(1)
مفهوم الأمن بين اللغة والاصطلاح
الأمن: من أمن الرجل يأمن أمْناً وأماناً وأَمَنةً وإمْناً، أي: زال خوفه وشعر أنه لاخطر عليه([1]).
فأصل الأمن: (طمأنينة النفس، وزوال الخوف)([2]).
قال ابن سيدة: (الأمن نقيض الخوف)([3]).
وقال المناوي: (عدم توقع مكروه في الزمن الآتي)([4]).
ومنه: أمن الرجل يأمن أمانة: صار أميناً غير خائن، وهي أمنة، والجمع أمناء([5]).
وأمن البلد فهو أمين: إطمأن فيه أهله([6]) ، قال تعالى: {وهذا البلد الأمين}([7]).
آمن الرجل: صدَّق، وآمن الناس بأميرهم: صدقوه ووثقوا به([8]).
أمّن الرجل صاحبه على سره: جعله أميناً عليه، وأمّن الرجل أسيره: دفع عنه الخوف وأعطاه الأمان ؛ وهي الحماية، فهو مؤمِن وذاك مؤمَن([9]).
تأمّن الشئ يتأمن تأمناً: صار في أمن([10]).
استأمن الرجل إليه: دخل في أمانه([11]).
أمن الآمن: ضد الخائف، والجمع أمَنة، والأمنة: الأمن([12])، ومنه قوله تعالى: {أمنة نعاساً}([13])، ومنه ما جاء في حديث نزول المسيح عليه السلام (( وتقع الأمنة في الأرض)) ([14]).
قال الخليل: (الأمنة من الأمْن والأمان: إعطاء الأمنة)([15]).
قال ابن منظور: (والأمن والأمان بمعنى واحد؛ يقال: أنت في أمن من ذلك؛ أي: أمان)([16]).
وقال الأصفهاني([17]): (ويجعل الأمان تارة اسماً للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارة اسماً لما يُؤمن عليه الإنسان ، نحو قوله تعالى: {وتخونوا أماناتكم ...}([18]).
ومنه الأمانة: وهي ضد الخيانة([19]). والأمانة: هي الوديعة أو المال المودع.
والأمانة: كل مافرض الله تعالى على العباد([20])، ومنه قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال ...}([21]).
قال ابن فارس: (أمِن: الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان أحدهم الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها: سكون القلب، والآخر: التصديق، والمعنيان متدانيان)([22]).
من خلال تتبع الاشتقاق اللغوي للفظة الأمن، وجرياً على معاني الأمن ومدلولاته التي نوه بها الشرع الحكيم؛ نستنبط تعريفاً للأمن مفاده:
سكون القلب، وطمأنينة النفس بزوال الخوف مما هو آت، وانجلاء الحزن والأسى عمّا انقضى وفات.
العلاقة بين المفهوم اللغوي والشرعي للأمن:
بعد الوقوف على تصريفات لفظة "الأمن" ومعانيها ودلالاتها وفق تلك التصريفات، تبيّن أنه من المعاني التي تشملها لفظة "الأمن" وتندرج تحتها: زوال الخوف ، وانتفاء الخطر، واختفاء الخيانة والغدر، وسكون القلب بذلك وعدم التوجس خيفة من مكروه قادم، أو فزع داهم، وإنما حلول الثقة والطمأنينة ، وشيوع الرضا والسكينة.
فإذا كان ذلك كذلك؛ أن الأمن حالة واقعية تلقي بظلالها على الناس ؛ أفراداً وجماعات، فلابد لهذه الحالة من منهج تنبعث منه وتتسرب من خلاله ، فيشيع الأمن ويتكرس الأمان، ويتعزز الاطمئنان، وليس ذلك لمنهج سوى منهج الرحمن ، إذ بكنفه تأنس النفوس ؛ لتفسيره لمجريات الأحداث وسبره لغورها وبيانه لمراميها، مما يضفي على القلب مسحة من السكون بتبيينه لمآلات الظواهر والنوازل وفق ماهو مقدور، عندها لايُذْهب الإنسان نفسه حسرات على مافات من أمور، ولايتقطع فؤاده هلعاً وجزعاً من المخبوء والمستور، وإنما يُسْلم نفسه لمن بيده مقاليد كل شئ وإليه تصير الأمور.
كما جاء من المعاني اللغوية للأمن: التصديق والثقة ، وإظهار الخضوع؛ كذلك إن صدّق المرء بمنهج ربه بالجنان، ومنحه الثقة وأظهر خضوعه له باللسان ، وإذعانه وانقياده له عملاً بالشعائر والأركان، عندها تأتّى له الأمن، وتظّلل بواحة الأمان.
وجماع ذلك كله تلحظه في قوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلاخوف عليهم ولاهم يحزنون}([23]).
فهذه الآية القرآنية ـ إضافة إلى المعاني اللغوية للأمن ـ هي من مستند ومتكأ في تعريف الأمن من الوجهة الشرعية؛ إذ حوت الآية بين طياتها أقطاب الأمن وأطرافه وأزمانه من ماض وحاضر ومستقبل، فضلاً عن شموليته المستفادة من تنكير كلمة "خوف" رابطة ذلك كله بالمنبع الذي يفيض منه الأمن ويُستقى منه الأمان، ألا وهو هدى الله تعالى، فمن اتبعه فهو في مأمن في الدارين ، فلا خوف عليهم (من لحوق مكروه ولا هم يحزنون على فوات مطلوب)([24])؛ إذ قوله تعالى {فلاخوف} (نفي لجنس الخوف)([25]) و (هو الذعر ولايكون إلا في المستقبل)،([26]) {ولاهم يحزنون} (الحزن ضد السرور ولايكون إلا على ماضي)([27]).
ويلحظ المتبصر أن القرآن الكريم قد أظهر لفظ الهدى في قوله {هداي} مع أنه هو الهدى عينه في قوله تعالى {مني هدى} وذلك (اهتماماً بالهدى ليزيد رسوخاً في أذهان المخاطبين)([28]) وليوقنوا أنه لا أمن ولاأمان إلا باتباع هدى الرحمن، لأنه إذا كان الخوف ـ الذي هو نقيض الأمن ـ : (توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة)([29]) فإنّ هدى الله وفي أجواء تلك الأمارة المظنونة أو المعلومة يكشف الستار عن مغزى مايصيب الإنسان ويداهم ساحته، ويجلي له ثمرته، الأمر الذي يؤمِّن الخائف ، ويهدّئ روع الواجف، ويدرأ الغم والهم عن المحزون ، .. تستقرئ ذلك المغزى من آية صريحة تجدها في (الكتاب المكنون)([30]) أو خبر صحيح من أحاديث الصادق المأمون.
([1]) انظر: ابن منظور: لسان العرب، 4/178.
رضا، أحمد: معجم متن اللغة 1/207.
الكرمي، حسن سعيد: الهادي إلى لغة العرب 1/190.
أنيس، إبراهيم: المعجم الوسيط 1/28.
قبش، أحمد: المعجم الفيصل ص636.
([2]) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن ص90.
([3]) ابن منظور: لسان العرب، 13/21.
([4]) الزبيدي: تاج العروس9/134ـ135.
([5]) انظر: رضا، أحمد: معجم متن اللغة، 1/208. والكرمي، حسن سعيد: الهادي إلى لغة العرب، 1/190. أنيس، إبراهيم: المعجم الوسيط، 1/28.
([6]) أنيس، إبراهيم: المعجم الوسيط 1/28. وانظر: الجوهري، إسماعيل بن حماد: تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبدالغفور عطار5/2072.
([7]) سورة التين الآية (3).
([8]) انظر: أنيس، إبراهيم: المعجم الوسيط 1/28. وقبش، أحمد: المعجم الفيصل، ص636.
([9]) أنظر: الكرمي: الهادي إلى لغة العرب 1/190، رضا، أحمد: معجم متن اللغة 1/208. أنيس، إبراهيم: المعجم الوسيط 1/28.
([10]) أنظر: الكرمي: الهادي إلى لغة العرب 1/190ـ191.
([11]) ابن منظور: لسان العرب 13/22.
([12]) ابن منظور: لسان العرب 13/21، الكرمي: الهادي إلى لغة العرب 1/191، الزبيدي: تاج العروس 9/134، الجوهري: الصحاح 5/2071
([13]) سورة آل عمران آية (154).
([14]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، طبعة المكتب الإسلامي وبهامشها كنز العمال للألباني ، 2/406 ، والحاكم، أبوعبدالله محمد بن محمد : المستدرك على الصحيحين 2/595 ، وصححه ووافقه الذهبي. وابن بلبان، علاء الدين علي بن بلبان الفارسي: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، تحقيق : شعيب الأرنؤوط 15/234.
([15]) ابن فارس أحمد: معجم مقاييس اللغة تحقيق: عبدالسلام محمد مروان1/134.
([16]) ابن منظور: لسان العرب 13/21.
([17]) الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن ص90.
([18]) سورة الأنفال آية (28).
([19]) ابن منظور: لسان العرب 13/21، ابن فارس: معجم مقاييس اللغة 1/134.
([20]) انظر: ابن منظور: لسان العرب 13/22، الفيروز أبادي: القاموس المحيط 4/178، الكرمي: الهادي إلى لغة العرب 1/191، رضا،أحمد: معجم متن اللغة 3/208، إبراهيم، أنيس: المعجم الوسيط 1/28، قيش أحمد: المعجم الفيصل ص636.
([21]) سورة الأحزاب آية (72).
([22]) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة 1/134.
([23]) سورة البقرة آية (38).
([24]) أبوالسعود، محمد بن محمد العمادي: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم 1/114.
([25]) ابن عاشور، محمد الطاهر: التحرير والتنوير 1/442.
([26]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/329
([27]) المصدر السابق نفسه والصفحة.
([28]) ابن عاشور، التحرير والتنوير 1/442.
([29]) الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص303.
([30]) قال مجاهد وقتادة: (هو الكتاب الذي بين أيدينا). انظر: الشوكاني: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير5/197.