على هامش "تصريحات كل من "فاروق القدومي" و"الحسن بن طلال"، حول "أردنية الضفة الغربية"..
حقٌّ يراد به باطل، يسعى إليه دهاقنة الوظيفيتين "الفلسطينية" و"الأردنية"..
فوحدة الضفتين، وأردنية الضفة الغربية، مطلب شرعي لا معنى له إلا على أنقاض النظامين "الفلسطيني" و"الأردني"، وليس خدمة لهما، أو إخراجا لهما من أزماتهما..
"القدومي" و"ابن طلال" غير مؤهلين إلا للحديث عن إنقاذ الوظيفيات..
وأردنية الضفة الغربية لا ينجزها إلا شعبٌ أسقطَ الوظيفيات، ولا تنجزها وظيفيات تريد أن تُسْقِطَ قضية، وتدمرَ شعبا، وترهن مصير وطن وأمة..
أسامة عكنان
عمان - الردن
أوَّلُ غيث انتصار الشعبين الأردني والفلسطيني في ثورتهما ضد النظامين الوظيفيين في عمان ورام الله، هو تغيير المقدسات، عبر منح القدسية لمشروعي "التغيير" و"التحرير"، ونزعها عن مشروعي الهويتين القطريتين "الأردنية" و"الفلسطينية"، الممثلين بالنظامين "الأردني الهاشمي" و"الفلسطيني الأوسلوي" على حدٍّ سواء..
من هنا تكون البداية وليس من أيِّ نقطة ارتكاز أخرى..
هناك قاعدة عقلية صارمة تقول: "إن ما لا يتم إلا بشرط، لا يتم بدونه، وإن ما لا يتم إلا بشرطين لا يتم بأحدهما فقط"..
النظام الوظيفي الفلسطيني الذي تمثله "منظمة التحرير الفلسطينية" بوضعها الراهن، والنظام الوظيغي الأردني بقيادة التحالف البيروقراطي الكومبرادوري الأمني الحاكم حاليا، هما معا وجهان لكارثة واحدة، بدأت منذ ما بعد "معركة الكرامة" عندما بدأ العمل على إبراز "الهوية الفلسطينية" كبوابة للتحرير، على حساب الوحدة الحقيقية بين شعبين لم تكن قد شغلتهما "الهوية" عن خوض مشروع التحرير فعلا..
وما تزال هذه الكارثة مستمرة حتى الآن، وإن اتخذت خلال سيرورتها أوجها مختلفة، بحسب طبيعة الدور الوظيفي المطلوب من كل واحد من هذين النظامين من مرحلة إلى أخرى..
لا يمكن أن يصار إلى تمرير أيِّ حل يتعلق بالتخلص من وظيفية أيٍّ من النظامين، بمعزلٍ عن تمرير حلٍّ رديف ومساند يتعلق بالتخلص من وظيفية النظام الآخر..
هذا هو قدر الحالة النضالية والوطنية والهوياتية "الأردن – فلسطين"..
هذا يعني ما يلي..
أن وظيفية أو لا وظيفية النظام الأردني ممثلا بالتحالف المذكور، ارتبطتا تاريخيا وما تزالان، بموقف هذا النظام من "المشروع الصهيوني الإمبريالي" وبتداعيات هذا الموقف على صعيد التعامل مع مفردات الصراع المتولد عن هيمنة علاقات هذا المشروع على المنطقة أردنيا وإقليميا، وبالأخص داخل فلسطين..
كما أن وظيفية أو لا وظيفية النظام الفلسطيني ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية، ارتبطتا تاريخيا وما تزالان بالأمر نفسه، وبتداعيات هذا الأمر على الصُّعُد نفسها في فلسطين وخارج فلسطين، وتحديدا في الأردن..
إن أيَّ تعاطٍ مع "النظام الفلسطيني" ومؤسساته في الداخل، إذا تم في حدود الاعتراف بمشروعية الحالة الراهنة للوظيفيتين "الأردنية" و"الفلسطينية"، دون المساس بوظيفيتهما تلك معا باتجاه اللاوظيفية، لن يُنتجَ إلا مردودات سياسية، هي في المحصلة جزءٌ من الفعل الوظيفي للنظام الفلسطيني وللنظام الأردني معا..
كما أن أيَّ تعاطٍ مع "النظام الأردني" ومؤسساته هنا في شرق النهر، إذا تمَّ في حدود الاعتراف بمشروعية الحالة الراهنة لهاتين الوظيفيتين، دون التحرك باتجاه إعادة إنتاج النظامين على أسس وقواعد غير وظيفية، لن يُنتجَ إلا مردوداتٍ سياسية، هي في المحصلة أيضا جزء من الفعل الوظيفي للنظامين معا..
لذلك فمن يريد أن يعيد إنتاج النظامين والشعبين والقضيتين على أسسٍ غير وظيفية حقيقية، فعليه أن يعرف كيف يربط في مشروع إعادة الإنتاج هذا، بين "مشروع التغيير" و"مشروع التحرير" في الجسمين الأردني والفلسطيني معا وفي ذات الوقت..
لا يوجد مشروع "تغيير أردني" يمكن إنجازه بمعزل عن المُكَوِّن الفلسطيني لهذا المشروع، باعتبار هذا الأخير مُكونا جوهريا في صميم مشروع "التغيير الأردني" هذا..
ولا يوجد مشروع "تحرير فلسطيني" يمكن إنجازه بمعزل عن المُكَوِّن الأردني لهذا المشروع، باعتبار هذا الأخير مُكونا جوهريا في صميم مشروع "التحرير الفلسطيني" هذا..
وبالتالي فإن أيَّ قراءة لأيِّ مبادرة هنا أو هناك، في هذا السياق أو في ذاك، تطرح للتعاطي مع الأردن أو مع فلسطين، لا يمكنها أن تكون قراءة ناضجة وسليمة إذا افترضت أن التعامل مع الحالة الأردنية بمعزل عن الحالىة الفلسطينية شكلا ومضمونا، هو أمر ممكن وبشكل موضوعي..
كما أنها ستكون كذلك أيضا، إذا افترضت على الجانب الآخر، أن التعامل مع الحالة الفلسطينية بمعزل عن الحالة الأردنية شكلا ومضمونا، هو أمر ممكن وبشكل موضوعي..
ما هي الدلالة العملية لهذا الكلام؟!
إنها بكل بساطة ما يلي..
إن أيَّ تغيير في الجسم السياسي والثقافي والأيديولوجي الفلسطيني، لا يكون مرفقا "بـ" أو ناتجا "عن" أو مؤديا "إلى" تغيير في الجسم السياسي والثقافي والأيديولوجي الأردني، لا قيمة له على صعيد مشروعنا الوطني المتمثل في إنجاز مشروعي التغيير والتحرير..
كما أن أيَّ تغيير في الجسم السياسي والثقافي والأيديولوجي الأردني، لا يكون مرفقا "بـ" و ناتجا "عن" أو مؤديا "إلى" تغيير في الجسم السياسي والثقافي والأيديولوجي الفلسطيني، لا قيمة له على صعيد مشروعنا الوطني المتمثل في إنجاز مشروعي التغيير والتحرير..
وبالتالي فإن تغيير في أيٍّ من الجسمين "الأردني" أو "الفلسطيني" الوظيفيين الحاليين في بوتقة المواصفات السابقة، أي في ضوء حالةِ عزلٍ بين التغييرين الحاصلين في الجسمين، إنما يحدث في واقع الأمر في سياقِ سيرورةٍ سياسية غير منفصلة عن "الوظيفية" التي هي سمة النظامين الفلسطيني والأردني..
إننا نلمس في حقيقة الأمر ومع الأسف الشديد، أن الكثير من الحوارات حول الطروحات المتعلقة بـ "قرار فك الارتباط" ولا قانونيته ولا دستوريته، أو العمل على قوننته ودسترته، وبـ "معضلة الهوية" في الأردن، وبـ "العلاقة بين مشروع التحرير ومشروع التغيير"، وبـ "السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير"، وبـ "الإصلاحات في الأردن"، وبـ "العلاقة بين الضفتين".. إلخ، تتم – أي تلك الحوارات – من خلال حالة عزل غير منطقية بين أمور لا يمكنها أن تُعزَلَ بعضها عن البعض الآخر..
هناك خلل واضح في عدم التفريق بين الطرح الأيديولوجي الإستراتيجي من جهة، والممارسة السياسية التكتيكية من جهة أخرى، بشكل يولِّد الانطباع بأن المتحاورين لا توجد بينهم لغة خطاب واضحة لديهم جميعهم، تستطيع أن توصلهم إلى نقاط تفاهم مشتركة قائمة على المنطق الذي يتطلبه التحليل السياسي التاريخي..
وهذا – مع الأسف – يحوِّل الحوار الدائر بينهم إلى نوع من الحوار مع الذات وليس مع الآخر..
دعونا نمارس عملية تتبع تاريخي منطقي للوقائع الهامة في سيرورة الحالة "الأردن – فلسطين"، ونحاول أن نفهم كيف يمكننا صياغة منهج تحليلي موضوعي يوصلنا إلى الصواب فهما وممارسة وحلولا، بعيدا عن الانطباعية والذاتية والأنوية وتقديس ما ليس مقدسا..
أولا.. حدثت سايكس بيكو التي جزأت "سوريا الكبرى" وأنشأت كيانات قطرية هزيلة، كان من بينها الكيانان غير المنطقيين وغير الشرعيين من منظور قومي، "الأردن" و"فلسطين"..
وهي مؤامرة رفضنا وما نزال نرفض نتائجها على الصعيد الأيديولوجي الإستراتيجي..
لكننا تعاملنا معها كأمر واقع، ولم نطالب بتدميرها، ولا حاولنا تحطيمها، بل آمنا بواقعية بتلك النتائج المرفوضة إستراتيجيا، وتعاملنا معها تكتيكيا، إلى أن انتصر التداعي التاريخي اللاحق، على الحقيقة التاريخية السابقة، وأصبحت هذه النتيجة مقدسة في معظم المخرجات التي أنتجتنا ثقافيا على مدى عقود، من خلال مفهومٍ مقلوب ومعكوس لكلِّ معاني القداسة التي عهدناها..
وغدونا نعتبر من يطالب بالخروج على هذه الصيغة عدميا إن لم يكن خائنا، وأصبحنا نؤصل ونؤسس لرؤية قومية وحدوية قائمة على القطرية السايكسبيكوية ومنطلقة منها بشكل حتمي وضروري..
وفي وقتنا الراهن، فإن كل الفكر والقومي والفعل السياسي القومي، يتجسَّد عبر أحزاب قومية تتحرَّك في ضوء هذه الحقيقة..
ثانيا.. حدث مؤتمر أريحا بعد احتلال الجزء الأكبر من فلسطين، وتبعته وحدة الضفتين، التي نقر جميعنا بأنها كانت مؤامرة تستهدف تغييب الهوية الفلسطينية التي كانت في حينها أكبر نقيض للصهيونية..
رفضنا الفكرة إستراتيجيا لجهة تغييبها لهذه الهوية، لكننا تعاملنا تكتيكيا وسياسيا على قاعدة قبولها واعتبارها أمرا واقعا بهدف الخروج من دائرة التأثيرات المحتملة لها، وحولناها، وحولنا معها المعطى السايكسبيكوي القطري "الأردن" و"فلسطين" إلى قوة دفع لمشروع تحرير ولمشروع تغيير يمهدان ويؤسسان لمشروع وحدة ونهضة عربية، من خلال حكومة 56 وثورة 65..
ولم نعطل التاريخ بالوقوف عند مضمون المؤامرة المنطوى في مشروع مؤتمر أريحا وضم الضفة الغربية، بل نحن قفزنا عليه وأحسنا تجييرَه لمشروع تغيير وتحرير فاعل وناضج كاد يغير وجه العالم..
تماما مثلما أننا لم نعطل التاريخ بوقوفنا عند مضمون المؤامرة المنطوى في أردن وفلسطين سايكسبيكو، وتجاوزنا المسألة وناضلنا من خلال الأمر الواقع لتجييره لمشروعنا القومي..
وكما أن أحدا لم يخوِّن الذين اعتبروا نتائج سايكسبيكو منطلقا يمكن البناء عليه، فإن أحدا لا يستطيع أن يخوِّن من فعل الشيء نفسه إزاء مؤتمر أريحا وتداعيته..
لا بل أن الأمر هنا أدعى وأولى، لأن قبولنا لواقعية نتائج سايكسبيكو كمنطلق نبني عليه ما يناقضه قوميا، رغم انطواء تلك المؤامرة على معنى التفتيت والتجزئة، يقضي بأن يكون قبولنا بواقعية نتائج أريحا كمنطلق نبني عليه ما يناقضه وما يناقض أهدافه أولى، لأن مؤامرة أريحا انطوت على المعنى الضد لمؤامرة سايكس بيكو، وهو معنى التوحيد القسري، مقابل التقسيم القسري في الحالة السايكسبيكوية..
وعلى الرغم من أن نجاحنا في توظيف نتائج سايكسبيكو في الاتجاه المضاد لأهدافها كان ضعيفا جدا على مدى الفترة التي امتدت حتى عام 1949، بل هو يكاد يكون معدوما، لأن الذين أحسنوا الاستفادة من الحالة الواقعية تلك، هم الهاشميون وأتباعهم من صناع وظيفية "الحالة الأردنية" إمارة ودولة، خالقين كيانا من أعتى الأنظمة الوظيفية القائمة على أعتى أنواع الثقافات العصبية والقبلية شوفينية وتراجعا، فإن ذلك لم يجعلنا نغير قناعتنا في أن البناء الإيجابي على هذه الحالة السلبية أمر ممكن..
على خلاف النهج الذي وقفنا عنده واتبعناه في التعامل مع مؤتمر أريحا وتداعياته، وبقينا مصرين على أنه مؤامرة، وعلى أنه لا يمكن أن يكون منطلقا لأي إيجابية، وأننا لا يمكن أن نقبل به.. إلخ، رغم أنه على الصعيد الواقعي أثبت رغم كل التآمر الذي فيه في حينه، أنه حالة ممكنة التوظيف إيجابيا، لأنه بالفعل تم توظيفه فيما نعرفه جميعا على مدى الفترة من 49 إلى 68..
إذن فالمسألة ليست منطقا ورؤية ناضجة قائمة على تحليل منطقي لتتابع الأحداث، وإنما هي إما استجابة لأهواء دفينة، وإما استناد إلى تحليل قاصر غير ملم بحيثيات المسألة من جميع جوانبها..
ثالثا.. بعد استفحال المقاومة عقب معركة الكرامة، بدأ توجه النظام الوظيفي الأردني بنصائح وتوجيهات أميركية وإسرائيلية وسعودية موثقة ليس هنا مجال مناقشتها، إلى البحث عن حلٍّ يخرج النظام من مأزقة الذي كان سيودي به إلى مزابل التاريخ، منتجا نظاما أردنيا جديدا غير وظيفي ومقاوم وقاعدة آمنة للتغيير وللتحرير، كمقدمة لمشروع الوحدة والنهضىة العربية..
الغريب في الأمر وهو ما لا يريد أحد أن ينظر إليه بموضوعية وتجرد، هو أن الاتفاق الرباعي "الأردني، الأميركي، الإسرائيلي، السعودي"، جاء على إقرار تجسيد فكرة مناقضة تماما لمضمون الفكرة التي قام عليها "مؤتمر أريحا"..
فإذا كان مؤتمر أريحا قد قام على تغييب "الهوية الفلسطينية" كي يتمَّ تغييب فكرة المقاومة، على قاعدة تصور أن تغييب هذه الهوية النضالية في قلب "الهوية الأردنية" التي تمَّ تدجينها على مدى ثلاثين سنة من عمر الإمارة، لتصبح هوية غير مقاومة..
نقول.. إذا كان مؤتمر أريحا قد قام على ذلك، فإن هذه الفكرة التي قام عليها مؤتمر أريحا لم تعد صالحة للمرحلة الجديدة التي استطاع فيها المُكَوِّن الجديد للهوية الأردنية بعد ابتلاع الهوية الفلسطينية في جوفها، التحولَ السريع بفعل هذا التلاقح الذي فرضته رغم أنوف الكل حالة الدمج القسرية التآمرية المضمون، إلى مُكَوِّن مقاوم، محولا الهوية الأردنية التي تعب على تنشئتها وظيفيا الملك عبد الله الأول ومساعديه الإنجليز، من هوية طاردة للمقاومة، إلى هوية حاضنة لها بشكل لم يتوقعه أحد..
نعم، إن هذا التحول في أدوار الهويات كما تمَّ رسمها عبر لعبة "لوغو الهويات" التي مارسها النظام الأردني على مدى زمني طويل وما يزال، جعل النظرة إلى الهويتين "الأردنية" و"الفلسطينية" تختلف حتى من وجهة نظر الرباعي الإمبريالي المذكور..
في نهاية الأربعينيات، عندما كانت "الهوية الأردنية" طاردة للمقاومة، و"الهوية الفلسطينية" هي الهوية الحاضنة لها، كان لابد من تغييب "الهوية الحاضنة" لضمان سيادة وهيمنة "الهوية الطاردة". هكذا فكر التحالف "الإمبريالي – الصهيوني – الوظيفي"، في نهاية أربعينيات القرن الماضي..
ولكن عندما بدا واضحا عقب كرامة 68 التي شارك فيها الجيش جنبا إلى جنب مع المقاومة رغم أنف قادة النظام، أن الهوية الأردنية تحولت إلى حاضنة متضخمة للمقاومة، فقد أصبح من المحتَّم والضروري العودة إلى إحياء "الهوية الفلسطينية" التي سبق تغييبها ودفنها، لتمارس في حق "الهوية الأردنية"، الأمر نفسه الذي مارسته في حقها تلك الهوية في نهاية الأربعينيات..
أي كان يجب أن يتم استحضار "الهوية الفلسطينية" من البرزخ، لتكون هوية طاردة لمشروع التحرير، لتلجِّمَ من اندفاعة الهوية الأردنية في صورتها الجديدة الحاضنة لهذا المشروع. وهكذا فكر التحالف "الإمبريالي – الصهيوني – الوظيفي"، قبيل نهاية ستينيات القرن الماضي..
وهو ما جعل الخطة الإمبريالية الرباعية، تقضي بالعمل على توجيه دفة الأحداث في الأردن باتجاه التوصيف الذي حول المقاومة والثورة من "ثورة ومقاومة أردنية" كانتها بكل معنى الكلمة، ونزعها من الحاضنة الأردنية الموحدة، إلى "ثورة ومقاومة فلسطينية" أصبحتهما بكل معنى الكلمة، ليتسعيد النظام الوظيفي الذي كاد يسقطه الشعب الأردني الموحد بمقاومته وثورته العظيمة، شرعيتَه كممثل لهوية أردنية راحت "الهوية الفلسطينية" التي بدأت تتجسَّد في المقاومة من على الأرض الأردنية، تنازعها السيادة على أرضها وشعبها.. إلخ..
إذن وبمؤامرة جديدة محكمة نفذها في حق الشعب الأردني أركان الإمبريالية والصهيونية والوظيفية، وبأخطاء شنيعة مارستها المقاومة وقياداتها، واقعة بها في شَرَك الخدعة الجديدة، وبغباء غير مسبوق من قادة ثورة اقتنعوا بتقديم "الهوية الوهم" على "مشروع التحرير والتغيير" الذي بدأ يُنجز بالفعل، انقلبت المعادلة، وحصلت الفتنة، وتم تقسيم الشعب، وتمت العودة بنجاح إلى مرحلة ما قبل 1949، وهو عام صدور قانون جنسية التأسيس للشعب الأردني..
واستمر الحال على ما هو عليه إلى أن جاء قرار فك الارتباط، بعد أن أسست تلك المرحلة لحالة الاستقطاب والتخندق والتنافر في صفوف شعب كان بالأمس القريب في خندق مقاومةٍ واحدٍ ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني الوظيفي..
وبصرف النظر عن الظروف الموضوعية التي جاء فيها هذا القرار الذي هندسه ضابط المخابرات العريق "عدنان أبو عودة" باعترافه هو شخصيا بذلك، من خلال عرضه عبر وسائل الإعلام لنص الحوار الذي دار بينه وبين الملك حسين قبل اتخاذه فأدى إلى اتخاذه..
نقول.. بصرف النظر عن ذلك، فإن هذا القرار أمعن في الاستجابة لمعادلة ما بعد 1968 التآمرية التي أسهبنا في شرحها، عبر زج "الهوية الأردنية" و"الهوية الفلسطينية" في نفق جديد من التجاذبات المدمرة، قائم على ضرورة إنجاز هدفين أساسيين حقيقيين لا تخيلين، حتى لو لم يرد الإقليميون من الطرفين الاعتراف بذلك، وهما..
الهدف الأول.. دفع القضية الفلسطينية إلى خندق الخيار الإسرائيلي بعد أن فشلت على مدى عشرين عاما كلُّ الخيارات الأردنية في إعادة محاصرة المقاومة بدءا من مشروع المملكة المتحدة وانتهاء بمشروع الكونفدرالية، كي تتعامل معها إسرائيل بشكل مباشر بعد أن يتم اعتقال كل الثورة ومؤسساتها ورجالاتها داخل حدود الضفة الغربية وقطاع غزة، تحت عنوان "هوية وهم" أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الإنجاز كما تخيل الكل.. وهو ما لم يحدث حتى الآن، وما لن يحدث حتى بعد عشرين عاما أخرى، ما لم يأت كل ذلك تجسيدا لمشروع تغيير وتحرير فاعلين..
الهدف الثاني.. تمهيد الأردن ليدخل في دائرة التحرر من التزاماته تجاه أرضٍ محتلة، من غير المناسب بقاؤها تابعة لدولة مثل الأردن، في ضوء الدور المنوط بالأردن في الخريطة الشرق أوسطية القادمة..
وكانت النتائج اللاحقة لمشروع فك الارتباط مذهلة على صعيد تحقيقها لهذين الهدفين..
فقد جاءت أوسلو لتصفيَ القضية الفلسطينية وتعتقل في الأرض المحتلة كل مكونات الثورة والجسم الفلسطيني التي ظن القادة الفلسطينيون ومن ورائهم المخدوعون من الشعب الفلسطيني، أنهم أنجزوه بقرابة المليون شهيد فلسطيني وعربي سقطوا على مدى ربع قرن من الزمن..
ثم جاءت وادي عربة لتعتقل الأردن وتزجه في أتون دوره المرتقب الممعن في وظيفيته مُجَسَّدا في تفاهمات واشنطون وبرامج التصحيح وتكريس ثقافة العصبية من جديد، بشكل أفسد كلَّ شيء في هذه الدولة، حتى مفهوم الإصلاح ذاته..
ونحن اليوم على أعتاب مرحلة تتطلب إعادة إنتاج العلاقة الأردنية الفلسطينية لجهة الهوية والأرض على الأساس التالي..
لا خيار لنا سوى التأسيس لمشروع تغيير في الأردن، يكون مقدمة لمشروع تغيير وتحرير في فلسطين..
هذا هو الهدف، وهذه هي الإستراتيجية، وعلى المفردات التفصيلية أن تخدمها، لأن القداسة لها وليس لتلك التفاصيل..
ومن يعترض على هذه الإستراتيجية، فلا يتعب نفسه في مناقشتنا فيما سيُبْنى عليها من حتميات، والأجدر أن يصب نقاشه معنا حولها حتى نحسمَ أمرها، وإلا فإن النقاش سيكون عدميا بيزنطيا فارغا لا قيمة منتجة له سياسيا..
هذا يعني أن مسألة الهويات ليس مقدسة إلا بالقدر الذي تخدم فيه تلك الإستراتيجية..
ومن هنا علينا أن نحدد خيارنا فيما يخص العلاقة بين الشعبين، وبين الضفتين، وبين الهويتين، في ضوء قدرة ذلك الخيار على تجسيد مشروعي التحرير والتغيير، ولا نبالي بغير ذلك..
فإن كانت "قوننة فك الارتباط" التي يطنطن بها البعض هي الحل الذي بإمكانه تجسيد المشروعين الإستراتيجيين، فبها ونعمت..
وإن كانت "العودة عن قرار فك الارتباط" بكل دلالات ذلك وتداعياته على صعيد العلاقة بين الضفتين، ومع السلطة ومع منظمة النحرير.. إلخ، هي التي ستساعد على تجسيد ذينك المشروعين فبها ونعمت..
لن نكون مع القونة أو مع العودة والتراجع، إلا بقدر ما تكون القوننة أو تكون العودة والتراجع خادمة لتجسيد هذين المشروعين اللذين يجب أن يحظيا بالقداسة، بعيدا عن منح أيِّ قداسة للهويات إذا كانت قداسةً تعرقل التغيير والتحرير..
ولأن هذا المشروع السياسي هو مشروع ثقافي بالدرجة الأولى يعمل على إعادة إنتاج الذهنين الأردني والفلسطيني على حدٍّ سواء، فإننا لا نملك إلا أن نبدي استغرابنا ممن يقول أنه قد يقبل بهذه الرؤية إذا وافق عليها الشعبان!!!
وهل يمكن لدعاة الديمقراطية والدولة المدنية والتعددية السياسية، أن يكونوا دعاة فرض سياسات وثقافات على الشعوب بدون إراداتها وخيارتها المطلقة؟! وبدون العمل على إعداد الرأي العام ليقبل بالسياسات المطروحة والمقترحة؟!
وبالتالي فنحن نطرح رؤيتنا الإستراتيجية التي نصبو إليها، ونعتبرها الحل الصحيح والأمثل والأنسب سياسيا، ونعمل على تحويل ثقافة الشعب باتجاهها بكل طاقاتنا..
فلا مكان لمعترض على طرحنا وعلى رؤيتنا بالقول: "وأين أنتم من رأي الناس وموقفهم وثقافتهم التي لا توافق على هذا الذي تطرحونه في غالبيتها.. إلخ"؟! هذا إذا سلمنا بهذا القول..
لسبب بسيط هو أن هذا ليس ردا منطقيا ولا علميا ولا سياسيا، إذا كان هدفنا هو إقناع الناس برؤيتنا..
وهل تعتبر السياسية والعمل السياسي شيئا آخر غير بذل الجهد بالوسائل السياسية لإقناع الناس برؤية محددة، حتى لو كانت تلك الرؤية لحظة البدء بالتبشير بها هي رؤية من يحملونها وحدهم فقط، حتى لو كان من يحملها شخصا واحدا؟!
منذ عام 1949 وكامل سكان الضفة الغربية بمن فيهم من أقاموا فيها بفعل اللجوء، فضلا عن كافة من أقام في الضفة الشرقية منهم منذ ذلك التاريخ، أو حتى بعد نكسة عام 1967، مواطنون أردنيون يحملون الجنسية الأردنية.. أي أنه تمّ توطينهم بأوسع ما لهذه الكلمة من معنى..
ترى ماذا جرى للقضية الفلسطينية على صعيد الوعي والفعل الشعبيين؟!
هل ضاعت القضية؟!
هل ضاع حق العودة؟!
هل أشار أحد إلى هذه الأسطورة المسماة "وطن بديل"؟!
بل هل كان لهذه الفرية أيُّ وجود حتى على صعيد المخيلة الأردنية الفلسطينية، بل وحتى الصهيونية نفسها؟!
الحقيقة غير ذلك تماما..
فأكثر فترات الوحدة بين الشعبين، وأكثرها ثراء بالنضال والكفاح والمطالبة بالتحرير الأكثر تشددا، وأكثرها تمسكا بالثوابت وعلى رأسها "الهوية" و"الاستقلال"، وأكثرها تهديدا لوظيفية النظام الأردني، وأكثرها شراكة في مفردات المطالب النضالية بين الشعبين، وتوحيد الأعداء.. إلخ، هي الفترة الممتدة من عام 1949 وحتى عام 1970، عندما انهار كل شيء بفعل نجاح مؤامرة النظام الأردني آنذاك التي استغلت غباء القيادات الثورية، والتي تمكن من خلالها من إعادة إحياء "مشروع الهوية" كبوابة لاستعادة شرعيته كنظام كان يتهاوى..
وكانت بداية تقسيم الشعبين، وبث الفتن، وتعطيل مشروعي التحرير في فلسطين والتغيير في الأردن، وبدء تفشي ثقافة العصبية بأبشع صورها الشوفينية الفاسدة المدمرة للمجتمع والمهيئة للفساد.. إلخ..
خلال أقل من عشرين عاما من عمر التوطين "1949 – 1968"، تشكلت أول حكومة برلمانية حزبية بانتخابات حضارية، أنهكت النظام الوظيفي وهددت بنيته، لولا المؤامرة المعروفة على هذه الحكومة، وكل ذلك في قلب مجتمع نخره سوس "العصبية" على مدى ثلاثين سنة سبقت..
وانطلقت ثورة مسلحة هددت أمن إسرائيل من الأردن كقاعدة آمنة لمشروع التحرير والوحدة العربية..
ولم يخف أحد على هويته إطلاقا..
أي أن التوطين لم يكن حائلا أبدا دون الانتصار الكاسح خلال سنوات قليلة على منهج الهدم الثقافي الذي هدم به النظام الأردني على مدى ثلاثين سنة سابقة كل أفق متخيل لدولة مدنية متحضرة في هذا الإقليم..
فتأسست رغم التوطين بوادر الدولة المقاومة التي تعمل على "التغيير" و"التحرير"، ومن ثم على هدم مكونات "سايكسبيكو"..
بينما 44 عاما من عمر فكرة "اللاتوطين" التي ازدهرت منذ دمج الثورة بمنظمة التحرير الفلسطينية بعد عام 1968، ونزع صفة "الأردنية عنها"، وتكريس "الهوية الفلسطينية" كبوابة للتحرير، بدل أن يكون "التحرير" هو بوابة الهوية، لم تكن قادرة سوى على التراجع في كل شيء يخص الفلسطينيين والأردنيين على حد سواء..
كل مشكلاتنا الأردنية والفلسطينية على كل الصعد، كل التراجعات المفصلية في قضايانا، بدأت مع مطلع مشروع الهويات وأسطورة القلق من التوطين والوطن البديل، وتنامت على مدى عقدي السبعينيات والثمانينيات ثقافة عصبية شوفينية لدى الطرفين على حساب "مشروع التحرير" لدى الفلسطينيين، وعلى حساب "مشروع التغيير" لدى الأردنيين، إلى أن انتهت بكارثة فك الارتباط التي فصلت فصلا فاجعا بين الأردنيين والفلسطينيين، والتي مهدت لكل من "أوسلو" و"وادي عربة" ولبرنامج التصحيح المدمر، ولكل أشكال الفساد المستشري، ولكل مخلفات ثقافة العصبية والفتنة الوطنية..
هل هذا هو ما نطمح إليه؟!
مشاريع هويات هزيلة قاتلة تحرمنا حتى فرص الحياة الكريمة الآمنة؟!
عندما كانت الهوية الفلسطينية هدفا نسعى إلى تحقيقه بمشروع التحرير للمحتل من الأرض، وبمشروع التغيير لتحرير الأردن من النظام الوظيفي، كنا بخير وكان كل شيء على ما يرام، وكنا نسير في الطريق الصحيح، ولم يشعر أحد بالخوف لا من التوطين ولا على الهوية..
وعندما أصبحت القداسة للهوية بدل مشروعي التحرير والتغيير، خسرنا كل شيء، وبدأنا نتنازع على قداسة مكونات استعمارية ورثها لنا "سايكس ببكو"، وغدا الحفاظ على مكونات ذلك المشروع الاستعماري أكثر قداسة من التحرير والتغيير ذاتهما..
وأصبحنا نختلق المبررات والأعذار لكل باطل مرتبط بالمقدس الجديد..
"الفلسطينيون هم الذين أرادوا"، "حق العودة في خطر"، "الوطن البديل يهدد مستقبل القضية الفلسطينية".. إلخ..
والحقيقة أن شيئا من ذلك لا يتم تهديده بأيِّ شكل من أشكال الوحدة بين الشعبين على قاعدة النضال، أما المهدد الحقيقي لكل شيء، فهو وجود نظام وظيفي أردني يعبث بمكونات ثقافتنا الوطنية، ويستغل صراعاتنا لينهب ويفسد بلا رقيب أو حسيب، ووجود نظام وظيفي فلسطيني آخر رديف له على الضفة المقابلة من النهر، يفعل الشيء نفسه وربما بشكل أخطر وأخبث، تجاه الأرض المحتلة..
ألا فلنفق من الكذب الذي غذَّتنا بها وظيفياتٌ سايكسبيكوية، فكان نهجا – أي هذا الكذب – هيمن وما يزال يهيمن على ثقافتنا وأنماطِ تفكيرنا..
وإلا فإننا إلى الهلاك سائرون، بدفاعنا الأرعن عن باطل، ونحن نظن أننا ندافع عن مقدسات ومكتسبات..
هذا الذي ذكرناه هو – في تصورنا – الإطار الذي يجب أن لا تخرج عن حدوده عناصر الدعوات الجديدة التي فاجأنا بها كل من "فاروق القدومي" بالأمس، و"الحسن بن طلال" منذ أسابيع..
إن الدعوة إلى "وحدة الضفتين"، وإلى "أردنية الضفة الغربية"، إذا لم تأتيا على أنقاضِ مُكَوِّنَي الدمار والوظيفية والهلاك، ألا وهما "النظام الأردني" الذي بدأ عام 1921، ليستفحل انبطاحه السياسي بشكل غير مسبوق مند عام 1988، و"النظام الفلسطيني" الذي بدأ منذ عام 1969 إثر الدمج بين المقاومة ومنظمة التحرير، ليستفحل انبطاحه السياسي منذ عام 1993. وإذا لم تأتيا على قاعدة "التغيير" الحقيقي في كلٍّ من أيديولوجية المستقبل الثقافي والسياسي والاقتصادي، للأردنيين والفلسطينيين على حدٍّ سواء، بالاتجاه المُوَلِّد لكلِّ دواعي الثورة والتمرد على هذين النظامين، لن تكون إلا دعوات إلى ترحيل القضية، وحماية الوظيفيتين من معاول الربيع الإصلاحي والتغييري، وخدمة المشروع "الإمبريالي – الصهيوني – الوظيفي"، في الإقليم العربي المشرقي بأكمله، إلى أجلٍ غير مُسَمًّى..
فلننتبه..