تأنيث الصورة معرض ثقافي سلعي فاتن
الملحق الثقافي
29/3/2011
أحمد أنيس الحسون:إن إشكالية الصورة من الإشكاليات التي تنبني في وجه من الوجوه على صراع ثقافي، وهذا الصراع حصيلة لزمن طويل، ظل المهمّش فيه طرفاً مسكوتاً عنه أمام سلطة الصورة الواحدة.
والصورة هنا متعددة الدلالة، إذ تمثّلت باستراتيجيات مختلفة منذ العصور الأولى إلى البث الفضائي؛ فعلاقة الإنسان بالصورة علاقة قديمة في عملية التواصل البشري، وإن تكن قديماً نشأت ذهنية إلا أنها تبقى في سياق الصورة. ونكاد نجزم أنه لا يوجد تفكير دون صورة متخيلة في الذهن. وعليه جاءت دراسات عديدة تحت مسمى «الصورة» كـ الصورة الفنية في الرواية، أو الشعر، أو القصة.. إلخ، ذلك أنها خطاب معرفي تواصلي.
وقد مرت الصورة التواصلية بأشواط زمنية منذ الأساطير القديمة وحتى عصر الشاشة التي تبث الصورة وفق معاييرها الأيديولوجية، ذهنية كانت أو بصرية باعتبارها سلاحاً يقول ويعبّر ويصور أيديولوجيات مختلفة «صورة مؤدلجة» وفي عصرنا الحديث «القديم جوهرياً - نظراً لأن الصورة الحديثة تعيد قولبة القديم بإنتاج جديد - تغيّرت فيه الآلية وبقي الجوهر واحداً» عادت المعركة الثقافية بين أطراف اللعبة بعدما أتاحت التكنولوجيا لهذه الأطراف ميداناً واسعاً.
ومع تعدد الأيديولوجيات تعددت الصورة الواحدة المنصبَّة في مصبٍّ واحد «المعمل الذي أنتجها»، وبعد القبح الذي مارسه الإنسان على هذه الأرض، انتقل ليعيد برنامجه التخريبي عبر الفضاء، وبذا انتقلت الصورة إلى مجال أرحب للوصول السريع المباشر، ومعه تشتعل حرب ضروس عبر الشاشات. ونظراً لعمق تأثير الصورة في ضمير الناس استخدمت المؤسسات المختلفة هذا السلاح الفعال لتسوّق منتوجها، والمنتوج هنا يشمل كل شيء بما فيها الثقافة «ثقافة التسليع» ، وعاد النسق القديم «الإرث المستقر في ذاكرتنا عاطفياً» بصورة جديدة تندرج على مضمر نسقي متجسد في قيم البث التي أصبحت تسليعاً اجتماعياً بإنتاج تلفزيوني. واستغل المنظرون فيه الشعبَ وبخاصة الشباب منهم مصورين ملاحم الشباب «غرائز ودوافع ..» مستغلين النفوذ المتأصل في أذهانهم إن دينياً أو ثقافياً بشكل عام عَبْرَ تراكمات زمنية.
وتأتي الأنثى عنصراً مهماً في البث التلفزيوني، فبعد أن ظلت لعقود طويلة مُبعدة عن أداء دورها الحي، ولا تتعدى الوجود في قصيدة شاعر أو لوحة فنان، باتت في زمن العصرنة تقول وتعبر، إلا أن دورها الحي بمعناه الشامل غاب وتضلّل، وانحرف عن المسيرة الإيجابية،. مثلاً: من خلال الصراع الأيديولوجي بين ثقافات ماضوية، وثقافات عصرية مشوهة، بدا العنصر الأنثوي أكثر بروزاً من غيره، كونه محوراً مهماً في الحرب ضد التسلط الذكوري، فما هي النتائج؟ لقد فقدت النظرية أدواتها وأعادت الأنثى إلى حظيرة الفحل المتعدد الصور هذه المرة، وامتهن المرأة أكثر من السابق، فبينما ضيّق القديم عليها الخناق أعطاها التيار الجديد أبعد من كلمة تنوير وتحرر، وغدت عبر الشاشات ذلك الجسد الممتهن، فانتقلت الأنثى من التسلط الممارس عليها في الظلام والخفاء إلى امتهان يُمارس عليها في العلن وبملء إرادتها، بل هي من يساهم ويسوّق لذلك. فهناك خطاب تدميري يصوّر المرأة كمعطى جسدي في الأفلام والمجلات والجرائد والدعاية.. وهذا من إنتاج الرجل والمرأة على حد سواء عبر سياسة الترويج ضمن أنماط وأدوار تبرر ما تقدمه بحجج ضيقة الأفق، فتنغرس هذه القيم القبيحة في وجدان المشاهد أو القارئ بهالة سحرية عجيبة، وذلك على يد فئات تقتل القيم التنويرية.
وعلى الطرف النقيض يتحرك الاتجاه الرجعي ليعيدها إلى صندوق مقتنياته بوصفها «المرأة» إحدى ممتلكاته، مجسداً من الصورة المشوهة السابقة مبرراً لقمع المرأة؛ إذ إن سطوة الصورة المؤنثة ستحرك النقيض بشكل أعنف، وأكثر تطرفاً. لقد سيطرت تاء التأنيث المشوّهة «وحركتها هنا الجر» على البث الورقي والفضائي، مما حدا – عبر هذا المد النسائي - بالشباب على أن يقلدوا الفتيات في اللباس والموضة ونبرة الصوت، وجرت محاكاة هذا النموذج الأنثوي البارز بقوة لدى شبان كثيرين تجعل أحدهم يجري عملية تجميل للتشبه بعارضة أزياء أو أي أنثى فاتنة ضمن قوانين ولعبة الصورة، وسيتجسد المظهر العام في الشوارع التي أصبحت معرضاً للصورة التلفزيونية المؤنثة. وستصبح هذه العلامات والصور في لباس الفتيات والشبان المتأنثين، وعلى واجهات المحلات؛ لأن جسد المرأة تحول إلى معرض ثقافي سلعي فاتن، وهذا الفرض الإعلامي غرس صورة التأنيث وعلاماتها، فظهر اللباس إحدى العلامات القوية في هذه الصدمة، وستتنافس الشركات في الإنتاج والتسويق، وكل يطمح أن يرتدي منتوجه هذا النجم/النجمة.
ولأن اللباس أصبح عنصراً هاماً أصبح المنطق بألا تظهر المذيعة بلباس واحد مرتين، وستصبح أغاني الفيديو كليب التي لا تتجاوز عشر دقائق مليئة بالفتيات، وفي كل دقيقة لا بدّ من الظهور في لباس آخر، فقد عرف المغني شروط اللعبة، وأنّث أغنيته، ولا قيمة للصوت هنا؛ لأنه تناثر أمام سطوة البصر، إذ حصل تغيّر جذري في مهام الحواس، وبات النظر أهم طرف في عملية التلقي، وما عادت الحاجة ملحة لأشعار عمر بن أبي ربيعة، ولا لأشعار نزار قباني أو امرئ القيس ما دامت الاستجابة النسقية العاطفية متحققة بفعل النظر.
لقد حلّ منطق جديد تخلخلت فيه المفاهيم، وأفرز – عبر الفعل ورد الفعل – صوراً مشوهة تزيد من حدة الصراع، لكننا – ومن خلال علامة نسقية عاطفية متغلغلة فينا – ننساق بعواطفنا مؤيدين ومعارضين، فتضيع الصورة النبيلة، ويضيع صنّاعها، لأن صنّاع الصورة المحاكية لأنساقنا الداخلية، والمترسبة عبر عصور في دواخلنا، سيجدون الاستجابة بحيوية أسرع كونها انبنت على العاطفة، ويبقى العقل والتعقّل والتفكّر في طريق وعر متفسخ؛ لأننا كائنات عاطفية بامتياز.
إذا كان أصحاب النظرة السكونية القديمة قد امتهنوا المرأة، فما حال التيارات الجديدة التي أعادت برنامج الامتهان بصورة جديدة؟ هل حقاً أنصفت المرأة أم أنها همشتها كإنسانة بلبوس جديد لا يختلف عن السابق إلا في المنهج؟
ما نريد قوله هنا: إن الفشل الذي أصاب الأصولية الفكرية باستراتيجيتها الخشبية وفكرها العبثي المأزوم أدى إلى عزلها سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وهذا ما ستؤول إليه حال التيارات الكثيرة التي تدّعي أنها صاحبة برنامج تنويري، والمتوازية مع سابقها القديم في إعطاء أجوبة نهائية لأهم القضايا الاجتماعية، فاندفع وراءها الشباب المتحمّس أملاً في الخروج من الاستلاب، وسرعان ما يقع تحت سطوة استلاب آخر.