عوالم ..
قصة قصيرة
بقلم- (محمد فتحي المقداد)
صراخ معاون السائق، وهو يصيح وينادي على الركاب، للصعود إلى الحافلة، لأن السائق أخيراً نوى أن يتحرك إلى وجهته.
أدار المفتاح .
أصدر المحرك هديراً وضجيجاً ملأ ساحة محطة الركوب.
امتلأت جميع الكراسي، ولم يتحرّك.
حتى صعد الناس وقوفاً في الممر الضيق أصلاً. أصابهم الضنك و التعب، ضاقت أنفاسهم المختلطة بدخان سجائر المدخنين.
تعالت الاحتجاجات على السائق، بأن يتحرّك، فالوقت قد تأخر، وهو لا مبالٍ بهم.
ضجّ الجميع بصوتٍ واحد، مُهددين بمغادرة الباص إلى آخر.
تحرّك، وهو يمشي الهُويْنى بسرعة السلحفاة.
***
رجل مصاب بحساسية الربو، يلفق أنفاسه، صاح: يا جماعة الخير، ارحمونا من الدخان، شارفتُ على الموت، ألا يكفينا الباص واختناق الازدحام. هذا الرجل كان يجلس في كرسي الذي يليني من الخلف.
بدأت محادثة مع جاره بجانبه في المقعد: كنتُ في البنك لاستلام الراتب، ازدحام غير معقول، تعبتُ من انتظار دوري بعد ساعتين.
- لو تأخرت ليوم أو يومين، لكان الأمر أفضل.
- ولكن، من أين لي استطاعة ذلك؟، فمنذ عشرة أيام نستدين من دكان جارنا المواد الغذائية، وعلينا جمعية، ودورنا سيكون قبل اسم بعد ثلاثة أشهر، وعلينا دفع قسط الغسّالة. خلّيها لله. وهبط راتبي بعد التقاعد إلى الثلثين تقريباً.
صراخ مفاجئ قطع حوارهما، شتائم متبادلة بين اثنين من الركاب الواقفين في الممر، إثر مضايقة أحدهما للآخر، كاد خلافهما أن ينشر الفوضى، وأن يوقف الحافلة بطيئة السير على الطريق، تدخل العقلاء، انتهت المشاجرة بالتسامح من الطرفين المتنازعين.
- عادا للتحادث، لمقاومة الملل، وتمضية الوقت: الله يلعن الشيطان، أسمعتَ عن النزاع الذي حصل البارحة في القرية المجاورة؟، بين أبناء العمومة، وقُتِلَ فيها مَنْ قُتِلْ، وهم من خيرة الناس.
- الله يجازي القاتل على سوء فعلته تلك، كنتُ أتمنى أن يكون هناك سبب مقنع لما حصل.
***
انقطعتُ عن متابعتهما، فتاتان تجلسان في مقعدٍ أمامي، شدّني حديثهما عندما التقطتُ طَرَفَهُ، بداية عن بطل المسلسل التركي مهند وحبيبته، انتقال سريع إلى علمدار، وبعض المشاهد من مسلسل مكسيكي، وإلى عالم الأغاني، فتحت إحداهن هاتفها، لمطابقة ما تقول على ما هو مخزن في(الجالاكسي)، وعبّرتْ لصديقتها عن مللها منه، رغم أنها فقط منذ شهرين اشترته، الآن رغبتها بهاتف آخر موديل(سوني z2). انبعاث العطر الناعم يدغدع أفكاري، ذات المعطف العسلي، تقول لصديقتها، من يومين جاءني عريس خطبني من أهلي، أهلي على وشك الموافقة، أرسلت إلى (س) بهذا الخبر، لكنه تردد متراجعاً إلى الوراء، رغم أن علاقتي به منذ سنتين أو يزيد، فما رأيكِ؟. هزّتْ صديقتها رأسها، وقالت: (أوكي)، ولماذا لا توافقي، عصفورٌ باليد خير من عشرة على الشجرة، ومع الأيام ستحبينه، وتعتادي عليه.
***
الدخان ، رنين الهواتف، المحادثات من أمامي ومن خلفي، أعادتني إلى صغري، حينما كنتُ مولعاً بالتقاط أعقاب السجائر وأنا في عمر الزهور فيما بين 4-5 سنوات , كان لانفصال الوالدين المُبكّر دور كبير, وعيتُ مُبكراً متجاوزاُ طفولتي بمراحل عديدة، لم أتعاط التدخين في حياتي كلها رغم أن كل ما حولي يتعاطى التدخين, كذلك طبيعة عملي تفرض علي أن أكون مدخناً سلبياً في كثير من الأحيان .
مما أثار شجوني في هذه اللحظة من الذكريات، هو الحملة التايلاندية على التدخين, حيث ضيقت الحكومة التايلاندية بإجراءاتها المشددة الخناق على المدخنين، اعتباراً من فرض الضرائب الباهظة التي وصلت 85 بالمئة، وحظرت التدخين في الأماكن العامة تحت طائلة الغرامة المالية، ومنع نشر مشاهد التدخين في المسلسلات والأفلام حتى لا يتأثر الشباب بالممثلين.
غفلتي عما يدور حولي موغلاً في تأمل شريط الذكريات، صرخة من الكرسي الذي يليني من الخلف، الرجل ذو الحساسية، بعصبية يفتح الشبّاك، يحاكي نفسه: ناسٌ لا تستحي، ولا تقدّر الظروف الخاصة. البرد قارس، بعض الركاب يطلبون إغلاق النافذة.
راح يحكي لمن يجلس جانبه: حُزني شديد، ولا أستطيع وصفه من هذه اللامبالاة من المدخين. يردّ عليه الرجل: لكن بصراحة سأُبْدي لك قلقي الشديد على أصدقائي، الذين أصيبوا بأزمات قلبية، ومنهم من أجرى عملية(قلب مفتوح)، ورجعوا للتدخين بشراهة بعد أزماتهم.
- ردّ ذو الحساسية: لكنّ الأنكى على النفس هو تدخين الأطباء، قد تستغرب ذلك، نعم أطباء يدخنون.
- رد عليه جاره: لا غرابة فيما تقول، حدثني ابني عن قصة سائل لأحد العلماء عن حرمة التدخين. فقال العالم: اعلم يا بني أن للتدخين ثلاث فوائد، فإنه يقرب البعيد، ويجعل الإثنين ثلاثة، وبيت المدخن لا يدخله اللصوص .
- السائل: مولاي، لم أفهم قولك، هل من تفسير لذلك؟.
- العالِمُ: بكل سرور، يا بني، فأما إنه يقرب البعيد أي أن المدخن يضعف بصره فيحتاج إلى نظارة حتي تقرب له البعيد. ويجعل الإثنين ثلاثة فانه يضر بالرجلين والرُكب، وبالتالي يحتاج لعكازة مع رجليه حتى تعينه على المشي. وأما بيت المدخن لا يدخلها اللصوص، فإنه يبقى طوال الليل يسعل، وعندما يأتي اللصوص لسرقته يكون في حالة سُعال، فيظنون أنه غير نائم، فيهربون.
شابٌ يتأفف من آخَرٍ يقف خلفه في المَمَرِّ، يطلبُ منه التوقف عن إشعال السيجارة الثانية، مما أحدث حالة تذمّر أدّتْ إلى شِجَارٍ لسانيٍّ، لم تستعمل فيه الأيدي لضيق المكان، وانحشارهم وقوفاً.
يتوقف حديث الرجلين خلفي، وتدخلا لإنهاء المشكلة الطارئة، فقال ذو الحساسية: أسوأ مرة أسافر فيها في حياتي، الله يسترنا من عواقبها. رنين جوّال البنت في الكرسي الأمامي، بنغمة أغنية جعلت الجميع يتنبّهون، و ينصتون.
عمّان\ الأردن
8 \ 12 \2015