قصة من الماضي
تعريف - نص جدير بالنظر
يعود هذا النص القصصي ( أو الذي حاول أن يأتي بمثابة قصة ) إلى خريف عام 1967، حيث تم نشره آنذاك في دورية طلابية جامعية حملت اسم " المثقف العربي الثوري". كانت تصدر تلك الدورية في جامعة دمشق.. كنت آنذاك طالباً في كلية الطب و رئيساً لتحرير هذه الدورية..
أرى، أن هذا النص القصصي يرتدي قيمة تاريخية تتجاوز كثيراً قيمته الفنية.. تتجلى قيمته لإنعاش الذاكرة المنسية لموقف طالب يساري عربي تعرض لنقد أنظمة المنظومة الاشتراكية- السوفييتية، في زمن سيطر فيه على الفكر العربي لاهوت التسبيح والتعظيم بعظمة هذه المنظومة..
الجدير بالتنويه، أنني على الرغم من كوني قد وجهت النقد للنظام السوفيتي في عهده، فأنني قد استشعرت بخطورة النهج الذي قد مارسه غورباتشوف على مستقبل هذا النظام، لأنني كنت مع إصلاح ذالك النظام لا تدميره.. وأذكر في هذا الصدد أنني دخلت في مناظرة حادة مع شيوعيين عراقيين في جامعة وهران – حين كنت مدرساً فيها آنذاك – حيث أظهر هؤلاء الشيوعيون حماساً مع نهج غورباتشوف (على غرار معظم الشيوعيين العرب آنئذ).. وقلت بالحرف الواحد سيجر غورباتشوف الدمار على المنظومة السوفيتية.. (في واقع الحال لم يظهر هؤلاء الشيوعيين أي نقد قط للمنظومة السوفيتية من قبل..) [/
align]
حينما قيظ لي أن أزور برفقة وفد طلابي ألمانيا الديمقراطية، عدت حاملاً في جعبتي رؤية أولية جريئة تحمل الكثير من المعاني..
تنطلق قيمة هذه الرؤية في كونها قد سبحت ضد التيار الذي صنعته الآلة الدعائية العملاقة للنظام السوفيتي وأجهزة الأحزاب الشيوعية العربية، حين قد ألقت في روعنا محرمات غير قابلة للمس.. بل وغدت تروج لمقولة غريبة في كون هذه المنظومة قد أنجزت البناء الاشتراكي وها هي تتقدم حثيثاً نحو صياغة النظام الشيوعي.. (لم أكن اعتقد بكون النظام السوفييتي هو نظام اشتراكي حقيقي = مجرد كاريكاتور اشتراكية)
عندما عدت من ألمانيا بعد مكوث عشرين يوماً.. عبرت عن وجهة نظري لرفاقي بكون النظام الألماني الديمقراطي يعاني من أمرين أَمرّين: الشريحة البيروقراطية التي كرست نعم الاشتراكية لمصلحتها، والتبعية السوفيتية التي تجعل من المواطن الألماني يشعر في سريرته بالمهانة القومية..
تذكرت رؤيتي هذه، عندما هاجمت الجماهير الألمانية الشرقية جدار برلين.. لم أسجل في النص القصصي الآتي كل ما أختزن لدي من رؤية من زيارتي تلك، إنما قد اكتفيت بإرسال إشارات معلنة حيناً وحيناً مضمرة.. فقد كان من الاستحالة بمكان مواجهة ذلك التابو المسيطر على الأذهان في ذلك الآن.
أسجل هنا، أن هذا النص القصصي وما التحق به من رؤى نقدية لنصوص مبعثرة هنا وهناك.. جعلت الفريق الطلابي الشيوعي في جامعة دمشق يشن حرباً شعواء على دوريتنا.. تذكرنا بحرب البسوس..
والسؤال الآن: أين نحن في يومنا هذا.. ؟ !
أضع هذا النص القصصي، كما قد جاء عليه بالضبط، في سماته وهناته، كصورة طبق الأصل، من حيث هو نص للتاريخ.. لا للفن القصصي.. ( ص 69- 74 من العدد الرابع لدورية المثقف العربي الثوري - 1967)..
في الغابة.. ومع الليل.. وحتى النهاية
لم أصدق أنه لن يعجبني ذلك.. كنت أتصوّر ومن كل أعماقي أنني سأشعر بالبهجة، لكن ذلك لم يحدث..
كنا نتحلق حول إحدى الطاولات التي خصصت لنا.. ففي هذه الحفلة كان لا بد من حضور الجميع.. إذ أن حضور الوفود الأجنبية كان من الأمور اللازمة..
لكن الفرح الطفولي الذي استقبلت به الحفلة الراقصة.. ذاب.. ذاب مع الزحام والتدافع والموسيقى الصاخبة..
ونظرت إلي مارغريت.. الأوربية الجميلة: لماذا الصمت..؟ أنظر إنهم يرقصون ويضحكون..
كانت تشير لي من طرف خفي أنه لا بد من أن نرقص.. ولكن الصمت كان ردي..
جميع الشباب الذين هم في معسكر الشباب الاشتراكي.. الذي نحن فيه.. كانوا هنا..
كانت المائدة قد صنفت عليها أصناف الشراب.. كانوا سكارى.. يترنحون.. يهزجون.. الأقداح تعانق الأقداح.. والموسيقى تضج صاخبة.. والزجاجات.. ترتفع.. وتعود.. وأحياناً تهوي..
كنت أشعر بالكآبة.. مالفرق إذن..؟ أنهم في أوربا البرجوازية يصنعون ذلك أيضاً.. المدينة الجميلة التي زرناها منذ أيام.. كان فيها كل شيء منظماً على نحو اشتراكي.. فالمخازن- والمقاهي- والفنادق – كلها ملك الدولة.. وملامح الحياة الاشتراكية في كل زاوية من زوايا المدينة.. فرحي وقتها كان عظيماً.. سيصبح وطني كذلك يوماً.. إننا في بداية الطريق.. لكننا سنصبح كذلك يوماً.. القرى التي مررنا بها – إنها جميلة رائعة.. اشتراكية.. إنها ليست قرى.. ما أروعها..! كذلك ستصبح قرانا العربية يوماً.. كان فرحي وقتها.. غامراً.. يزداد.. لأني أرى الحياة الاشتراكية.. لأني أرى وطني العربي في الغد بعد أن تشرق شمس الثورة..
فرحي الطفولي الغامر..يذوب مع الموسيقى الصاخبة.. والرقص.. وزجاجات البيرة والويسكي والفودكا.. مالفرق إذن.. ؟ السؤال يلوح.. ويكبر.. يضج في أعماقي صارخاً..
في وطني الشباب يتدربون على السلاح.. فأجزاء جديدة من أرضنا - يحرقها البرابرة.. في الفيتنام تسطر أروع ملحمة بطولية في التاريخ.. وفي أجزاء عديدة من العالم.. من آسيا - وأفريقيا - وأمريكا اللاتينية.. يتصاعد النضال الثوري الدامي المسلح.. ويتكالب المد الإمبريالي..
كانوا سكارى يترنحون.. يهزجون.. الأقداح تعانق الأقداح.. الموسيقى تضج صاخبة.. والزجاجات ترتفع.. وتعود.. وأحياناً تهوي..
في الأمس مرت مناسبة العيد القومي المالي- واحتفل الجميع- وأشار المندوب المالي على تصاعد المد البربري في العالم.. وأن شرور الإمبريالية تمتد وتتسع.. ويجب أن تقابل بمزيد من القوة والصلابة. وتحدث عن المؤامرة الاستعمارية الشرسة على الوطن العربي.. وأنه لا بد للعالم الاشتراكي والشعوب أن تقف بحزم ضد الوجود الصهيوني الاستعماري. صفق الجميع بحرارة- وتتالت كلمات الوفود.
كنت أحس أن ثمة فروق بين كلمات الوفود الأفرو- آسيوية- اللاتينية.. وبين كلمات أوربا الاشتراكية.. فكلمات الوفود الأفرو- آسيوية- اللاتينية، كانت تحوي نسغاً حاراً.. لقد تحدثت عن المجابهة الصامدة.. الصارمة لقوى العدوان الإمبريالي، وعن الحروب المحدودة التي تثيرها- أمريكا.. ضد القوى الثورية، وعن تعاظم المد الإمبريالي- وعن الإستراتيجية الجديدة التي يجب أن تجابه به هذا المد - المضاد للثورة..أما كلمات الوفود الأوربية – فقد كانت تتحدث عن قوى السلم والديمقراطية- وعن المساعدات التي تقدمها تلك الدول إلى دول العالم الثالث في نضالها ضد الاستعمار.
في نهاية الاحتفال خرجت الوفود الأفرو- آسيوية- اللاتينية – وعانقت الوفد المالي بحرارة، كان موقفاً ثورياً رائعاً – تعانقت فيه وفود هذه الدول – الأسود والأبيض والأصفر والأسمر- صفق له الأوربيون بحرارة..
الفتاة الأوربية الجميلة – مارغريت – بجانبي – تشدني بحرارة: لماذا الصمت والكآبة والشرود.. فالموسيقى تنساب رائعة مرحة.. وكلهم مرحون.. هلم بنا إلى الرقص..
- لكني لا أعرف..
- لكنك ستتعلم من مرة واحدة كما أرى.. لنحاول..
.. وعدنا – إنك تتعلم بسرعة فائقة.. ولكن قل لي لماذا لا تعرف الرقص..؟
- اسمعي يا مارغريت.. أنتم في أوربا متشابهون- ونحن نختلف عنكم..
أني أعرف الرقص الشعبي.. أما هذا الرقص فهو رقص الجماعات البرجوازية في وطني – لأن ارتباطهم بالرأسمالية الاحتكارية الأوربية شديداً- ذلك من خلال تبعيته الاقتصادية.. وإذا كنت شاباً اشتراكياً حقيقياً.. فعلي الالتزام المطلق بالكادحين.. ومعاداة البرجوازية فكراً وسلوكاً وسياسة، عدا ذلك لا نملك الوقت الكافي- فالعمل السياسي يشغل وقتنا باستمرار ونحن أيضاً كما تعلمين على أبواب ممارسة الحرب الشعبية الطويلة الأمد- لذلك لا نعرف الليل..
أفترّ تغرها عن ابتسامة عذبة – ذلك جميل وواقعي..
وعدنا .. للشراب والرقص من جديد..
في أعماقي .. يثور شعور حزين.. إني أخون وجودي.. كأني أرقص على جماجم الشهداء في وطني الجريح.. وفي كافة البلدان الوفود الأفرو- آسيوية- اللاتينية.. أنا أرقص.. وهناك الأرض الحزينة.. يحرقها البرابرة..
- إني أخون وجودي- قلت لصديقتي الأوربية الجميلة..
- كم أنت كئيب- وتثير الكآبة أيها العربي.. إنك تتوهم أحياناً.. وإن كنت تتكلم أحياناً بواقعية..
عدنا إلى الطاولة .. كانوا سكارى يترنحون.. يهزجون.. الأقداح تعانق الأقداح والموسيقى تضج صاخبة.. والزجاجات ترتفع.. وتعود.. وتهوي.. زجاجة الفودكا.. انسكبت على كتاب من مختارات لينين – كان على الطاولة.. ونظرت مليّاً..
- آه أيها الرفيق العظيم لينين- إننا نحتفل.. لن تغضب.. لأننا تلامذتك.
وقالت أخرى، إنه يشاركنا الشراب.. وضحك الجميع.. لن يغضب الرفيق العظيم لينين..!!
.. خرجت بصمت- وعند الباب الخارجي أدركتني مارغريت – إلى أين ذاهب..
- إني أشعر بحاجة للمسير..
سرنا في الغاب.. الظلام شديداً.. والليل ندياً.. والهدوء عميقاً.. عميقاً.. حزيناً.. ثم ظهر القمر.. من بين السحب.. خجولاً.. خجولاًً.. ليغمر الليل بأشعته الواهية – وليزيد الغابة جمالا.. ويضفي على السكون روعة.
كانت مارغريت تسير بجانبي.. صامتة .. حيرى.. تريد أن تعلم..
- لماذا.. لا نعود..؟ من يسير في هذه الغابة الموحشة.. ويترك تلك الحفلة الراقصة الرائعة.. !
.. نظرت إلى وجهها، كان وجهها الجميل ينظر إلي بإشفاق.. وعيناها الزرقاوان يلوح فيها السؤال.. وأحسست بحب جارف عنيف نحوها.. وضغطت يدها بحرارة..
- أترين القمر الشاحب الخجول- والليل الحزين.. والغابة الموحشة..
إني أحس معها بالهدوء والسكينة..
- لكني أحس بالوحشة أيها العربي الحبيب..
- أعلم ذلك.. إننا مختلفون أيتها العزيزة مارغريت.ز أنت أوربية، وأنا
عربي..
- لكننا اشتراكيون جميعاً..
- نعم ونحن مختلفون.. لا يحق لي يا مارغريت أن أرقص على جماجم وطني.. وجماجم آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.. انكم يا مارغريت تمرحون على جماجم العالم..
- ما هذا القول..؟ إننا معكم.. أرجوك أن تعود.. أتسمع الموسيقى.. من بعيد.. تنساب رائعة.. جميلة.. عذبة.. تخرس الأحزان.. يجب أن تنسى الأحزان، عد معي أيها العربي..
- لا يامار.. لن أعود.. فالغابة الجميلة.. والقمر الشاحب الخجول.. والصمت العميق.. والليل الندي.. والدرب الضيق الذي يسير بين الأشجار.. إن أحزاني تذوب هنا..
- آه، إنك تعذبني.. لم تكن تتحدث من قبل هكذا.. كنت تتحدث كثيراً عن التقدم الاشتراكي الهائل في بلادنا.. وعن آمال الغد.. كنت تقول، أن بلادنا ستصبح بعد عشرات السنين مثل بلادكم..
- نعم هذا صحيح.. لكني أرى.. لكني أرى، أن النفس النضالي في هذا الجيل.. يموت.. أنه يموت بين الرقص والفودكا والموسيقى الصاخبة..
- دع عنك هذا أيها العربي الحبيب.. ولنعد أني اشعر بالوحشة..
- أيتها العزيزة مارغريت.. إني أشعر بالهواء الأفرو- آسيوي اللاتيني.. يتسلل إلى أعماقي من خلال الغابة الموحشة..
- ماذا دهاك، انك تتحدث بمنطق جديد.. يجزأ وحدة العالم الاشتراكي.. والشعوب المناضلة.. وهذا منطق خطير..
- بودي أيتها الرفيقة الأوربية الجميلة.. لو أني لا أتحدث بذلك.. لكني أرى ملامح الخلاف..
- لماذا، وكيف..؟
- اسمعي يا مارغريت
أنتم أيها الأوروبيون الاشتراكيون سرتم طويلاً في طريق الاشتراكية.. وإنكم بنيتم بحق حياتكم الاشتراكية الخاصة.. وتعيشونها الآن.. إن ذلك رائع ولكن يجب أن تعلمي ويعلم الجميع في أوربا الاشتراكية.. إنه لا يمكن أن يعيش أحد- حياة اشتراكية حقيقية مادام هناك إمبريالية.. ورأسمالية في هذا الوجود..
إنه لا يحق لكم أن تعيشوا الحياة الاشتراكية الخاصة.. حتى لا تتحدثوا عنها – لأنها مهددة باستمرار.. وإن مرحلة الحياة الاشتراكية الحقيقية لن تأت إلا بعد انتصار النضال العالمي الاشتراكي.. وهذا لا يعني أن لا تبنوا الحياة الاشتراكية.. لكن يجب أن تربطوا بين البناء الاشتراكي في بلادكم وبين النضال العالمي العام من أجل الاشتراكية.. إن الاشتراكية والرأسمالية لا يمكن أن تتعايشا في وجود واحد.. لذا لا بد من النضال الدامي المسلح..
إن الحديث عن السلام.. ما هو إلا أسطورة يحطمها الواقع العالمي الحالي – إنكم أيها الاشتراكيون في أوربا الاشتراكية إذا أردتم السلام.. إن الإمبريالية لن تعطيه إياكم – إنهم الإمبرياليون يهاجمون معاقل الاشتراكية والثورة في بلدان العالم الثالث.. في الفيتنام وكوبا والوطن العربي.. وغداً دوركم.. إنكم مخطئون أيها الاشتراكيون في أوربا الاشتراكية- إذا ظننتم أنكم تستطيعوا أن تعيشوا الحياة الاشتراكية الخاصة- إنكم لا تستطيعون أن تعيشوا الحياة الاشتراكية الخاصة بعيداً عن إطار النضال الاشتراكي العالمي..
- إننا أيها الأوربيون الاشتراكيون- ندافع عنكم بنضالنا.. والحقيقة الثورية الآن. أن يتلاحم كل الثوريين الاشتراكيين في العالم- في نضال موحد - ضد الإمبريالية – لا أن يناضل البعض – والآخر يعيش حياته الاشتراكية الخاصة.. إن الجزارين ووحوش الغابات.. وذئاب الليل.. والإمبرياليين البرابرة.. لن يتركوا السلام يعيش بسلام..
كانت صامتة.. حيرى..
- لا أدري.. ربما ما تقوله صحيحاً.. عد معي أيها العربي الحبيب.. فالرفاق سيغضبون.. أتسمع الموسيقى من بعيد.. تنساب رائعة.. عذبة.. تخرس الأحزان..
- لا يا مار- لن أعود.. فالغابة الجميلة.. والقمر الشاحب الخجول.. والصمت العميق.. والليل الندي.. والدرب الضيق الذي يسير بين الأشجار.. هنا.. بينها.. أدفن أحزاني.. وأنغام آسيا.. وأفريقيا.. وأمريكا اللاتينية.. ووطني العربي.. أحسها هنا.. كيف تريدين مني أن أرقص.. فالأرض الحزينة يحرقها البرابرة في بلدي الحبيب.. وكلاب الليل في وطني تنهش الأحياء المقيدين بالسلاسل.. لن أرقص.. ولن أرقص.. ولن أشرب الفودكا..
- إلى متى ستسير في الغابة.. ومع الليل..
.. نظرت إليها بإشفاق.. إلى النهاية.. يا مار .. إلى النهاية.. ونظرت.
- إنك تتألمين أيتها الأوربية الجميلة.. ولكن .ز الأرض المحروقة هناك والتراب العربي الحزين.. ووحوش الغابات.. وذئاب الليل.. والبرابرة الإمبرياليين.. فإن أردنا تغيير العالم.. ونبني العالم الجديد.. وأن نعيش الحياة الحقيقية.. يجب أن نسير في الغابات.. ومع الظلام.. إلى أن نخلق القمر الحبيب من خلال الحجب المظلمة الكثيفة.. وتبزغ الشمس الدافئة.. لتحرق الليل.. إننا أيتها الرفيقة الأوربية لن نجد سعادتنا إلا في النضال.. وسط الغابات.. ومع الظلام.. حتى يخلق العالم الجديد في الأرض..
- ومسيرتك هذه ما دورها.. ما علاقتها.. في النضال.. ؟
- من هنا أيتها الرفيقة الأوربية الجميلة.. من هنا.. افتراقنا.. إنها تعني الرفض.. الرفض المطلق للمباهج اليومية الصغيرة.. إنها تعني الرفض.. ومن خلال الرفض يبدأ كل شيء..
- أو تريد أن تسير وحدك الآن.. ؟
- لست وحدي يا مار... إنها شعوب القارات الثلاث- تسير في الغابات.. والجبال.. والأودية.. والصحاري.. وفي الليل والنهار.. إنها تسير باستمرار..
لست وحدي.. سنرفض الرقص.. والموسيقى.. والويسكي.. والفودكا.. والسعادة اليومية العابرة.. ونسير في الغابات والجبال والأودية والصحاري وفي الليل.. مع البنادق والرصاص.. حتى تنتهي وحوش الغابات - وجرذان الصحاري.. وقطاع الطرق في الجبال والأودية.. وذئاب الليل.. حتى نبني العالم.. وتشرق الشمس الجديدة- ويعم الدفء والاشتراكية.. إن السعادة الحقيقية أيتها الرفيقة الأوربية الجميلة أن نعيش النضال.. فتعالي معي.. إلى الغابات والجبال والأودية.. والصحاري.. مع البنادق والرصاص لنبني العالم الجديد.. فهناك السعادة سعادة المناضلين..
كان الليل ندياً.. والهدوء عميقاً جميلاً حزيناً.. والقمر يسير خجولاً.. خجولاً.. ليغمر الليل بأشعته الواهية.. وليزيد الغابة جمالاً.. ويضفي على السكون روعةً.. وأنا اسبر وحيداً.. وحيداً.. على الأنغام الأفرو- آسيوية- اللاتينية في الغابة.. ومن بعيد كانت تنبعث الموسيقى صاخبة,, صاخبة.. ويمتزج بغناء راقص..
تعليق على النص
يمثل هذا النص، صورة طبق الأصل عن أصله.. حافظت فيه حتى على النقاط والمقاطع التي ظللت بالأسود في أصلها.. لم أنجز فيه أي تبديل لا بالحرف ولا بالفاصلة ولا بالتقسيم.. لأنه له سمة تاريخية أكثر من كونه يتمتع بقيمة فنية..
في المجال والمرجع– ظهر هذا النص في دورية المثقف العربي الثوري في خريف 1967 – في عدد كُرس لتمجيد لأرنستو تشي غيفارا بعيد اغتياله.. بما فيه الغلاف الذي حمل صورة الرجل الرمز.. غيفارا..
الصدى – أثار هذا النص وغيره حفيظة الفريق الطلابي الشيوعي في جامعة دمشق وبدأت حملة منظمة ومتقنة ضد هذه الدورية – بما فيها شخصي أنا..
كتقييم – ليس بوسعي في يومي أن أكتب بمثل هذه اللغة، ولا الإتيان بمثل هذه الأفكار.. لأننا وغيرنا تظللنا هزيمة منكرة.. بيد أما مثل هذا الفكر آنئذ رؤية حدسية لحقيقة ما أظهرت ذاتها، عندما تهاوت المنظومة الاشتراكية وسقطت صريعة – ونحن معها - لنصبح معاً تحت سطوة الطغيان الدولي..
أترك للقارئ.