تاريخ جرح
مجموعة قصصية رائدة
في عالم القصة القصيرة السورية والعربية
عدنا الى الوراء اربعة او خمسة عقود نرى ان القصة القصيرة كانت اقرب الى سمات الرواية لاسيما الاطالة والجزالة اللفظية والغموض والوصف الفني الغني ، وعبر سطور « تاريخ جرح» للكاتب الراحل فؤاد الشايب الصادرة عام 1944 يبدو ذلك واضحاً ..احتوت المجموعة على 11 قصة( الشرق ، احلام يولاند ، ربيع يتضوّر ، قبل المدفع ، العانس، ملاك الموت ، جنازة الآلهة، تاريخ جرح، جموح القطيع، ملاذ البوس) تتألف كل واحدة منها من عدة صفحات فيها اطالة واسهاب بوصف الحدث وتجسيد صورة المكان ، عرض فيها الكاتب بيانات متعددة ومواقف مختلفة للريف والمدينة، ورسم ملامح شخصياته بدقة وتعمق بالدخول الى اغوارهم، غلب عليهم الانكسار والحزن فكان بعضها سلبياً تغلب عليه سمات الشر، وبعضها كان ايجابياً متعاوناً يحمل بذور الخير منها من استسلم الى واقعه ومنها من تمرد على واقعه بدافع التغيير نحو الافضل، دارت احداثها في المنزل والشارع والمقهى بغية الوصول الى الحياة الاجتماعية الدائرة آنذاك ، وقد نجح الكاتب في تجسيد الحالة الاجتماعية للاسرة والفرد ونقل صورة عما يدور في الشارع.. واحتلت المرأة مساحة كبيرة فكانت بطلة اغلب القصص، وتميز الكاتب باللغة القوية والعرض التقليدي للسرد، المقدمة والتدرج الى ذروة الحبكة ، ثم تلاشيها وصولاً الى النهاية، وحملت سطور المجموعة هموم الناس البسطاء وواقعهم المقترن بالخضوع للأقوى والفقر والحرمان وحصولهم على قوت يومهم ...من اجمل قصصها / العانس وهي موجهة الى المرأة خاصة- صوّرت حكاية الانثى المظلومة التي تعيش حياة انغلاق في منزل اسرتها ولا تتزوج ولا تعمل ولا تدرس فتبقى اسيرة الجدران تنظف المنزل وتنفذ الاوامر، وتستجيب لنداءات التحكم والسيطرة من قبل الأم التي كانت تعتقد بأن التربية الحسنة تتزامن مع القوة والعنف .
وتدور احداثها في غرفة الشقيقتين في منتصف الليل، اذ تحدث الأخت الصغرى شقيقتها الكبرى، وتثير بحديثها البركان الخامد في اعماقها، فتمضي الكتل النارية لأحزانها وهواجسها وآلامها...
« وظلت الاخت الكبرى صامتة تعض على ألمها ، وأي ألم هذا المارد المضغوط في قمقم الجسد الصدىء، ها هو يستفيق فتتمزق له اوصال الحديد ويطل من عينين وشفتين اطبقتا منذ الأزل ، ولم تستطع الاخت الكبرى ان تكبح اعصار اجهاشة تهدد صدرها »ص 72.
وتخبرها انها ترفض واقعها وترفض ان تكون مثلها تذعن لأوامر امها، تفقد حقها الطبيعي بالحياة، وانها تعيش قصة حب اما ان تهرب معه وإما ان تنتحر، ويكتنف الغموض والابهام القصة، إذ تترك النهاية مفتوحة للقارىء تنتهي بحلم مزعج يراود الشقيقة الكبرى.
«عفة... عفة اتتركيني وحدي ؟ لا بهذه السرعة؟ عفة... عفة خبئي ساقك تحت اللحاف ان الليلة باردة، والجو ماطر ...»ص76.
وفي قصة/ ملاك الموت/ تكون المرأة المظلومة المنهكة ايضاً هي البطلة لكنها وردت في موقف مغاير وصورة اخرى تدور احداثها في منزل كبير قديم في بيئة ريفية في غرفة رجل مريض تحكم به المرض وأراده ضعيفاً هزيلاً اصفر اللون يرتمي على سرير وبجانبه زوجته الشابة الحزينة تغادر لتحضر الدواء ولا تملك ثمنه على ان الريح العاصفة ما فتئت تمزق مراكب الغيوم هنا وهناك فلا يلوح للمرأة الناظرة الى بقعة الجلد فوقها ان هذا النهار غائم ماطر، وكأنها اطمأنت الى صحو موقوت، اخرجت من جيبها ورقة بقدر الكف، نظرت اليها بقلق ثم ما لبثت ان طوتها في كفها حريصة وتريثت في مشيتها فوق الارض الموحلة هنا والمجلدة هناك، بينما راحت تغمغم كلاماً غير مفهوم كأنها تلعن البرد وتصلي، وسارت في اتجاه الصيدلية القريبة ص77.
فتقرر ان تدخل الى منزل جارتها لتستدين منها لكنها تجد النسوة مجتمعات متحلقات حول مشعوذة تتنبأ بالغيب والمستقبل فتخبرها ان ملاك الموت سيزورها ويأخذ من منزلها احداً ما وتأسف لحالها...
تعود سميحة بعدما اشترت الدواء واقترضت ثمنه من اللحام ... فتكتشف ان الطفل الصغير قد ارتفعت حرارته واطرافه باردة ويسعل سعالاً حاداً يخبرها الطبيب انه اصيب بتسمم في احدى رئتيه ويجب ان ينام في غرفة منفصلة عن غرفة الأب وجبينه مايزال ينفض عرقاً غزيراً، وكانت دموعه تسبح بكثرة دون ان يقوى على فتح جفنيه ثم اخذته نوبة سعال قوية انتفض لها صدره ص84.
تتناوب المسكينة سميحة بين غرفتين وتعاني من اجواء الحزن والالم والسهر تتخيل نفسها حارساً يحميها من ملاك الموت وفي احدى الليالي القارسة تغفل عينها ساعة فتهرب الى غرفة الابن .. لتجده بارداً كالثلج تصرخ فيسمع صراخها كل من في الحي ..لقد اخذ ملاك الموت وحيدها الرضيع...
ويسدل الستار وتتلاشى خيوط الحبكة حينما تجثو امام زوجها المستلقي على الفراش وتمسك بيده الصفراء التي عادت اليها الحياة قليلاً.. يبدو جلياً من هذه القصة احداث الفقر والحزن والانكسار ، اجواء المرأة المستسلمة التي لا تملك ان تغير الواقع...
اما في قصة/ قبل المدفع/ فيختلف الامر اذ تدور احداثها في بيئة دمشقية تصف حياة الناس في رمضان قبل ان يصدر صوت دوي المدفع وتضاء المئذنة ويهرع الناس الى بيوتهم يتناولون ما يشاؤون من الوان الاطعمة والحلوى الناس يمشون ، يمشون اسراباً اسراباً صعوداً في الشارع وهبوطاً، ويعلقون بحافلات الترام كما تعلق الذرات بإبرة ممغنطة، وكان قاطع التذاكر يتجول بين الركاب وقد زهقت روحه الا الفقراء والبائعين المتجولين ومنهم حمدان بائع السمك النهري الذي يفطر كل يوم صحناً من الفول على قارعة الطريق .
في احدى الايام يتمرد ويثور في اعماقه حين يصادف رجلاً شيخاً يحمل صرة طعام يقع على الارض فيسقط الطعام البسيط على الارض فيهرب حمدان ليلتقط قطعة جبن وثلاث قطع من الخيار وقطعة خبز يأكلها بعيداً في ساحة خضراء يلقي الناس فيها اوساخهم.
في هذه القصة الحزينة تبدو المفارقات واضحة بين الاثرياء والفقراء المحرومين حتى من ابسط حقوقهم... الاثرياء الذين يرمون طعاماً يطعم فقراء كثيرين دون ان يعرفوا... وفي الوقت نفسه يبوح البطل حمدان لذاته بفكرة مفادها... لماذا لا يتعاون الاثرياء ويطعمون الفقراء، لكنها تبقى الاماني التي يحلم بها الانسان .)
هذه جولة في معالم / تاريخ جرح/ نقرأ فيها البوح الذاتي والمنولوجات الحزينة والتطلعات والاماني... وما يلفت الانتباه ثقافة الكاتب الغربية واطلاعه على مآثر مشاهير وادباء مثل /كلود فارير، بيار لوتي / الجدير بالذكر انها من اقدم المجموعات القصصية وقد وردت بـ 160 صفحة من القياس المتوسط في طبعتها الجديدة الصادرة عن دار البعث 2007.
مِيلده شويكاني