وحقيقته.[58]
وإذا أخذنا تعريفات أتباع كل من المذهبين في عمومها، فإننا نلاحظ بعض أوجه التشابه وبعض أوجه الاختلاف، وتتمثل أوجه التشابه فيمل يأتي:
ـ جعل الاستحسان بالإجماع من أنواع الاستحسان عند المتأخرين من الحنفية من جهة وعند ابن العربي من المالكية.
ـ الاستحسان بالعرف عند ابن العربي من المالكية وعند الكرخي من الحنفية.[59]
ـ التشابه بين تعريف الجصاص من جهة حين جعل من معاني الاستحسان تخصيص القياس بدليل أقوى منه، وتعريف ابن العربي من جهة أخرى حيث يرى أن أبا حنيفة ومالك يتفقان في القول بتخصيص القياس، ومن ثم القول بتخصيص العلة ويجعل ذلك من أنواع الاستحسان المشتركة بين المذهبين،[60] وهو ما أيّده كل من ابن رشد والشاطبي حين عدّا جوهر الاستسحان في المذهب المالكي من باب تخصيص القياس عندما يؤدي إجراؤه بإطلاق إلى مشقة وحرج خارجين عن مبادئ الشريعة ومقاصدها كما سبق ذكره.
ـ ومن أوجه التشابه الاستحسان بالمصلحة الذي هو عمدة الاستحسان عند القائلين به من المالكية؛ فعلى الرغم من أنه يبدو في الظاهر اختصاص المالكية به، إذ لم يُذكر هذا
النوع بشكل صريح في تقسيمات الحنفية، إلا أنه عند التدقيق فيما يصطلحون عليه "الاستحسان بالضرورة" نجد أنه يُشبه إلى حدّ بعيد الاستحسان بالمصلحة عند المالكية لأنه عائد إلى تحقيق مصلحة المكلفين برفع الحرج والمشقة عنهم في المسائل التي يؤدي فيها العمل بالقياس إلى مشقة وحرج.
أما جوانب الاختلاف فمنها تفسير الحنفية للاستسحان بالعدول عن موجب قياس جلي إلى قياس خفي أقوى منه، وهذا النوع لا ذكر له عند المالكية حتى عند المتوسعين منهم كابن العربي. ومنها الاستحسان بالنص، حيث يجعله الحنفية نوعا من أنواع الاستحسان، ولا يورده المالكية ضمن أنواعه. ولكن يلاحظ على الأمثلة التي أوردها الشاطبي عند محاولته لتسويغ مفهوم الاستحسان بأنه في جوهره غير خارج عن أدلة الشرع أنها من قبيل ما يسميه الحنفية استحسانا بالنص، حيث ذكر إباحة القرض، وبيع العرايا، والقصر والجمع في الصلوات، وغيرها.[61]
خاتمة
خلاصة هذا البحث أنه من الراجح أن نسبة القول بالاستحسان لفظا واصطلاحا إلى مالك لا تصحّ، وأن استخدامه في مذهبه من قبل بعض الأتباع لا يرفعه إلى درجة كونه أصلا من أصول الاستنباط في المذهب، بل هو عند من كان يعبّر به من فقهاء المذهب أقرب ما يكون إلى ما وصفه به ابن رشد بأنه "جمع بين الأدلة المتعارضة"،[62] أو ما وصفه به الشاطبي بأنه نوع من النظر في مآلات الأفعال. ولا شك أن الجمع بين الأدلة المتعارضة والنظر في مآلات الأفعال لا تعدو أن تكون طرقا للتعامل مع النصوص والأدلة الجزئية ولا يمكن رفعها إلى أصول الاستنباط والأدلة الإجمالية.
فإن قيل: سواء قلنا إن الاستحسان أصل من أصول الاستنباط، أو مجرد تعبير عن بعض مسالك الجمع والترجيح بين الأدلة والنظر في مآلات الأفعال، فإن المحصلة واحدة، وقد اندرس هذا الموضوع ولم يعد محل نزاع كبير، ولا مشاحة في الاصطلاح. فإن الجواب أن هذا الأمر لا يمكن تسليمه كله، فمع أنه لا اعتراض من حيث المبدأ على قاعدة "لا مشاحة في الاصطلاح"، إلا أن هذه القاعدة تُعمَل عندما لا يترتب على الاصطلاح لبس أو اختلاط في المفاهيم، أما إذا أدى الأمر إلى ذلك فإن الاصطلاح يصير محل المشاحة وينبغي أن يضبط.
وقد أدى ما شاع عند المتأخرين من الأصوليين من عدّ الاستحسان دليلا من الأدلة (حتى وإن عدوه من الأدلة التبعية أو المختلف فيها) إلى لبس في فهم بعض المعاصرين، الأمر الذي جعلهم ينتقدون الأصوليين بعدم تطوير أصل الاستحسان، ويرون أن ذلك
من الجوانب التي ينبغي تطويرها في محاولة تجديد هذا العلم.[63] ولعمري كيف تُبنى نظرية أصول الفقه على أصل غامض ليست له حقيقة في ذاته. ويرى الباحث أن هذا خلط منهجي ينبغي تداركه؛ ولذلك فإنه يوصي المؤلفين في علم أصول الفقه التنبه إلى هذا الاضطراب المنهجي وتصحيحه، بإرجاع ما يُعبّر عنه بالاستحسان في بعض المذاهب إلى مباحثه الأصلية عند الحديث عن التخصيص والاستثناء، والترجيح بين الأدلة ومنها الأقيسة،[64] وإخراج مبحث الاستحسان من الأدلة التبعية أو المختلف فيها، أو أصول المذهب المالكي، فهو في حقيقته ليس دليلا ولا أصلا من أصول الاستنباط، وإنما منهج مجرد منهج في التعامل مع النصوص والأدلة.
قائمة المراجع
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الاعتصام، ضبط أحمد عبد الشافي، الطبعة الثانية، بيروت: دار الكتب العلمية (1411هـ/ 1991م).
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، شرح عبد الله دراز، بيروت: دار الكتب العلمية (د. ت).
أبو الحسن علي بن عمر ابن القصار المالكي، المقدمة في الأصول، قراءة وتعليق محمد بن الحسن السليماني، الطبعة الأولى، بيروت: دار الغرب الإسلامي (1996م).
أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ/ 2004م).
أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد ابن جزي، تقريب الوصول إلى علم الأصول، تحقيق عبد الله محمد الجبوري، بغداد: جامعة بغداد (1410هـ/ 1990م).
أبو الوليد الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، تحقيق عبد المجيد تركي، الطبعة الثانية، بيروت: دار الغرب الإسلامي (1415هـ/ 1995).
أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، الإشارات في أصول الفقه المالكي، تحقيق نورالدين مختار الخادمي، الطبعة الأولى، بيروت: دار ابن حزم (1421هـ/ 2000م).
أبو بكر الجصاص، أصول الجصاص، ضبط محمد محمد تامر، الطبعة الأولى، بيروت: دار الكتب العلمية (1420هـ/ 2000م).
أبو بكر محمد بن عبد الله ابن العربي، أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه (د. ت).
أبو عمرو جمال الدين ابن الحاجب، مختصر المنتهى الأصولي ومعه شرح العضد، ضبط فادي نصيف وطارق يحيى، الطبعة الأولى، بيروت: دار الكتب العلمية (1421هـ/ 2000م).
أبو محمد علي بن أحمد ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، بيروت: دار الكتب العلمية (د. ت).
آل تيمية، عبد السلام، عبد الحليم، أحمد بن عبد الحليم، المسودة، القاهرة: دار المدني (د. ت).
حسن الترابي، قضايا التجديد: نحو منهج أصولي، الخرطوم: معهد البحوث والدراسات الاجتماعية (1411هـ/ 1990م).
سيدي أحمد الدردير، الشرح الكبير، بيروت: دار الفكر (د. ت).
الشريف أبو عبد الله محمد بن أحمد التلمساني، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، دراسة وتحقيق محمد فركوس، الطبعة الأولى، مكة: المكتبة المكية، بيروت: مؤسسة الريان (1419هـ/ 1998م).
عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، وضع حواشيه عبد الله محمود محمد عمر، الطبعة الأولى، بيروت: دار الكتب العلمية (1418هـ/ 1997م).
عبد الله بن محمد بن علي ابن التلمساني، شرح المعالم في أصول الفقه، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، الطبعة الأولى، بيروت: عالم الكتب (1419هـ/1999م).
فريد الأنصاري، المصطلح الأصولي عند الشاطبي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة (1424هـ/ 2004م).
القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، تحقيق أحمد بكير محمود، بيروت: دار مكتبة الحياة، طرابلس: دار مكتبة الفكر (د. ت).
مالك بن أنس، المدونة الكبرى، بيروت: دار صادر (د. ت).
مالك بن أنس، موطأ مالك، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مصر: دار إحياء التراث العربي (د. ت).
محمد أبو زهرة، أبو حنيفة: حياته وعصره، آراؤه وفقهه،القاهرة: دار الفكر العربي (د. ت).
محمد أبو زهرة، أصول الفقه، القاهرة: دار الفكر العربي (1417هـ/ 1997م).
محمد أبو زهرة، ابن حزم: حياته وعصره، آراؤه وفقهه،القاهرة: دار الفكر العربي (د. ت).
محمد أبو زهرة، مالك: حياته وعصره، آراؤه وفقهه، القاهرة: دار الفكر العربي (1963-1964).
محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، بداية المجتهد، بيروت: دار الفكر (د. ت).
محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، تحقيق محمد سعيد البدري، الطبعة الأولى، بيروت: دار الفكر (1412هـ/ 1992).
محمد عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي، بيروت: دار الفكر (د. ت).
الهوامش
[1] أولها في "باب انتظار الصلاة والمشي إليها": "عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال له: ثم ألم أر صاحبك إذا دخل المسجد يجلس قبل. قال أبو النضر، يعني بذلك عمر بن عبيد الله ويعيب ذلك عليه أن يجلس إذا دخل المسجد قبل. قال يحيى قال مالك وذلك حسن وليس بواجب" مالك بن أنس، الموطأ، 1/162 (د. ت). وثانيها في "باب زكاة الميراث": "حدثني يحيى عن مالك أنه قال: ثم إن الرجل إذا هلك ولم يؤد زكاة ماله إني أرى أن يؤخذ ذلك من ثلث ماله ولا يجاوز بها الثلث وتبدّى على الوصايا وأراها بمنـزلة الدين عليه فلذلك رأيت أن تبدّى على الوصايا. قال: وذلك إذا أوصى بها الميت، قال فإن لم يوص بذلك الميت ففعل ذلك أهله فذلك حسن، وإن لم يفعل ذلك أهله لم يلزمهم ذلك".الموطأ، 1/252 (د. ت). وثالثها في "باب جامع الصيام": "قال يحيى سمعت مالكا يقول: لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يُقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه". الموطأ، 1/311 (د. ت). وهناك موضع رابع نسب فيه القول بالحسن إلى زيد بن ثابت في "باب الرخصة في قراءة القرآن": عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال كنت أنا ومحمد بن يحيى بن حبان جالسين فدعا محمد رجلا فقال أخبرني بالذي سمعت من أبيك فقال الرجل أخبرني أبي ثم أنه أتى زيد بن ثابت فقال له كيف ترى في قراءة القرآن في سبع فقال زيد حسن، ولأن أقرأه في نصف أو عشر أحب إلي، وسلني لم ذاك؟ قال: فإني أسألك. قال زيد: لكي أتدبره وأقف عليه". الموطأ، 1/200 (د. ت).
[2] من أمثلة ذلك ما جاء في "باب في التيمم": "وسئل مالك عن رجل تيمم أيؤم أصحابه وهم على وضوء قال يؤمهم غيره أحب إلي، ولو أمّهم هو لم أر بذلك بأسا". الموطأ، 1/55 (د. ت)، وما جاء في "باب افتتاح الصلاة": "وسئل مالك عن رجل دخل مع الإمام فنسي تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوعحتى صلى ركعة ثم ذكر أنه لم يكن كبر تكبيرة الافتتاح ولا ثم الركوع وكبر في الركعة الثانية، قال: يبتدئ صلاته أحبّ إلي، ولو سها مع الإمام عن تكبيرة الافتتاح وكبر في الركوع الأول رأيت ذلك مجزيا عنه إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح". الموطأ، 1/77 (د. ت).
[3] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 10/299؛ 14/373 (د. ت).
[4] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 1/92؛ 2/484؛ 4/232؛ 5/322؛ 8/373؛ 10/175؛ 14/403؛ 14/495؛ 16/271.
[5] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 8/417؛ 8/436؛ 14/495.
[6] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 4/238؛ 5/326؛ 8/417؛ 12/110؛ 14/445؛ 16/411.
[7] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 3/322، 8/373، 8/417، 8/436، 10/175، 10/299، 14/373، 14/495.
[8] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 1/92، 14/403.
[9] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 2/484، 4/232، 5/326، 16/271.
[10] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 4/238، 12/110، 14/445، 16/411.
[11] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 8/373، 8/417، 8/436، 10/175، 10/299، 12/110، 14/403، 14/445، 14/495، 16/411.
[12] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 1/92، 2/484، 4/238، 5/322، 5/326، 16/271.
[13] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 4/232.
[14] مالك بن أنس، المدونة الكبرى، 14/373.
[15] أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، 2/371. ويعدّ أصبغ من أكثر المالكية رفعا من شأن الاستحسان، حيث روي عنه أنه قال: "قد يكون الاستحسان أغلب من القياس" الاعتصام، 2/371 (1991)، وقوله: "إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنّة. وإن الاستحسان عماد العلم"، وقد وصف الشاطبي هذا القول الأخير من أصبغ بالمبالغة، وإن كان قد أيّد مضمونه بقوله: "والأدلة المذكورة تعضد ما قال". الموافقات،4/152 (د. ت).
[16] وهذه المسائل هي الشفعة في العقار، والشفعة في الثمار، والقضاء في القصاص بشاهد ويمين، وتمييز دية إنملة الإبهام عن أنامل الأصابع الأخرى بجعل ديتها خمسة من الأبل (نصف دية الأصبع، مع أن دية الإنملة في الأصابع الأخرى هي ثلث دية الأصبع فقط). الدردير، الشرح الكبير، 3/479-480 (د. ت).
[17] محمد عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي، 3/479-480 (د. ت).
[18] آل تيمية، المسودة، 401-402 (د. ت).
[19] ملحق بكتاب المقدمة في الأصول لابن القصار، 248 (1996).
[20] القاضي عياض، ترتيب المدارك، 1/93-95 (د. ت).
[21] الشريف التلمساني، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول (1998).
[22] محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، 401 (1992).
[23] أبو عمرو جمال الدين ابن الحاجب، مختصر المنتهى الأصولي ومعه شرح العضد، 372 (2000).
[24] أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد ابن جزي، تقريب الوصول إلى علم الأصول، 144 (1990).
[25] أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي، شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول 355 (2004).
[26] أبو الوليد الباجي، إحكام الفصول،2/693 (1995).
[27] أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، 2/371 (1991).
[28] أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، 2/371 (1991).
[29] أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، 4/152 (د. ت).
[30] المرجع نفسه.
[31] ملحق بكتاب المقدمة في الأصول لابن القصار، 212-213 (1996).
[32] أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، 4/150 (د. ت).
[33] أبو بكر محمد بن عبد الله ابن العربي، أحكام القرآن، 2/754-755 (د. ت).
[34] أبو الحسن علي بن عمر بن القصار المالكي، المقدمة في الأصول، 180 (1996).
[35] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، 4/150 (د. ت).
[36] محمد أبو زهرة، مالك: حياته وعصره، آراؤه وفقهه، 356-357 (1963-1964).
[37] انظر في رأي المتقدمين منهم: أبو بكر الجصاص، أصول الجصاص، 2/356 (2000). وانظر في رأي المتأخرين: عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، 4/46 وما بعدها (1997).
[38] روى مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثُمّ الذَّهَبُ بالذَّهَب والفِضَّة بالفِضَّة والبُرُّ بالبُرِّ والشَّعِير بالشَّعِير والتَّمْر بالتَّمْر والمِلْح بالمِلْح مِثْلا بِمِثْل سَواء بِسَوَاء يَدا بِيَد فإذَا اخْتَلَفَت هَذِه الأصْنَاف فَبِيعُوا كَيْف شِئْتُم إذَا كَان يَدا بِيَد". مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، 3/1211 (د. ت).
[39] روى مالك عن أبي هريرة قوله: "ثُمّ أنّ رَسُول اللهِ صَلّى الله عَلَيْه وسَلَّم أَرْخَص في بَيْع العَرَايَا بِخَرْصِها فِيمَا دُونَ خَمْسَة أَوْسُق أوْ في خَمْسَة أَوْسُق". مالك بن أنس، موطأ مالك، 2/650 (د. ت).
[40] محمد أبو زهرة، مالك، 356-357 (1963-1964).
[41] المصدر نفسه، 354.
[42] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، 4/148-149 (د. ت).
[43] المصدر نفسه، 4/149.
[44] المصدر نفسه، 4/148.
[45] المصدر نفسه، 4/149، 4/151. ولكن الملاحظ أن الشاطبي لم يتقيّد بمدلول هذا التعريف عند حديثه فيما بعد عن الأمثلة التي تؤيد قاعدة الاستحسان سواء في الموافقات أوالاعتصام، حيث جاءت تلك الأمثلة أقرب إلى تعريف ابن العربي ومذهب الحنفية، ووقع فيها خلط بين ما هو من الاستحسان الحنفي وما هو من الاستحسان المالكي (الموافقات، 4/149؛ والاعتصام، 2/374 (1991). وربما كان التعريف يمثّل اختيار الشاطبي لحقيقة الاستحسان في المذهب، أما الأمثلة التي أوردها فهي عرض لما هو موجود وليس بالضرورة ما يراه داخلا حقيقة تحت مسمّى الاستحسان المالكي، خاصة وأنه في كتاب الاعتصام كان في معرض الرد على المبتدعة الذين يحتجون لبدعهم بمبدأ الاستحسان، فأراد أن يبين لهم أن الاستحسان على مفهوم جميع القائلين به لا يدعم الابتداع في الدين.
[46] أبو الحسن بن القصار، مقدمة في الأصول، 40 (1996).
[47] ملحق بكتاب المقدمة في الأصول لابن القصار، 248 (1996).
[48] القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، 1/93 (د. ت).
[49] الشريف أبو عبد الله محمد بن أحمد التلمساني، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، (1998).
[50] أبو الوليد الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، 2/693 (1995).
[51] المصدر نفسه، 2/693-694.
[52] يرفض ابن حزم وجود فكرة الأصول والفروع في الدين، ويرى أن أحكام الدين كلها أصول، فكل ما ورد النص عليه في القرآن أو في السنة الثابتة يعدّ بنفسه أصلا مستقلا وليس استثناء من غيره، ومن ثم فإن عدم اعتبار بعض النصوص الثابتة بحجة مخالفتها للأصول والقواعد العامة فكرة مرفوضة عنده. أبو محمد علي بن أحمد ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 2/516 (د. ت).
[53] القاضي عياض، ترتيب المدارك، 1/434 (د. ت).
[54] المصدر نفسه، 1/561.
[55] المصدر نفسه، 1/562-563.
[56] حاول الدكتور فريد الأنصاري أن يجد تأويلا لعبارات أصبغ في تضخيم الاستحسان، وهي العبارات التي لا تتناسب مع واقع المذهب بأن ما روي "من (تضخيم) لمفهوم هذا المصطلح؛ إنما هو راجع (لدقته) الاجتهادية، و(خفاء) طريقته الاستنباطية إلا على الراسخين!" فريد الأنصاري، المصطلح الأصولي عند الشاطبي 491 (2004). ولكن هذا التأوّل لا يمكن التسليم به، حيث أننا إذا نظرنا مثلا فيما أورده الشاطبي في الموافقات والاعتصام من أمثلة عن الاستحسان نجد أن غالبه لا دقّة في الاجتهاد فيه، ولا خفاء في طريقته الاستنباطية، بل منه ما يعلمه طلاب العلم، ناهيك عن المجتهدين الراسخين.
[57] أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، الإشارات في أصول الفقه المالكي، 101 (2000).
[58] انظر في بيان الاضطراب الواقع في تعريف الاستحسان في المذهب الحنفي: جغيم نعمان، "دراسة تحليلية لمفهوم الاستحسان في المذهب الحنفي: بين مرحلتي التأسيس والتدوين"،مجلة الإسلام في آسيا، المجلد الثاني، العدد الثاني، ديسمبر (2005).
[59] جعل الكرخي استخدامات أئمة المذهب الحنفي لمصطلح الاستحسان على أربعة أنواع: أولها: ترك القياس العام لدليل خاص، مثل ترك قاعدة: أن ما لا ينقض الوضوء خارج الصلاة لا ينقضه داخلها أيضا، للأثر الذي روي بأن القهقهة في الصلاة تفسدها وتنقض الوضوء أيضا. وثانيها: ترك القياس العام لقول الصحابي، ومثال ذلك قول أبي حنيفة بجعل أجرة ردّ العبد الآبق أربعين درهما اتباعا لقول ابن عباس. وثالثها: ترك القياس العام للعرف، مثل القول بجواز بيع المعاطاة. ورابعها: اتباع معنى خفي، هو أخص بالمقصود وأمس من المعنى الجلي (ترك القياس الجلي لقياس خفي). عبد الله بن محمد بن علي ابن التلمساني، شرح المعالم في أصول الفقه، 2/471 (1999).
[60] أبو بكر بن العربي، أحكام القرآن، 3/755 (د. ت).
[61] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، 4/149-150 (د. ت).
[62] محمد بن أحمد بن محمد ابن رشد، بداية المجتهد 2/209 (د. ت).
[63] حسن الترابي، قضايا التجديد: نحو منهج أصولي، 199-200 (1990).
[64] لصاحب هذا المقال دراسة نقدية لمفهوم وتطور استعمالات مصطلح الاستحسان في المذهب الحنفي توصلت إلى أن تعبير الاستحسان عند أبي حنيفة لم يكن يتعدى معناه اللغوي الذي يوازي التعبيرات المشابهة التي كان يستخدمها غيره من آئمة المذاهب مثل "أُحبّ"، "أَحبّ إلي"، "حَسَن" وغيرها، وأنه كان يسعمل هذا اللفظ بمعنيين: أحدهما بمعنى الأولى أو الراجح، ويشمل الاستثناء، والتخصيص، والترجيح بين الأدلة؛ والثاني استعماله أحيانا من باب الرياضة الذهنية لتدريب تلاميذه على اكتساب القدرة والمهارة على التفريق الدقيق بين ما قد يبدو متشابها، فبدلا من اتجاهه مباشرة إلى إعطاء ما يراه حكما للمسألة محل النقاش، يفرض الاحتمالات الممكنة، ثم يبين خطأ بعض تلك الاحتمالات ويبرز الرأي الذي يراه صوابا، ويعبّر عن طريقة الترجيح بين تلك الاحتمالات بأنه يستحسن كذا أو كذا، بمعنى يكون الأخذ بذلك أولى وأرجح. أما المفهوم الاصطلاحي الذي استقر عليه الاستحسان فيما بعد في المذهب ورفعه إلى أصل من أصول الاستنباط فإنما بدأ مع الدبوسي ثم عمّقه من جاء بعده من الأصوليين. نعمان جغيم، دراسة تحليلية لمفهوم الاستحسان في المذهب الحنفي: بين مرحلتي التأسيس والتدوين، مجلة الإسلام في آسيا، المجلد الثاني، العدد الثاني، 40-43 (2005).