*
الأمْنُ الفكريّ
2/4
ولما كان هذا شأن الفكر ومكانته ؛ أقام الإسلام دعوته على العقل والفكر ، وسبيله إلى كل شئ الإقناع بالحجة والدليل ، كما دعا إلى التفكر والتبصر ليكون ذلك طريقاً إلى الإيمان الصحيح ، ولما كانت القوى الفكرية تتفاوت من شخص إلى آخر ، ومن بيئة إلى أخرى كان أسلوب الخطاب يختلف من فريق إلى آخر ، فكان أن تدرّج القرآن الكريم في تدريب الناس على التفكر على مراحل متعاقبة([1]):
فالطريق الأول : إعمال الفكر بالنسبة للمحسوسات والمرئيات ، ومن ذلك قول الله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت}([2]) .
والطريق الثاني : يخاطب فيه القرآن الناس لإقناعهم عن طريق الأسباب والمسبَّبات ، ومن ذلك قول الباري جل وعلا: {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ، وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ، وما ذرأ لكم في الأرض مختلف ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون}([3]) .
والطريق الثالث : هو طريق الاتجاه الرفيع ، بعد أن يكون العقل قد تدرّج في التفكير حتى وصل إلى هذه المرتبة ، وفي ذلك جاء قول الحق تبارك وتعالى: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون}([4]) .
ومن ذلك تلحظ أنّ الإسلام في غضون دعوته إلى العقيدة الإسلامية ذاتها دعا الناس على جميع مستوياتهم إلى حرية التفكير ليصلوا إلى الحقائق والنتائج المؤدية إلى هذه العقيدة بناء على ما يصل إليه الفكر في حرية واطمئنان([5]).
والدعوة إلى الفكر في الإسلام لا تقف عند حدّ معيّن فلا تختص بها أمور دنيوية على سبيل الإنفراد إذ أنّ الإسلام لا يخشى الفكر ، بل إنه يعتمد في دعوته على إعمال العقل حتى يكون الإيمان به عن اقتناع كامل([6])، وعليه جاء الأمر بالتفكر والتدبر فيما خلق الله ، فالمخلوقات كلها هي في محل الفكر ، وعليه فميدان التفكير رحب واسع ، بيد أنه من الأهمية بمكان أن يلفت النظر في هذا المقام إلى أنّ الإسلام حين دعا إلى التفكير ورحب به إنما أراد أن يكون ذلك في دائرة نطاق العقل وحدود مداركه ، لذا دعا إلى النظر فيما خلق الله من شئ في السموات والأرض وما فيهما وفي الإنسان نفسه ، ولم يحظر عليه إلا التفكير في ذات الله تعالى لأنّ ذات الله فوق الإدراك { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}([7])، وقال عز من قائل { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير}([8])، وفي هذا الشأن قال عليه الصلاة والسلام: (( تفكّروا في خلق الله ولا تفكروا في الله))([9]).
إنّ آفاق التفكير في الإسلام كما يبدو رحبة ، وميادينه فسيحة لا تحدّ بحدّ ، ولا تقف عند نهاية ، قال تعالى: { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة}([10]) وما أوسع الدنيا ، وسعتها ليست بشئ في جانب سعة الآخرة .
بيد أنه ثم مظهران بارزان من مظاهر حرية الفكر في الإسلام ، فيهما يتجلى الأمن الفكري بأبهى صوره :
المظهر الأول : الحرية الدينية
وقد سار الإسلام حيال الحريّة الدينية على أسس سمحة نبيلة ؛ فلم يلبث أن استقر أمره ، وتبينت للناس تعاليمه حتى قرر في هذا الصدد عدة مبادئ([11]):
أولها : عدم إكراه الناس على الدخول في دين الإسلام ، حيث قال عز من قائل: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ }([12]) ؛ وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان ، واحترام إرادته وفكره ومشاعره ، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه .. وهذه هي أخص خصائص التحرّر الإنساني، التحرّر الذي تنكره على الإنسان في القرن الواحد والعشرين مذاهب متعسفة ونظم مذلة ، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرّمه الله ـ باختياره لعقيدته ـ أن ينطوي ضميره على تصوّر للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية ، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها ، فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا ـ وهو يحرمه من الإيمان بإله للكون يصرّف هذا الكون ـ وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل! .
إنّ حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت بها وصف إنسان ، فالذي يسلب إنساناً حرية الإعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداءً ، والإسلام ـ وهو أرقى تصور للوجود والحياة، وأوقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء ـ هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين ، وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين ، فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المتعسفة وهي تفرض فرضاً بسلطان الدولة ، ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟!([13]).
أما الإسلام ـ وكما تبين ـ فإنه لا يكره الإنسان على هجر عقيدته واعتناق الإسلام ، وإن كان يدعو إلى ذلك ، ولكن الدعوة إلى الإسلام شيء والإكراه عليه شئ آخر ، فالأول مشروع { أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}([14]) ، أما الآخر فممنوع { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}([15]) ، ( ذلك أنّ قضية العقيدة ـ كما جاء بها هذا الدين ـ قضية اقتناع بعد البيان والإدراك ، وليست قضية إكراه وغصب وإجبار ، ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته ، يخاطب العقل المفكّر ، والبداهة الناطقة ، ويخاطب الوجدان المنفعل ، كما يخاطب الفطرة المستكنة ، يخاطب الكيان البشري كله ، والإدراك البشري بكل جوانبه ، في غير قهر حتى في الخارقة الماديّة التي قد تلجئ مشاهدها إلى الإذعان ، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يعقلها لأنها فوق قوى الوعي والإدراك ، وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحسّ البشري بالخارقة الماديّة القاهرة ، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا إقتناع)([16]).
ومن هنا كان قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } سؤالاً للإنكار ؛ فإنّ هذا الإكراه لا يكون ، فالإيمان متروك للاختيار لا يكره الرسول عليه أحداً ؛ لأنه لا مجال للإكراه في مشاعر القلب وتوجهات الضمير ، لذا كان من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية ( أتركوهم وما يدينون لهم مالنا وعليهم ما علينا)([17])؛ فلا تتعرض الدولة الإسلامية لغير المسلم في عقيدته وعبادته .
والقرآن الكريم إلى جانب تقريره حرية العقيدة قرر التعايش بسلم وقسط مع أولئك الذين يدينون بغير الإسلام مالم يحملوا السيف على المسلمين { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين}([18]).
وعلى هذا المبدأ درج المسلمون في معاملتهم وحروبهم مع أهل الأديان الأخرى إبان فتوحاتهم الإسلامية ؛ إذ كانوا يأذنون لأهل البلد المفتوح أن يظلوا على دينهم وأن يزاولوا شعائرهم التعبدية شريطة أداء الجزية ـ التي تؤخذ لقاء حمايتهم ـ ، وفي هذا يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في معاهدته مع أهل بيت المقدس عقب فتحه له: (هذا ما أعطى عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم ولكنائسهم وصلبانهم، لاتسكن كنائسهم ، ولاتهدم ، ولا ينتقص منها ولا من خيرها ، ولا من صلبهم ، لايكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم)([19]).
ويقول عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ في معاهدته مع المصريين بعد فتحه لمصر: (هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم ، لايدخل عليهم شئ من ذلك ولاينتقص)([20]).
كما أن اصطلاح القانون الإسلامي عليهم (بأهل الذمة) أساسه أن هؤلاء وهم يدينون بغير الإسلام يكونون في ذمة الله ورسوله وعهد المسلمين في حماية أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم وحرياتهم([21]).
ولقد ثبت هذا الحق في الإعلان الدستوري الذي أصدره النبي - صلى الله عليه وسلم -: عقب هجرته إلى المدينة المنورة ، حيث قال: ((لليهود دينهم وللمسلمين دينهم))([22]). وإنك لتلمس مستوى رفيعاً لحرية العقيدة في نمط التفكير الذي يذهب ببعض كبار فقهاء المسلمين كالإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ لأن يقرر حماية لحرية العقيدة ـ في مسألة إسلام أحد الزوجين غير المسلمين ـ أنه لايعرض الإسلام على الزوج الآخر ويسبب ذلك بأن في هذا العرض (تعرضاً لهم وقد ضمنا بعقد الذمة أن لانتعرض لهم)([23])، فهو يرى ـ رحمه الله تعالى ـ في عرض الإسلام على الزوج الآخر الذي لم يسلم شيئاً من التعرض له في حريته الفكرية ، أو قدرا ولو ضئيلا من إكراهه على الإسلام.
( يتبع ...)
([1]) انظر: غلاب، محمد: من كنوز الإسلام ، ص67 وما بعدها .. والعيلي، عبدالحكيم حسن: الحريات العامة، ص435.
([2]) سورة الغاشية الآيات (17 ـ 20).
([3]) سورة النحل الآيات (10 ـ 13).
([4]) سورة الذاريات آية (21).
([5]) انظر: غلاب، محمد: من كنوز الإسلام ، ص7
([6]) انظر: العيلي، عبدالحكيم حسن: الحريات العامة، ص 436.
([7]) سورة الأنعام آية (103).
([8]) سورة الشورى آية (11).
([9]) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير 3/263. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته 1/572، رقمه (2976)، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم (1788).
([10]) سورة البقرة الآيتان (219 ـ 220).
([11]) انظر: الوافي: حقوق الإنسان في الإسلام، ص220 وما بعدها.
([12]) سورة البقرة آية (256).
([13]) انظر: قطب، سيد: في ظلال القرآن 1/291.
([14]) سورة النحل آية (125).
([15]) سورة يونس آية (99).
([16]) قطب، سيد: في ظلال القرآن 1/291.
([17]) الكاساني: البدائع 7/100.
([18]) سورة الممتحنة آية (8).
([19]) الطبري، ابن جرير: تاريخ الملوك 4/108.
([20]) الطبري، ابن جرير: تاريخ الملوك 4/108. وابن الأثير، محمد بن محمد بن عبدالكريم الشيباني: الكامل في التاريخ 2/396.
([21]) انطر: البياتي: النظام السياسي ، ص128.
([22]) حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص61.
([23]) الزيلعي، فخر الدين عثمان بن علي: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2/974.