نظارة باربي الزهرية...بقلم آرا سوفاليان
كان هاجس أمي الوحيد... أولادها الخمسة... خاصة وأن الوالد قد فارقنا مبكراً فلقد أجهدت نفسها في محبتنا ومراعاة مصالحنا وتخطيط مستقبلنا ... وكانت رؤيتها صائبة دوماً... ولم نفشل إلاّ حيث خالفناها... ولم نفلح إلاّ حيث وافقناها ... زرعت في نفوسنا الصغيرة الثقة بالنفس وربتنا على محبة الناس واحترام الغير. أذكرها تساعد أختي في امتحانات التخرج من كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية... حتى أوصلتها إلى وظيفة مرموقة وأذكرها تلحّ لأتابع تحصيلي العلمي بعد أن شغلتني الموسيقى والعمل بالموسيقى فأهملت دراستي ولم تتوقف إلاّ عندما أصبحت املك بيدي اليمنى شهادتي الجامعية... وعندما تواجهني الأمور الحياتية السهل منها أو الصعب أنظر إلى صورتها في خيالي وأخاطبها رغم بعد المسافة التي تفصل بيننا فأعثر على الجواب والحل وأتصرف بوحي من ضميري بعد استعارة ضميرها فأجد نفس المبادئ ونفس القيم ونفس التعاليم التي تدعوا إلى احترام الناس ومحبتهم. محل لبيع النظارات لا يبعد عن منزلي إلاّ قليلاً لم أدخله إلاّ مرة واحدة أجبرتني عليها ابنتي الصغيرة التي لمحت في واجهته نظارة زهرية اللون عليها صورة باربي ودخلنا المحل وكان هناك اثنان يتشاحنان . الأول وهو صاحب المحل شاب في مقتبل العمر ومقبل على الحياة يرتدي ملابس غريبة وشعره مصفف بطريقة غريبة يلمع تحت مصابيح الفلوريسنت وتغرق خصلاته بالجيل وسوالف مستدقة وذقن صغيرة مخططة. والثاني رجل كهل لم أرى إلا ظهره المحني وثيابه الرثة، وكان الجدل يدور حول تركيب عدسات لنظارة لم يشتريها الرجل من المحل وكان النقاش عقيماً. والتفت صاحب المحل إلى ناحيتي وقد تبدلت أسارير وجهه وبانت نواجذه وقال لي هل أستطيع خدمتكم، قلت له نظارة باربي ذات اللون الزهري الموجودة في الواجهة، فقال بدماثة كل الفتيات الصغيرات ذوات الشعر الأشقر يحبون اللون الزهري، قلت له شكراً لك، قال لي يخيل إلي أني أعرفك، قلت له أنا آرا سوفاليان وأعمل في الدعاية الطبية، قال لي أنت ارمني، قلت نعم، قال لي لقد كان معلمي أرمنيا وهو شيخ المهنة فلان هل تعرفه، قلت نعم وهو قد ترك المهنة وتقاعد ويعيش مع أولاده وأحفاده في الولايات المتحدة، قال لي هل لي أن أرى وصفة الطبيب، قلت له نعم ولكن ليس قبل أن تنتهي من الزبون الذي كان في المحل قبلي فأنا لدي حساسية خاصة من مسألة الدور واحترام حقوق الناس الذين وصلوا قبلي، قال لي هذا (شغلتو بدها حلم الله والمصيبة أنو أطرش وسمعو على قدو). قلت له إن الله يمنح الحواس والفكر والعقل والحياة ويسترد ما يمنح وقت يشاء ولا يعيّر إنسان على فقد حاسة أو عضو أو جسد أو حياة لأنه بالأصل لا يملك أي منهم مجتمعين أو متفرقين، فأنا وأنت ووالديّ ووالديك سننتهي جميعاً إلى نفس المصير، ولا يظل الإنسان صغيراً، إلاّ إذا تعمد ذلك. فعاد الرجل إلى الكهل وقال له ( شوف يا عمّ أنا والله عم أحكي عربي هادا الشنبر ما بيشتغل معي ما بينكمش على الآلة عندي... الشام مليانة محلات بيع نظارات... روح دوّر على غيري و الله ييسر لك) وذهب الكهل وهو ينظر خجلاً إلى الأرض يحمل معه النظارة التي جلبها بيده اليمين ووصفة الطبيب المهترئة بيده اليسار ورفع نظره باتجاهي فرأيت عينيه الحزينتين وقد خبا بريقهما وعاد لينظر إلى الأرض ومشى متثاقلاً ورفع يده ليفتح الباب ويخرج باحثاً عن سراب ، عن فضيلة غادرت قلوب البشر... عنوانها الرحمة. ونظر الشاب باتجاهي وعلى وجهه ملامح تذمر واستياء وقرف لا تجرؤ أية كاميرا على التقاط بعضها دون أن يحترق الفلم في جوفها. قال لي: ( بيجيك ناس بيئرفوك حياتك و المصلحة والشغل والمحل والدنيا) قلت له طوّل بالك ما الذي حدث، أنا لم أفهم القصة، ولا أعرف ما دار بينكما إلا في النهايات عندما طردت الرجل فترى هل حاول الرجل تسخيرك بحيث تقدم له العمل بالمجان، قال لي فشر، قلت له إذاً ما هي القصة. قال لي: يجئ واحدهم فيلتقط نظارة صينية من علـ بسطة بشغلة خمسين ليرة فيحضرها مع الوصفة لنتولى نحن تصنيع العدسات الجديدة وتركيبها على الشنبر تبع البسطة ورمي العدسات القديمة التي كانت على الشنبر، قلت له هل عملك هذا مأجور وتربح من تصنيع العدسات وتركيبها أم أنه على سبيل السخرة، قال لي نحن ربحنا بالشنبر أما مسألة العدسات فسعرها معروف ومكشوف ونصنع العدسات طمعاً في بيع الشنبر. قلت له أعرف بعض المرضى الذين يملكون شنابر ويضطرون لتغيير العدسات مرتين أو ثلاثة مرات في العام فهل تجبرهم على شراء ثلاثة شنابر في العام الواحد أم أنك تسارع إلى طردهم كونهم زبائن بلا شنابر. ألم ترى ملابس الرجل!... ألم تلحظ حذاءه!... هل تعتقد أنه يملك ثمن شنبرك ويمتنع عن شراؤه من عندك، ربما يكون معدماً أو أنه يعيش على راتب تقاعدي لا يكفيه ثمن الخبز فكيف الدواء والكساء، وأنت طردته وسيفعل ذلك كل أصحاب المحلات من بعدك لأن السوء تتفقون عليه وتتناقلونه بالعدوى وعن بعد، إلا إن يسر الله له... قلب بقيت فيه آثار من الرحمة. قال لي حسناً لننتهي من أمره ودعنا نخدم هذه الآنسة الصغيرة... قلت له ستفعل أي شيء في حياتك إلاّ خدمة هذه الآنسة الصغيرة... التي لن تحتاج إلى نظارتك حتى ولو رسمت فوقها ألف صورة باربي ورصعتها بالماس واللؤلؤ وكلانا لن ندخل محلك مرة ثانية أبداً. وخرجنا مسرعين ومشينا إلى سيارتنا وكان المطر شديداً ولم نعثر على الكهل،ربما دخل في حارة جانبية أو أنه توارى من الخجل في مداخل الأبنية، وفتحت الباب وجلست ابنتي الصغيرة في المقعد الخلفي، واستدرت وفتحت بابي وجلست خلف المقود، فتناهى إلى سمعي صوتها الطفولي البريء. قالت: بابا أين ذهب الرجل، قلت لها خرج ولم أعد أراه، قالت: كيف سيتمكن من العودة إلى بيته بدون نظارة، قلت لها لن يتخلى الله عنه، قالت بابا هذا الرجل شرير وأنا فخورة بك لأنك دافعت عن الكهل الفقير، قلت لها نعم ولكن خرجنا بدون نظارة باربي، قالت لا يهم سنجدها في محل آخر... الشام مليانة محلات بيع نظارات. قلت لها: أحبك يا طفلتي الجميلة لأنك تذكريني بخصال الفضيلة التي ورثتها عن جدتك أولاً وأمك ثانياً وجدتك لأمك ثالثاً. واختلطت في ذهني أصوات السيارات والضجيج والطحش والفوضى والمطر وقذارة الشارع والحفر والمطبات وضرورة السقوط فيها لأن برك الماء التي تعوم فيها القاذورات وبقايا أكياس الزبالة تحجب الرؤيا فلا يتنبه السائق النبيه للحفر فيسقط فيها، تذكرت طفولتي وتذكرت الشوارع والمطر ومدرستي وإعداديتي إعدادية الشهيد محيّ الدين داود في ساحة فارس الخوري في العـ1969ـام، وندت عني صيحة خافته لقد عرفت الكهل تذكرته كان مدرّس اللغة العربية في مدرستنا،عرفته رغم تغير الملامح ورغم انحناء الظهر ورغم تبدل بريق العينين وتحول النظرة فيهما إلى نظرة الذل والانكسار لم أتذكر أسمه أبداً ولكني أتذكر أنه لم تصدر من فمه كلمة نابية قط ولا شتيمة، ولم يضرب أحداً وكانت دروسه كلها تمرّ بهناءة وسلام. اللعنة... وخرجت عالية وبدون إرادتي.أضعت مفاتيح السيارة يا أبي... لا يا حبيبتي لقد أضعت كرامتي... ما معنى أن تضيع كرامتك... وكيف لك أن تعرفي يا حبيبتي وأنت في الصف الثاني... قربها إلى عقلي كما تفعل أمي... أن يرى الإنسان أستاذه على هذا الحال بينه وبين التسول قيد أنمله ولا يملك أن يفعل شيء... فهذا ضياع الكرامة، وأن يخرّج ويؤمن هذا الإنسان أجيال منهم التجار ومنهم الموظفون ومنهم الضباط ومنهم المدراء ومنهم المسؤولون ومنهم الوزراء ومنهم المعلمون ومنهم القادة ... ويعجز عن تأمين نظارة تعينه في رؤية طريق العودة إلى المنزل إن كان له منزل، فهذا ضياع الكرامة، وأن يهدر مراهق نملة يعادل ثمنها ثمن مليون نظارة فهذا هدرُ للكرامة. كان عليك أن تنصحه ليسافر إلى بلد جدتي... مسكينة جدتك لقد عملت المستحيل فأوصلت ابنيها إلى كندا وزوجتّهم هناك ومكثت معهم تحضهم على المكابرة وتحمل المصاعب وتجاوز مرحلة التأسيس المرهقة وتجنسوا كلاهما وهي معهم بعد أن ذاقت الهوان وعبث بها أطباؤنا وعبثوا بما ادخرت وبما خصصناه لها فلقد كانت تدور على الجميع ليتحزروا ويتفزروا ويسرقوا مالها ومال أبنائها وجربوا فأفقدوها البصر بعينها اليمنى وكانت الثانية على الطريق لولا أطباء كندا الذين كبحوا التدهور وأجروا لعينها اليسرى تطويق فتوقف التدهور لترى فيها اثنان على عشرة، وأوقفوا لها تدهور القلب والضغط والروماتيزم والسكري، وهي تخضع لفحوص دورية ومتابعة كل ستة أشهر وراتب تقاعدي يصلها إلى دارها في نهاية كل شهر تنفق منه على معيشتها وتسافر منه مرتين في العام وتساعد منه الجميع وتدخر الباقي، ويوصونها في كل مرة تحضر فيها لزيارتنا أن إن شعرت بعوارض انفصال شبكية فعليها قطع رحلتها والعودة سريعاً إلى كندا وإن سمحت بإجراء أية مداخلة جراحية بدون علمهم فستفقد حقها بالتعويض ومساندة خزانة التقاعد والصحة والمعاش أو التأمين الصحي الكندي، وقد همس طبيب من أصل مصري في أذنها قائلاً ليس لأنهم يحبونك بل لأن الضرير يكلفّ الدولة أكثر بكثير ممن هم في وضعك. وهي ماذا فعلت لكندا... لا شيء، وكندا ماذا فعلت لها... أمنت لها تقاعداً مريحاً وشيخوخة مريحة، ولا زالت تسعى من أجل لم الشمل... ولكن المستجدات التي حدثت مؤخراً... كانت أقوى من إرادتها ومن عزيمتها التي لا تلين... دون أن تعترف بالهزيمة وهي تحاول حتى اللحظة تحقيق حلمها وهو أن نسكن جميعاً في بلد واحدة ومدينة واحدة وشارع واحد وبناية واحدة وتراهن على أن حلمها سيتحقق. وسألتها صحفية في بهو قصر العدل في كندا السؤال التالي: سيدتي هل لديك أدنى أمل في ربح الدعوى... بل قولي أن لدي كل الأمل... ولكن ابنك موضوع الدعوى قد خالف قوانين الهجرة الكندية بالبقاء خارج كندا ثلاثة أضعاف المدة المسموح بها وهي ستة أشهر وبالتالي فلقد فقد حقه بالإقامة والتجنس ولا أحد في هذه البلاد فوق القانون... أنا معك ولكن القانون الكندي وغيره من القوانين كتب بأيادٍ بشرية والبشر يخطئون ويصيبون فهم ليسوا آلهة وابني خالف قانون الهجرة الكندي لأسباب قاهرة و إنسانية ومثبته بالأدلة والوثائق... أنا لا أرى أي أمل... أنا أرى كل الأمل... كيف استحلفك بالله ... بالمحبة واحترام الناس، ارجوا أن أراك بعد خروجنا من قاعة المحكمة لأخبرك بأننا ربحنا الدعوى على الحكومة الكندية... وربحت الدعوى وكان ما سعت اليه وبرأسمالٍ بسيط هو المحبة واحترام الناس.
Ara Souvalian
ara@scs-net.org