دراسة في قصيدة ( دورة كاملة في المقام) ـ بقلم : عبير أشراف شلاعطة*
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
"وعلم آدم الأسماء كلها[1][1]"
جمالية فنية، تمتاز بانفصالها الفيزيائي عن جسد المسمى. لكنها مستمدة، في حقل الآداب، من روحه وخامته اللغوية. ربما انبعثت من فكر مبدعها ليتألق النص من خلالها، وربما تألقت من مكنونات النص. وعلى الرغم من التصنيفات، التي جعلت بعض العناوين في درجات التسمية والتمييز، والبعض الآخر في علاقته الحميمية مع النص، إلا أن العنوان، دون أدنى شك، مستهلٌّ يرقبه القارئ قبل شروعه بقراءة العمل.
تتناول دراستنا الحالية موضوع العنوان الأدبي في الأدب الحديث، والشعر بشكل خاص. إذ تم اختيارنا للتقسيم التالي:
الفصل الأول:
فصل نظري، نتطرق من خلاله إلى لمحات حول العنوان الأدبي عامة، ثم العنوان في الحضارة العربية حديثا وقديما. إضافة لمحاولتنا الإلمام بأنواع العناوين كما وردت في بعض الدراسات الحديثة. ثم مناقشة الوظائف التي يؤديها العنوان الأدبي.
الفصل الثاني:
فصل تطبيقي، انتهجنا فيه منهجية تعددية القراءة النصية. فكانت قراءتنا على مرحلتين، مرحلة أولى نستشف من خلالها الدلالة الأولية التي يستنبطها المتلقي فور قراءته للنص، غير أنه يحتاج شيئا من التدقيق والتحليل والربط بغية الوصول إلى مفهوم العنوان. وقراءة ثانية تكشف لنا الخبايا التي تتأرجح بين القصيدة وعنوانها.
كما قمنا بإرفاق ملحق يتضمن القصيدة، بتقسيم معين يخدم قراءتنا الثانية. إذ لا يمكن الوصول إلى مبتغى القراءة دون التحليل والتقسيم الظاهر من خلال الفصل الثاني والملحق. وفي نهاية الدراسة خاتمة تشير إلى ملخص الدراسة.
نرجو الله التوفيق في دراستنا هذه، آملين الاجتهاد في التوصل إلى منهجية علمية في البحث.
الفصل الأول
فصل نظري
لمحات حول العنوان الأدبي
لا شك بأن موضوع الدراسة الحالية، ألا وهو العنوان الأدبي، نال قسطا لا يستهان به من البحث الحديث. على الرغم من الكمية البحثية غير الوافرة ضمن هذا المضمار، إلا أنها ذات جودة اعتمدت التركيز والتدقيق، فجاءت الدراسات عميقة، شاملة، تمكنا من خلالها الوقوف على الدوافع التي دعت الباحثين للتركيز على هذا الجانب من البحث.
أثار العنوان الأدبي تحت المجهر التحليلي للدارسين، اهتماما بالغا. ولم يقتصر هذا الاهتمام على الباحثين، بل تجاوز ذلك إلى صومعة المبدعين، الذين ارتأوا إبداع عنوان أدبي يماثل إبداع النص. وبذلك انعكاس حتميّ للآلية الجمالية التي دأب رواد الأدب الحديث على خلقها، من ثَمَّ التشكل في فضائها عبر كينونة غير نمطية، بعيدة عن الاستهلاك الجمالي.
جاء اهتمام الادب العربي الحديث بالعنوان، مغايرا للأدب العربي القديم. ففي حين تركّز الاهتمام في الأدب القديم على ماهية النص، دون الأخذ بالاستراتيجية الجمالية التي يطرحها الكاتب أو الشاعر عبر العنوان، انطلق روادنا للانشغال بالعنوان حتى صارت عملية ابتكاره أكثر تعقيدا من عملية بناء النص، في كثير من الأحيان.
يتحدث يحياوي عن إحاطة العرب القدماء بالعنوان من خلال النصوص النقدية والنثرية، دون الاهتمام بعنونة الأشعار. فيعزو ذلك إلى مباشَرَة تلقي المستمع للنصوص الشعرية في المناسبات المختلفة، والتي من شأنها تمييز القصائد عن بعضها البعض دون الحاجة للعنونة. ويضيف موضحا الآلية التعويضية التي انتهجها الشعراء عوضا عن العناوين، معتبرا المطالع التي امتازت بها القصائد العربية، استراتيجية مفادها جذب وإغراء المستمع إلى القصيدة، التي ستكتسب فيما بعد هوية خاصة في ذهن مستمعها[2][2]. فضلا عن بعض العبارات التي سبقت النص الشعري في قصائد عدة. غير أن الأمر يختلف بالحديث عن الادب الغربي، إذ ظهرت العنونة فيه قديما بواسطة الترقيم، أو الكلمات الأولى من النص كما يذكر ليفين. ويضيف أن الجمل الأولى بدت في بعض القصائد نوعا من العناوين[3][3].
تذكر الماضي في دراستها للعنوان الأدبي في شعر عبد القادر الجنابي، أن اختراع الطباعة حفّز على إضافة العنوان في الفضاء الذي يسبق النص، "ولقد كان لاختراع الطباعة تأثير في موضوع العنونة، إذ شكل هذا الاختراع نقطة انطلاق لوضع عنوان في الفضاء الذي يسبق السطر الأول من النص. كما أنه لم يعد العنوان مجرد تلخيص تحريري، يقوم به المحررون من خلال التقاط عبارات من العمل، أو مجرد اسم يعيّن هذا العمل[4][4]".
امتاز القرن العشرون بالثورة الأدبية التي اجتاحت نصفه الثاني، لتقلب موازين المنظار الفني، وتطور منهجية تعمل على صقل الذائقة الجمالية. فما عاد التنميط مقبولا، أو ممكنا. ومن هنا أضاء التساؤل الأبرز في عالم العنونة:
هل العنوان مجرد تسمية نميز من خلالها العمل الأدبي عن غيره من الأعمال، أم أنه واجهة "دلالية"، ذات مآرب أدبية إرشادية، يتعين على قارئها الربط بين ظاهرها وباطنها، في سبيل النيل من تمنعها؟
الأصل في العنوان أن يكتبه كاتب النص ذاته، نظرا لإلمامه بدقائق المضمون الذي ابتغى طرحه للقارئ. وبذلك يتعين عليه ربط العنوان بالمفهوم الضمني للنص، على اختلاف الأساليب التي من الممكن أن يتبعها الكاتب في ابتكار العنوان. وهو الأمر الذي يحيلنا إلى أنواع العناوين التي تطرق إليها الباحثون، من ثم الولوج إلى وظائفها وماهيتها. وقد تم تصنيف العناوين تصنيفات متعددة، غير أنها تندرج تحت معيارين رئيسيين:
1. المعيار التأشيري، أو التمييزي، بحيث تمتاز هذه الخانة باحتضانها كافة العناوين التي هدفها تمييز العمل الأدبي عن أعمال أخرى. فتتأتى صورة العنوان المؤشر على أشكال مختلفة كالترقيم أو التأريخ للعمل، وفي أحيان كثيرة تستخدم الكلمة الأولى أو العبارة الأولى من العمل للتدليل عليه، دون أن يرتبط هذا النوع من العنونة بمضمون النص. غير أن الأمر ليس قاطعا، ففي أحيان كثيرة نعتقد بعدم ارتباط العنوان بالنص ارتباطا دلاليا، فنفاجأ في نهاية قراءتنا للعمل بخبايا دلالية، جمالية للعنوان. وهو الأمر الذي سنتبينه من خلال محاولتنا التحليلية في الفصل اللاحق. ولا نشير بذلك لكون العنوان الذي اخترناه تمييزيا بقدر كونه دلاليا. غير أنه عنوان مبطن تكاد تغليفاته تتقارب والطرفة!
2. المعيار الدلالي، إذ يكتسب العنوان، في هذه المرحلة من الوعي الجمالي للكاتب، أبعادا أعمق، ذات صلة بالرسالة التي كُتِبَ العمل الإبداعي من أجلها. فضلا عن قيامها بالوظيفة الأولية للعنوان، وهي التسمية. تندرج أنواع متعددة من العناوين ضمن المقياس الدلالي[5][5].
أنواع العناوين:
· العنوان الاختصاري: تتمركز فيه الفكرة الرئيسية للعمل، بحيث تتماشى حيثياته مع توقعات القارئ، بل وتلخص له العمل مسبقا.
· العنوان الجزئي: يتناول جزءا من العمل الأدبي، فيه قدر من السخرية، حين يكتشف القارئ مخالفة العنوان لتوقعاته. بل وانعكاس رؤيته وفهمه الأولي للعنوان بعد إتمامه النص.
· العنوان المتمم: فيه اكتمال الفكرة المركزية للعمل وتقديم له. بل إن الحاجة إليه ليست مجرد تسمية أو حتى نوع من التجميل الفني، بقدر جنوحها إلى الحاجات الأساسية لبناء النص.
· العنوان الساخر: تتوجه فيه أفكارنا إلى اتجاه معين نتبين "إيرونيّته" خلال استرسالنا في القراءة.
· العنوان المحيط: فيه من التعميم ما يجعل من القارئ كتلة من التوقعات، التي تولّد في بعض الأحيان نوعا من التعقيد لدى المتلقي. فشمولية هذه العناوين لا تُلزم القارئ بتأويل دون الآخر، كأن يكون العنوان: "هباء"، "اجتياز"، "ذبول" وغيرها من المفردات التي تفتح أمام قارئها عالما واسعا للتأويلات.
· العنوان الاتجاهي: فيه توجيه من قِبَل الكاتب لموقف معين يود إبرازه لجمهوره. فيقوم بنقد الموضوع من زاوية ما في محاولة للإقناع والنقد التوجيهي.
· العنوان الإطار: يتطابق هذا النوع من العناوين مع الكلمات الأخيرة للعمل، بحيث يؤطّره. ويروقنا استخدام مصطلح العنوان الدائري في هذا الموضع، نظرا لابتداء القارئ وانتهائه به.
· العنوان الداخلي: يتكرر العنوان داخل النص، وبتغييبه لا نشعر باختلال الدلالة.
· العنوان الإهدائي: فيه تكريم لشخص ما، بحيث لا ترابط بينه وبين الدلالة النصية.
كما تجدر الإشارة إلى عناوين التي تمّ تفصيلها من قِبَل بعض الباحثين،تبعا للحضارة واللغة التي يبحثون فيها. فضلا عن العناوين المتبعة في العمل الصحفي، كالعناوين الواقعية، والموجهة، ولاسيما المثيرة. واستخدام مختلف الاصطلاحات بهدف الاصطلاح على ذات العنوان، فتتشكل أمامنا تعددية التسميات لذات الهدف في بعض الأحيان. ولعل الوازع لذلك، اختلاف اللغة والحضارات، فمثلا العناوين الاختصارية تشابه العناوين المشدّدة إلى حد كبير. والعناوين المحايدة التي تماثل العناوين المؤشرة إلى حد بعيد.
وظائف العناوين:
لم يكن من السهل تحديد الوظائف المختلفة التي تقوم بها العناوين. إذ جرى الحديث عن وظائف عدة، لا تنحصر في قالب واحد. تحدث شارلز وهوك عن ثلاث وظائف رئيسية للعمل[6][6]:
· تسمية العمل، وتمييزه عن الأعمال الأخرى.
· تمييز المضمون.
· جذب المتلقي.
يذكر جينيت أن الوظائف السابقة غير مشروط اجتماعها في العنوان الواحد، غير أن الوظيفة الأولى حتمية دون ارتباطها بما لحقها من الوظائف. كما يذكر حمداوي[7][7] بأن جون كوهن يرى في العنوان مظهرا من "مظاهر الإسناد، الوصل والربط المنطقي، وبالتالي، فالنص إذا كان بأفكاره المبعثرة، مسندا إليه، فهو الموضوع العام، بينما الخطاب النصي، يشكل أجزاء العنوان، الذي هو بمثابة فكرة عامة أو محورية، أو بمثابة نص كلي. ويؤكد كوهن على أن النثر- علميا كان أم أدبيا- يتوفر دائما على العنوان، أي أن العنونة من سمات النص النثري كيفما كان نوعه، لأن النثر قائم على الوصل والقواعد المنطقية، بينما الشعر يمكن أن يستغني عن العنوان، ما دام يستند إلى اللا انسجام، ويفتقر إلى الفكرة التركيبية التي توحد شتات النص المبعثر، وبالتالي، قد يكون مطلع القصيدة عنوانا. وهكذا، فالعنوان حسب كوهن يرتبط بالنثر، والانسجام والوصل والربط المنطقي، بينما الشعر يمكنه الاستغناء عن العنونة والتسمية ما دام ينبني على اللا اتساق واللا انسجام".
فضلا عن الوظيفة التناصية التي يؤديها العنوان، في حالات عدة، كمرورنا بـ "مرثية الحلاج" مثلا. إذ يحيلنا هذا النوع من العناوين إلى شخصية خارج- نصية، أحداث ونصوص خارجية. وبذلك تتحقق ازدواجية الوظيفة التي جمعت بين الداخل والخارج.
يضيف بارث، "العناوين عبارة عن أنظمة دلالية سيميولوجية، تحمل في طياتها قيما أخلاقية، واجتماعية، وأيديولوجية.[8][8]" فما يجمع بين الأشياء المختلفة سوى أنها شواهد وأدلة من حياتنا اليومية، تحيلنا، بشكل أو بآخر، إلى معايير حياتية. "فهنالك من الدارسين الذين نزعوا إلى تحليل العنوان بالإفادة من وظائف اللغة التي قال بها رومان جاكبسون في كتابه قضايا الشعر، فيتبين أن للعنوان وظيفة انفعالية ومرجعية وانتباهية وجمالية، وميتالوغية، وقد تتسع هذه الوظائف لتشمل الوظيفة التعيينية، التحريضية، والوظيفة الأيديولوجية[9][9]".
ما هو مدى ارتباط العنوان بالنص؟
عند حديثنا عن الأدب، فإننا دون أدنى شك، نتناول ثنائية الجانب في واحدية الخامة. أي أن العنوان كقطب أول، والنص كقطب ثان، يتشكلان من الخامة اللغوية. وبذلك تحتم على العنوان أن يشترك مفهوما مع النص. على اختلاف الدرجة التي يعبّر فيها العنوان عن خفايا النص، لا سيما إذا تحدثنا عن العناوين التي تندرج في منظومة المعايير الدلالية. على الرغم من الانفصال الشكلي الذي تحققه الطباعة أمام القارئ.
المعيار الجمالي هو معيار نسبي، تحقق جماليته باكتمال استحالة الوقوف على دلالة واحدة حاسمة بحقه. فالأدب عامة يتناسب والذائقة البشرية، قبل جنوحه لعرض الأجواء الحياتية. وهي ذائقة متعددة، متلونة. لا تقف عند حد فاصل، يزيل الغموض ويكشف الستار دون ترك زوايا لا زالت بحاجة إلى المزيد. ومن هنا كان الأدب ولا زال محطّ استمتاع النفس البشرية. ونحن بعون الله سنحاول إدراك هذا الأمر من خلال الفصل التطبيقي، الذي سيواجهنا فور انتهائنا من هذا الفصل، الذي لم يكن سوى مقدمة لمحية حول العنوان، بهدف التوضيح.
الفصل الثاني
فصل تطبيقي
"دورة كاملة في المقام"
ارتأينا انتهاج استراتيجية تحليلية، مفادها الانتقال النصي من قراءة إلى قراءة. ولا نهدف بذلك العمق القراءاتي، بقدر مقصدنا الاتجاهي. إذ يتم التحليل عبر قراءة أولى، تحتمل المعاني المتوفرة أمام المتلقي. فضلا عن الربط بين العنوان وما تلاه من المعاني. وبالانتقال إلى القراءة الثانية نزيح توجهنا إلى عالم آخر يشبه الطرفة للمتلقي الذي انشغل بالمعاني الأولية دون التيقظ لحقيقة مقصد كتابة القصيدة. وقد يظن البعض أن القراءة الثانية تحميل زائد للدلالة المرجوة من قِبَل الشاعر، غير أن منهجية التحليل ستبين مصداقية القراءة الثانية، والتي ستحوي في كنفها القراة الأولى كلمسات تجميلية، ليس إلا.
قراءة أولى:
"دورة كاملة في المقام"، عنوانٌ شاغلٌ، لما فيه من إيحاءات تحيلنا لقراءة النص. لم يكن بوسعنا التعليق على العنوان بشكل أولي، لما فيه من غموض. فأي دورة تلك التي يقدمها النص الشعري؟ وما هو وجه اكتمالها؟ وعن أي مقام نتحدّث؟
كلها أسئلة راودتنا، ولم نتمكن من فض التساؤل بقراءة أولية للعنوان. بيد أن الانطلاق لتحديد صفات الصورة المستوحاة في العنوان، مثّل عاملا مساعدا لاستنباط الدلالة. تتكون الجملة الإسمية من:
المبتدأ: دورةٌ.
النعت: كاملةٌ.
الخبر "شبه جملة من جار ومجرور": في المقامِ.
وكان بالإمكان قولُ: "دورةٌ في المقامِ"، دون أن يختل فعل حدوث الدورة في المقام. إلا أن التشديد على الدورة، بشكل خاص، أدى بالشاعر لاختيار صفة تدقيقية. فالدورة ليست اعتيادية، برغم ما توحيه هذه الكلمة للوهلة الأولى من حتمية الاكتمال.
الدورة رغم التقاء بدايتها بنهايتها، من الممكن أن يشوبها خلل في سيرورة الاكتمال، أو تناسق دائريتها، أو شمولية ما حوته. لهذا تلت المبتدأ صفة حدّدت ملامح الدورة، فقال: "دورة كاملة". ويحيلنا ذلك إلى العكس، فبما أن هنالك دورة كاملة فلا بد من وجود دورة ناقصة. واكتمال دائريتها محصور في المقام دون غيره، فقد اقترن التعريف بالمقام، دون أن يقول: "دورة كاملة في مقامٍ". فثمة تحديد لهذا المقام تماما كتحديد ملمح الدورة.
لا بد من الولوج إلى عمق الجمالية النصية، من أجل بلورة مفهوم العنوان. وهو نص شعري، رومانسي إلى حد بعيد.
شرع الشاعر قائلا:
" سيّدتي قلبي ملغومٌ بك حبّا
لا تقتربي أشعلتِ فَتيلَه...
فاتنتي مشعلتي بحروفي
سيّدة الكلماتِ
وسيدة الحرف هنا
أتداخل في المعنى
ألج الأعماق شعاعا
أتوهّج في معناكِ ضياءً ...."
يتبادر إلى الذهن حبٌّ يبديه الشاعر لمحبوبته، التي أشعلت في فؤاده جمال الحرف، ورونق المعنى في الكلمة المستوحاة من أعماق هذه المحبوبة. ويسترسل من الحب إلى العشق الذي يفيض في فؤاده:
"ما بال الليل يفيض ويدنو نحو الباب
ومن أبعد وجهي
عن وجهك من أقصاني عنك
ومن أخرجني منك..."
العلاقة حميمية إلى حدّ بعيد، تتوحد فيها الأضداد، وتمتزج فيها تعددية الكون بواحديته ليصبح المخاطِب ضميرا جمعيا لا فرديا:
"فالقول هنا قالته الألسن كلاّ
ما بقيت لغة ما قالت قول حروفك يا أنت
ولكن لم تثبت للهيبي فأنا ما زلت أنا
دون حياد في الفكرة
دون حياد في حرفي
معناي على وجه حروفي ينطِقني وحدي
ولذا لن نتوحّد حتى تأتيني..."
ولا يكتفي بهذه العبارات التي تقود مخيلة المتلقي للغوص إلى عمق الحالة الشاعرية التي يعيشها المحب في تلك اللحظات، فينهمر عاطفة، بتلاحم الثنائيات الضدية:
"لا تتشظي لا ترتجي
فدماء حروفي غليان في كانون يُساقِطُ نارا
فالتحمي بالنار لتنصهري بالحرف
ونعبر من أنفسنا صوب أنا أنتِ
فأنت أنا..."
لا بد من إحالة المتلقي، وبشكل أوتوماتيكي، إلى الآلية الصوفية التي انتهجها مبدعو منتصف القرن العشرين، فور قراءته لهذا النص. خاصة عندما يقول:
"لا أسمح أن يتدفق معنىً فيَّ سوى معناكِ
أنا أفهم ما يرد الآن عليَّ ولا أسأل أو أتساءل
فالقول هنا قالته الألسن كلاّ..."
فالوارد، بالضرورة، يحيلنا إلى المريد الذي وقع قلبه في مقامات العشق، "منذ احتوت الحركات السكنات...
ومنذ عصور النجمة لحظة أن وُلِدَت من رحم المعنى في فجر تجلِّيها...."
كثيرة هي لحظات التوحد التي يبينها شاعرنا في قصيدته. وإن لم تكن بمجملها بينه وبين معشوقته، غير أنها في بعض الأحيان بين الطبيعة والإنسان، وفي البعض الآخر بين الجسد والروح، بين الكلمة والمعنى... وهي الآلية الصوفية البحتة، التي ارتآها الشاعر لاجتياز كل العقبات للوصول إلى عمق المحبوبة.
نجاحه عبر التحليق، والاجتياز، يمنحه القدرة الفعلية على نيل الوارد الذي يمزجه في مقام العشق، ليترنح ثملا من هذه السكرة، ربما السكرات!
"لا وقت لديّ لأوقظ حرفي
من موتته الحالية
فانتشري فيه أو اختمري
في مقلته..."
وفعل الاختمار فيه ملمح من ملامح الدَّوَخان، والحركة الالتفافية، سواء في الجسد أو الذهن. ليسقط هذا المحب في دائرة ، أو متاهة من متاهات العشق. ويؤكد ذلك قوله:
"أراكِ سواكِ فلستِ سوى من كانت قربي تمشي بي لمتاهتنا..."
فدورته الكاملة في المقام، إنما تحقيق لمتاهته غير النهائية في درجة بعيدة، من درجات هيامه وولهه بمحبوبته. يمكننا التفصيل بشكل أكبر حين نأتي على كل شطرة في القصيدة، غير أننا لم نجد في هذا المنطلق عمقا يطمئن له الخاطر. فما كان تحليلنا السابق سوى الدلالة الأولية التي يمكن لكل متلق أم يستنبطها من أغوار النص الشعري. لذا كان علينا التدقيق، وكانت المفاجأة!! التي ستنكشف خباياها في القراءة الثانية.
قراءة ثانية:
لا تكتمل قراءتنا الثانية للعنوان، دون المرور بالملحق وبكل تفاصيل القصيدة. ولا نعني بذلك تفاصيل المعاني القاموسية، أو الدلالية. بقدر اهتمامنا بعلم العروض الذي تميّز به الشعر العربي قديما وحديثا. فالقصيدة التي أمامنا من الشعر الحر التفعيلي الذي تحدث عنه الشاعر ذاته في كتابه العروض الزاخر واحتمالات الدوائر.
الإحاطة بالجماليات العربية الحديثة لا تقتصر على سبر أغوار مضمون النص، لكنها تتجاوز ذلك لتلزمنا دراسة البناء والشكل، الذي يشكل عاملا مؤثرا في كيفية تناولنا وفهمنا للنتاج. "إن التجديد في الأسلوب، والتنويع في الشكل، والتحرر من الأفكار القديمة، كانت إرهاصات مهدت لميلاد الشعر الحر التفعيلي. وهو الشعر الذي لا يتقيد بقافية واحدة ولا ببحر تام. ويقيم القصيدة على التفعيلة بدلا من الشطر، محطما استقلال البيت. ويصح أن يتغير عدد التفعيلات في الشعر الحر من شطر إلى شطر. أو يكون هذا التغيير وفق قانون عروضي[10][10]". ويتوسع محمود مرعي في حديثه عن موسيقى الشعر الحر مؤكدا كون هذا الجنس الأدبي "يعتمد على التفعيلة كوحدة أساسية وعلى نظام الشطر الواحد، طال أم قصر، مقابل البيت العمودي ذي العدد المحدد من التفاعيل والقافية الموحدة، فقد يأتي الشطر تفعيلة واحدة مثل "مستفعلن" ويعتمد أكثر من تفعيلة مثل "مستفعلن فاعلن" أو " فاعلاتن مستفعلن". فما كان من تفعيلة واحدة فهو الصافي كالبحور الصافية، وما كان مختلطا فهو الممتزج، كالبحور الممتزجة[11][11]. وشعر التفعيلة يخضع لقانون العروض من حيث الزحافات والعلل، ويستعمل الشاعر من شعر التفعيلة جميع التفاعيل، لكن هناك تفاعيل تستعمل أكثر من غيرها. وهناك مثلا تفعيلة "مفعولات" لا نكاد نعثر عليها في شعر التفعيلة[12][12]".
قراءتنا لبحث محمود مرعي في كتابه العروض الزاخر واحتمالات الدوائر، تبين لنا جذور شعر التفعيلة، ومردها إلى ألف عام خلت، خلافا لما يعتقده النقاد بكون هذا الشعر وليد النصف الأول من القرن العشرين. إذ يكمن الفارق الحقيقي بين الشعر القديم والشعر الحديث بنيويا في ترتيب الأشطر. بل ويسترسل الباحث مشيرا لكون الشعر المتحرر من القافية مردّه أيضا للفترة ذاتها. كما يشير للاعتقاد السائد حول ابتداع نازك الملائكة تفعيلة "فاعل"، وهو ذات الاعتقاد الذي جعل ذهنيته البحثية في تساؤل وتشكك، "هل يعقل أن أمة تملك تراثا هائلا رهيبا كأمة العرب، لم تكتشف ولم تمر على لسانها مثل هذه التفعيلة؟ [13][13]".
ويجيب: "لم يمض وقت طويل حتى بدأت الصورة تتضح، ومفادها استحالة عدم ورودها في هذا التراث الضخم. والسبب بسيط جدا وهو سهولة دخول هذه التفعيلة في ثنايا المتدارك.. وها أنا أزعم أن "فاعل" موجودة وعرفها العرب ليس في العصر الحديث، أو الأندلسي، بل الجاهلية[14][14]".
وعلى ذلك فإن قصيدة "دورة كاملة في المقام" التي أرى من خلالها تدفقا هائلا للحداثة، هي حديثة- قديمة. فقد استطاع مرعي من خلال المبنى تحقيق هوية أصيلة، دون اللجوء إلى الشكل الكلاسيكي العمودي. إذ استمد روح الكلاسيكية في محاكاة للواقع الحالي وروح العصر. فصاغ التفعيلات وفقا للتوظيف المناسب لها. فبناء الهوية الحداثية الخاصة، الرافضة للتأسلف والتمغرب بوجهيهما لا يقتصر على المضمون، وإنما يتجاوز ذلك ليتشكل عبر بنيوية النص بأسلوب حداثي.
وقد أبدى مرعي اهتمامه بعلم العروض، وانجذابه لهذه الخاصية في الشعر العربي. فانعكس هذا الأمر في قصيدته التي نتناولها في دراستنا الحالية. إذ تمكّن من جمع تفعيلات الشعر العربي كافة بزحافاتها، في قصيدة واحدة.
لا بد من عرض التفعيلات قبل البدء بتقسيم القصيدة، إضافة للحديث عن الدوائر بشكل خاطف، لعدم الوقوع في مدارك الإسهاب. خاصة أن الموضوع للتوضيح ليس إلا:
أما التفعيلات:
فَعولُن، فاعِلُن، مَفاعيلُن، مستفعِلُن، فاعِلاتُن، مُفاعَلَتُن، مُتَفاعِلُن، مفعولاتُ.
أما الدوائر[15][15]: نعرض خمس دوائر تشتمل على بحور الشعر العربي،وشذّت عنها الدائرة الرابعة، التي تتشكل بحورها من أوتاد مجموعة ومفروقة، وليس فيها بحر رئيسي ذو تفاعيل غير مشتبهة الأوتاد.
· الدائرة الأولى، بإظهار الشطر الأول من كل بحر:
الطويل: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
المديد : عِلُن/فا علاتن/ فا علن/فا علاتن/ فا
البسيط: علن/ فا علن/ مستف علن/ فا علن/ مستف
· الدائرة الثانية:
الوافر: مفاعَلَتن مفاعَلَتن مفاعَلَتن
الكامل: عِلن/ متفا عِلن/ متفا عِلن/ متفا
· الدائرة الثالثة:
الهزج: مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن
الرجز: عِلُن/ مستف عِلُن/ مستف عِلُن/ مستف
الرمل: علاتن/فا علاتن/فا علاتن/فا
· الدائرة الخامسة:
المتقارب: فعولن فعولن فعولن فعولن
المتدارك: عِلن/ فا عِلن/ فا عِلن/ فا عِلن/ فا
فضلا عن ذلك، فإن البحور في الشعر العربي تنقسم إلى الصافية والممتزجة. فالصافية ما كانت تفعيلاتها متماثلة كالوافر. أما الممتزجة فهي متعددة التفعيلات، كالطويل.
وبعودتنا إلى قصيدة مرعي "دورة كاملة في المقام"، اكتشافٌ لاحتوائها كافة التفعيلات التي تضمنتها الدوائر. يبدأ الشاعر قصيدته باستخدامه تفعيلة فاعلن، بأوجهها المختلفة: فاعلُ و فَعِلُن.
فيكون ذلك في المقطع الأول، كما يتبين في الملحق. ثم ينتقل إلى استخدام مُتَفاعِلُن في المقطع الثاني. ويستخدم البحر الممتزج "الخفيف"، لينطلق بذلك من تفعيلات البحور الصافية إلى تفعيلات البحور الممتزجة، في المقطع الثالث الذي تظهر فيه تفعيلة فاعلاتن ومستفعلن. أما المقطع الرابع فيعتمد تفعيلة فَعولُن. وينتقل في المقطع الخامس لتفعيلة مستفعلن. وصولا إلى المقطع السادس بتفعيلة فاعلاتن. انتهاء بالمقطع السابع االذي يعرض أمامنا تفعيلة مفاعَلَتُن ومنها مَفاعيلُن. وتكون القصيدة بذلك، مشتملة على كافة التفاعيل التي وردت في البحور، باستثناء تفعيلة مفعولات، وهي تفعيلةٌ قلّما استخدمها الشعراء قديما وحديثا.
كما ولم يقتصر استخدامه لتفعيلات البحور الصافية، فتجاوز ذلك إلى البحور الممتزجة كما سبق وذكرنا في المقطع الثالث. فجاءت شمولية القصيدة لتفعيلات الدوائر كافة، دورة كاملة في مقام عشقه للغة العربية وشاعريتها وبحورها.
ومحاولته، التي نعتقد بخاصيتها وحداثتها، إنما تعبر عن شاعر تمكن من الدوران في باحة الشعر العربي، والخلوص بهذه القصيدة الخلاقة، دلاليا وعروضيا.
وما جاء في قراءتنا الأولى من عشق للمحبوبة، ينطبق دون أدنى شك على عشقه وتوحده مع هذه اللغة التي حاول احتضان سكناتها وحركاتها في قصيدته:
" فاتنتي مشعلتي بحروفي
سيّدة الكلماتِ
وسيدة الحرف هنا
أتداخل في المعنى
ألج الأعماق شعاعا
أتوهّج في معناكِ ضياءً ...." ويسترسل قائلا:
" أنا ما زلت أنا لم أتغير
منذ التقت الكلمات مع الكلمات
ومنذ احتوت الحركات السكنات..."
ومما جاء في القصيدة من اعتراف يقوّي هذا التفسير:
" يتبدّل الإيقاعُ
والوتر القديم يراوغ الثغر المسافر في حنايا الفكر
فانتصبي هلالا في شمال الروح
شمسا في مدار الحرف
أغنيةً لزرياب المسافر فيّ..."
وهو زرياب في قصيدته التي تمكن من خلالها من تطويع التفعيلات ومزجها بسلاسة ودراسة. ومن تبديل الإيقاع بإيقاع. فأي مقام من مقامات العشق والإخلاص وردت فيه إلهامات وحّدت تفعيلات اللغة بقصيدة واحدة.
إذا نخلص لاكتمال دورة الشاعر في مقام عشقه للغته، وتمكنه من التوحد معها، والعيش من خلالها، عندما يقول في الختام:
" ففيكِ الآن قد سطّرتُ أغنيتي
وفيك الآن قد تمّت تلاحيني...".
الخاتمة
مثّلت قصيدة "دورة كاملة في المقام" عملا أدبيا اعتنى شاعره بانتقاء عنوانه، مبطنا من خلاله المقصد الذي كتبت القصيدة لأجله. فكان بمثابة منبّه وترميز عبر كلمة "دورة"، وصفة "كاملة".
إذ يعتقد القارئ للوهلة الأولى أن القصيدة ما هي إلا قصيدة عشق من رجل إلى محبوبته، وسرعان ما تتضح الأمور عندما نمعن جيدا في الاتجاه الذي كتبت القصيدة وفقه. فتبدو لنا قصيدة بمنتهى الاكتمال في احتوائها تفعيلات الشعر العربي كافة، ومزجها تفعيلات البحور الصافية والممتزجة معا.
نأمل أن نكون قد وفقنا في اختيارنا منهجية القراءات المتعددة. كما ونتمنى أننا بلغنا في دراستنا منطق الإقناع المنطقي العلمي.
دورة كاملة في المقام
شعر: محمود مرعي – مجلى المواكب، 2003.
· المقطع الأول: استخدام تفعيلة فاعِلُن.
سيِّدَتي قلبي ملغومٌ بِكِ حُبّا
لا تقتربي أشعَلتِ فَتيلَه...
فاتِنتي مُشعِلَتي بِحُروفي
سيِّدَةَ الكَلماتِ وَسَيِّدَةَ الحرفِ هنا
أتداخلُ في المعنى
ألِجُ الأعماقَ شُعاعا
أتوهَّجُ في معناكِ ضياءً
أشرَبُ حرفَكِ حتى آخرِ نقطةِ حبرٍ
نحن هنا يا سيدةَ الضوءِ
ولم نرحل بعدُ عن الإشراقِ غيابا
ما زلنا نفهم ما لا يفهمهُ الأفق الأدنى من وجه الأفق الأقصى
نحن هنا عبَثٌ زركشهُ البرقُ ففاض سهولا مخصبةٌ لا تُنبِتُ إلاّنا...
سيّدتي.. سيّدتي:
ما بالُ الليلِ يفيضُ ويدنو نحوَ البابِ
ومَن أبعَدَ وَجهي
عن وجهكِ مَن أقصاني عَنكِ ومَن أخرجني منكِ
ومَن فكَّ طلاسمنا
من فسَّرَ معنانا
حَرَكاتي يا سيدةَ الحركاتِ هي الحركاتُ
وما اختلفت منذُ انغرسَت في طريقنا نحو الريح
فقد فتَحَت لي الريح ذراعيها كي أستوطِنَ فيها...
سيّدتي يا سيِّدة المعنى وتفجّرِ معناه:
كيف تسيرين هنا وسط الحرفِ وغُربَتِهِ؟
كيفَ تقولينَ أنا
أنتِ
سوانا
كيفَ قرأتِ ضميرَ أنا
قبلَ أنا
كيفَ كتَبتِ وأشعلتِ النور بأحداق العتمةِ
يا سيدة الوجعِ الموغِلِ في أزمنةِ الأرضِ
وفي أمكنةِ العرضِ الأول للمشهد
انا ما زلتُ أنا لم أتغيَّر
منذُ التَقَتِ الكلماتُ مع الكلماتِ
ومنذُ احتوت الحركاتُ السكنات
ومنذُ عصورِ النجمةِ لحظةَ أن وُلِدَت
من رَحِمِ المعنى في فجرِ تجلِّيها...
والآن أراكِ سِواكِ فلستِسوى من كانت قربي تمشي بي لمتاهتنا
أنت الآن سِواكِ فما أعرِفُ منكِ سوى
ما يتوالدُ منكِ ويسري لهبا يُشعِلُ بَوحي
لا تقتربي أكثر فالبحر سيطغى والمدُّ يسدُّ الآفاق
وأنتِ على الشطِّ كلامٌ قيلَ قديما
يا أنتِ
هنا مملكتي وَحدي
مملكتي أنتِ أنا
ليسَ لغيري إلاّكِ خُطى لُغَةٍ فيها
فابتعدي الآن إليَّ سريعا
سيهُبُّ الإعصارُ قريبا
لا أسمَحُ أن يتدفَّقَ معنى فيَّ سوى معناكِ أنا
أفهَمُ ما يَرِدُ الآنَ عليّ ولا أسألُ أو أتساءَل
فالقولُ هنا قالتهُ الالسُنُ كُلاّ
ما بَقِيَت لغةٌ ما قالت قولَ حُروفِكِ يا انتِ
ولكن لم تَثبُت للهيبي فأنا ما زِلتُ انا
دونَ حيادٍ في الفكرةِ دونَ حِيادٍ في حرفي
معنايَ على وجهِ حروفي يَنطِقُني وحدي
ولَذا لن نتوحّد حتى تأتيني
أفقا لم يُشرِق بعدُ على فكرٍ وخيالٍ
أو فانتثري في فَلَكٍ يُشبِهُ ما قالت
من نَطَقت وامتشَقَت سيفَ الكلماتِ
لتَقطَعَني بالكلماتِ
وتَنطِقَني غيري كي تتهجى جسدي
في حضرةِ أحرفها الثكلى
لا وقتَ لديَّ الآنَ
لِأبكي فوقَ دمِ الحرفِ المشنوقِ
بذاكرةِ المطرِ الجائعِ في عِزِّ التَخمةِ
لا وقتَ لديَّ لأوقظَ حرفي
من مَوتتِهِ الحاليةِ
فانتشري فيهِ أو اختمِري
في مُقلتِهِ
لا تَتَشَظِّي لا تَرتَجِّي
فَدِماءُ حروفي غليانٌ في كانونَ يُساقِطُ نارا
فالتَحمي بالنارِ لتنصهري بالحرفِ ونعبرَ من أنفسنا صوب أنا أنتِ فأنتِ أنا...
أشعليني فضاءً مدى
واسقُطي فوقَ روحي ظلالا
وكوني غلالا
وطيري جلالا
وجوزي حضوري وهاتي غيابي أنا
لا تقولي كفى
فالهوى ما اكتفى
واشتعالي همى
فيكِ محرابُ روحي استوى
فاملأي وجهَ روحي شجن
وامسحي الدمعَ إني هنا
يا نشيدي أنا
يا أنا واعزفي لحننا قُبلّةً من سنا
نوِّعي اللحن وامضي بنا
وجه طفلين وَجداً
كبيرين حُباُّ وعشقا سما
وجِّهي العزف نحو الوسط
يأتِ موجا على صفحةِ الافقِ
يدنو نشيدَ الشِّفا
واسدِلي فوقنا ساترا مِن غسق
وافرشي تحتنا فرشَةً من ألق
وانشدي.. فاعِلٌ قد سَبَق ...
· المقطع الثاني: استخدام تفعيلة متَفاعِلُن.
يتبدل الإيقاعُ
والوتر القديم يراوغ الثَّغرَ المسافرَ في حنايا الفِكرِ
فانتصبي هلالا في شمال الروحِ
شمسا في مدارِ الحرف
أغنيةً لزريابِ المسافرِ فيَّ
واكتملي شِراعا
في منافي أحرفي
مُدَّي أصابعَ فجرنا
سطحَ الخليقةِ كالمحيطِ فهدهدي
وتلوَّني أو لوِّني شمسض الصباحِ بأبيضِ الروحِ التي سالت
ولم تُبحِر جنونا في المدى
تطلُع جنوبا في الصدى
تنبع دعاءً في الهُدى
ضُمِّي قناعَكِ عن سوادٍ
طالعٍ فيما تأخَّرَ من شُروقٍ
وارفعي ذاكَ الخمارَ عنِ الرؤى
قد أشرقت سُبُلُ الكلامِ تقدَّمي
ضوءَ اليراعةِ جازَ جوزاءُ الجَمالِ تساقطي
وتناثري حَبَبا على محرابِ أغنيتي أنا
فسواكِ لا...
· المقطع الثالث: استخدام تفعيلات البحر الممتزج " الخفيف"، فاعلاتن و مستفعلن.
فادخلي الروح واقرأيني صهيلا...
يطلُعُ الفجرُ
من سوادٍ تلظّى مُشرِقَ الحزنِ يستوي
كفضاءٍ غاصَ في صدري قبلَ أن تسحبيني من جبيني
وتزرعيني صباحا في الضلوع التي تقول أنا
أنتِ أنا استَلِّي وجهَ أغنيتي واشتعلي فيَّ موطنا لصليلٍ صاهلٍ في العروقِ
وانبعثي في شُرفةِ القادمِ الذي يُنبِتُ الحُبَّ مروجا جوف الشرايينِ خضراء كما شِئتِ
وأغرقيني وضوءا مستحيلا يحيلنا سلسبيلا كوثرا فاض في اللقاءِ
طغى واستجلب الضوء من جنون يجيء...
· المقطع الرابع: استخدام تفعيلة فَعولن.
وكوني رماد الهوى ورمادي...
أنايَ معي الآن تتلو عَلَيَّ صباح الجمالِ
وترنو بطَرفٍ كليلٍ
نوافذَ قلبي مشرَّعة يا أناي
فهاتي زمانا جديدا
عسى يحتوينا
عسى يَسَعُ القلبَ
يَحضُننا زهرتينِ ربيعيَّتينِ
ليأتينا فَجرنا سُحُبا من سعيرِ الشعور ولحظةَ موتٍ تُعيدُ الحياةَ
وتجتازُ نحوَ تُخومٍ عرفنا
غَرِقنا هناك على حدِّها بين موتٍ أطلَّ علينا بنكهته
وحياةٍ تغيبُ وترجعُ فينا
وتحملنا كالأغاني الجديدة
دعيني أجنُّ قليلا بما تسكبين على وجه قلبي
وما ترفعين من الحرف
تأتي حروفُكِ في حضرةِ الآن نعفةَ فجرٍ
وتسقُطُ فوقَ مروجِ حضوري
تُعلِّمني كيف أقولكِ في كلِّ آنٍ جنونا جميلا
وكيفَ يكونُ مقولي انتشاءً جديدا
وكيف نعيدُ إلينا الذي كان فينا نخيلا
وكيف نكونُ أنا أنتِ جيلا فجيلا
تعالي إليَّ فوجهي دليلُ شروقِ الهوى
فانزعي فضةَ الكلماتِ
وقولي اكتفَينا فعولا...
· المقطع الخامس: استخدام تفعيلة مستفعلن.
الآنَ... تطلُُعُ الأغاني مُسرَجاتٌ بأنا... فاستعجلي...
هذا زمانٌ نحن من يكتبه
كما نشاءُ قُبلةً وهمسَةً
وشذراتُ عشقنا نسكبها فوق شفاهٍ
لم تزل في قمة انفجارها
في قمة اشتعالها
ونحن فيها مِرجلا من عبق
والليل في البعيد يرتقبُ لحظةً من الغفا بنا
فلا تنامي الآن خطوُ الليل يُوقِدُ المدى
كوني صهيلي كي أكون....
سيدة القلب هنا
آتيكِ ما يجلو غمامَ الروحِ
أُشعِلُ فضاء الحرفِ
نمشي فيه عصرا من خلودٍ مستطيلٍ
يبدأُ اللحظةَ من بزوغنا في شرفةِ النايِ قناديلَ وفا
يا أنتِ يا
واحتارَ حرفي فيكِ
إذ فاضَ فوادي بِكِ
واستراحَ فينا ما نقول
فرتِّلي في مسمعي
واستنشقي كي تغرقي
واستغرقي زماننا
واسترجعي موَّالنا الأوَّلَ
في بابِ الصعودِ نحونا...
· المقطع السادس: استخدام تفعيلة فاعلاتُن.
واستعيدي روعة الموّالِ فينا
وارفعي القلبَ إلى القلبِ
وضُمّي الروحَ للروحِ وقولي
ما يُريدُ الوجدَ شعرا
كي نكونَ الآنَ فجرا
وانثري معنى الكلام العذب عمرا
واهجري أندلس العشقِ فقد عاشَ طويلا...
جنَّتي... فردوسُ... عمري...
صار طعمُ العشقِ فجرا يستبيني
فخذيني
والبسيني حُجَّةَ العشقِ الذي قد كان فينا مستحيلا
واغمري عمري
عروقُ القلبِ ظمآى
فاسكبي الماء عليكِ الآن
كوني غيمَةً تروي رحيلي فيكِ
تُغريني انعتاقا من زمانٍ لم تكوني فيه ظلِّي
لم تكوني وجهَ تكويني وكَوني
وانصهاري
وانشطاري
فوق أحلامِ المدينة
· المقطع السابع: استخدام تفعيلة مفاعَلَتُن ومنها مفاعيلن.
وصبِّي كأس أغنيتي التي تأتي...
وغنِّي مثلما كنَّا لدى الغفواتِ ترتيلا
وهاتي ناي فجرِ الروحِ
غنِّيني فقد سكتت عصافيري
على أغصان أوردتي
على أهداب أحرفنا التي قالت
بأنا وجهُ من غبروا
ومن في دَوحِنا مَرّوا
وما عبروا
إلى ساحاتِ مملكةٍ ممرَّدة
تَحُفُّ بها أمانينا
وتُحيينا
وتُحيي الروحَ تسكبُها
على غَسَقٍ
على سَحَرٍ
لِتُنشينا
فَصُبَّي كأسَ أُغنيتي وغنَّيني...
وكوني في مهاةِ القلبِ أفراحا تُداويني
وصُبِّي في فمي القُبُلاتِ غَطِّيني
وضُمِّي الروحَ للروحِ استَرِديها
فَكَم تاهت بغربتها
وكم ظمئَت وكم جاعت
وكم حَلُمت وكم سهدت
ولم تيأس من اللقيا
من السقيا فرَوِّيني...
وصُبِي كأس قلبينا
وهاتي لحننا الآتي وغنيني
ففيكَ الآن قد سطّرتُ أغنيتي
وفيكَ الآن
قد تمت تلاحيني...
-----
* عبير أشراف ـ شلاعطة / سخنين ـ تقدمت الطالبة بهذه الدراسة ضمن مادة شهادة الماجستير في جامعة حيفا وقد حصلت على علامة 90 %.
قائمة المصادر
1 - القرآن الكريم.
2 - مجلة المواكب. الناصرة: مطابع فينوس. العدد9/ 2003.
3 - أبو العدوس، يوسف. موسيقى الشعر وعلم العروض. عمان: الأهلية للنشر والتوزيع. 1999.
4 - الحمداوي، ج. "السيميوطيقا والعنونة"، عالم الفكر 3/25، 1997.
5 - الماضي، ناريمان. العنوان في شعر عبد القادر الجنابي: حياة ما بعد الياء نموذجا. 2005.
6 - مرعي، محمود. العروض الزاخر واحتمالات الدوائر. حيفا: مطبعة الوادي للطباعة والنشر. 2004.
7 - يحياوي، رشيد. الشعر العربي الحديث: دراسة في المنجز النصي. بيروت: أفريقيا الشرق. 1998.
8 - Levin, H. 1997. "The Title as a literary genre. Modern Language Review 72: xxiii- xxxvi.
[1][1] الآية31 من سورة البقرة.
[2][2] يحياوي، رشيد. الشعر العربي الحديث: دراسة في المنجز النصي. بيروت: أفريقيا الشرق، 1998. ص 17، 18، 19.
[3][3] Levin 1997, P. xxxiv
[4][4] الماضي، ناريمان. العنوان في شعر عبد القادر الجنابي: حياة ما بعد الياء نموذجا. 2005 ، ص 14.
[5][5] نعتمدها وفقا للتقسيم الذي ذكرته الماضي في دراستها التي أبلت فيها بلاء حسنا، جزاها الله خيرا على كل مفيد قدمته في مضمار البحث الأدبي وغيره. أنظر: الماضي، ص26- 30.
[6][6] الحمداوي، ج. 1997. :السميوطيقا والعنونة"، عالم الفكر 3/25.
[7][7] ن.م. ص 97.
[8][8] ن.م. ص 99.
[9][9] ن.م. ص100.
[10][10] أبو العدوس، يوسف. موسيقا الشعر وعلم العروض. 1999، ص162.
[11][11] البحور الصافية: الكامل/ الهزج/ الرجز/ الرمل/ المتقارب/ المتدارك.
البحور الممتزجة: الطويل/ المديد/ البسيط/ الوافر/ السريع/ المنسرح/ الخفيف/ المضارع/ المقتضب/ المجتث.
[12][12] مرعي، محمود. العروض الزاخر واحتمالات الدوائر. 2004، ص 476.
[13][13] ن.م. ص358.
[14][14] ن.م. ص358.
[15][15] العروض العربي. المواكب- المجلد 30، العدد9. الناصرة:مطابع فينوس. 200، ص70.