قصة" الدرس الأخير"
تأليف: ألفونس دوديه (1840- 1898)
ترجمة:د. محمد عبد الحليم غنيم
انطلقت إلى المدرسة متأخرا ذات صباح وكنت في رعب كبير من التوبيخ ، خصوصا وأن الأستاذ هامل ، قال أنه سيسألنا في المشتقات ، وأنا لا أعرف عنها شيئا، للحظة فكرت في الهروب بعيدا ، وأقضي اليوم خارج أسوار المدرسة ، فالجو اليوم دافئ والشمس مشرقة , والطيور تغرد على أطراف الغابة , وفيالساحة المفتوحة خلف ماكينة نشر الخشب كان الجنود البروسيون يتدربون. كل هذا بالنسبة لي كان أكثر إغراء من درس المشتقات . يبد أنه كان لدي العزيمة الكافية لمقاومة هذا الإغراء فأسرعت بالذهاب إلى المدرسة.
وعندما مررت من أمام ساحة البلدة وجدت زحمة أمام لوحة الإعلانات , طوال العامين السابقين والأخبار السيئة تأتينا من هذا المكان: مفقودو الحروب والتجنيد وأوامر الحاكم ، قلت في نفسي دون أن أتوقف
_ ماالذي يمكن أن يكون قد حدث الآن ؟
وعند ذلك- بينما أنا أجرى بسرعة - نادى على وتشور الحداد , الذي كان يقف مع صبيه يقرأ لوحة الإعلانات:
_ لا تسرع يا صغيري ما زال لديك الوقت الكافي للوصول إلى مدرستك في الموعد .
اعتقدت أنه يسخر منى، فوصلت إلى حديقة منزل الأستاذ هامل الصغيرة وأنفاسي تكاد تتقطع.
عادة عندما تبدأ المدرسة تكون هناك ضوضاء شديدة يمكن سماعها في "الشارع" , مثل فتح الأدراج وغلقها, وترديد الدروس
في نغم أحادى عال جدا , مع وضع الأيدي فوق الآذان ليكون فهمنا أفضل ومسطرة المدرس الكبيرة تضرب الطاولات , ولكن الآن هدوء تام, لقد كنت أعول على هذه الضوضاء لكي أتمكن من الوصول إلى طاولتي دون أن يراني أحد , لكن بالطبع كل شئ هادئ اليوم ,كما لو كنا في صباح يوم الأحد . عبر الشباك رأيت زملائي جالسين في أماكنهم والأستاذ هامل يتمشى في الفصل وتحت ذراعه المسطرة الحديدية المرعبة ،كان على أن أفتح الباب وأدخل أمام الآخرين، لك أن تتخيل مدى الخجل و شدة الخوف الذين كنت أشعر بها ! ومع ذلك لم يحدث شيء, رآني الأستاذ هامل وقال لي بلطف شديد:
_ ادخل بسرعة يا عزيزي فرانز كدنا نبدأ الدرس بدونك.
قفزت فوق الطاولات ثم جلست في مقعدي. في هذه اللحظة تغلبت على مخاوفي إلى حد ما , وأنا أرى أستاذي هامل في معطفه الأخضر الجميل وقميصه المسرفل وقبعته الحريرية السوداء الموشاة من الجانبين , الأستاذ هامل لا يرتدى هذا "اللباس" إلا في أيام التفتيش أواستلام الجوائز، فضلا عن ذلك تبدو المدرسة كلها غريبة وكئيبة ،ولكن الشيء الذي كان أكثر دهشة لي أن أرى في المقاعد الخلفية - والتي تكون دائما خالية - أناسا من القرية يجلسون بهدوء تام مثلنا: هوسر العجوز بقبعته ذات الأركان الثلاثة , والعمدة السابق , ومدير مكتب البريد السابق وبجوارهم آخرون . كل منهم كان يبدو حزينا, وكان هوسر قد أحضر كتاب مبادئ القراءة القديم ملوثة جوانبه وأمسكه مفتوحا فوق ركبتيه ومعه نظارته المعظمة,ملقاة فوق الصفحات . وبينما أنا أتعجب من كل هذا صعد الأستاذ هامل فوق مقعده وبصوته الوقور ذي الإيقاع الحنون, الذي أستخدمه معى , قال:
_ أطفالي هذا درسي الأخير أقدمه لكم , لقد جاءت الأوامر من برلين بأن أدرس للألمان فقط في مدارس الألزاس واللورين .غدا سيأتي لكم المدرس الجديد هذا آخر درس لكم في اللغة الفرنسية أريد منكم أن تنتبهوا جيدا .
مثل قصف الرعد وقعت هذه الكلمات على أذني .
أوه! يا للتعاسة . إذن هذا ما كان معلقا في لوحة الإعلانات !
درسي الأخير في الفرنسية.. لماذا؟ لقد عرفت بالكاد كيف أكتبها ،إذن سيتوقف تعليمي عند ذلك فقط .
أوه كم أنا حزين .. لن أتعلم دروسي! سأبحث عن بيض الطيور أو انزلق على مياه نهر السار أما كتبي التي كانت تبدو مزعجة منذ قليل, و ثقيلة جدا على الحمل : كتاب القواعد ، وكتاب الأولياء الفرنسيين القدامى فقد صارت الآن بمثابة أصدقاء قدامى لا يمكن التخلى عنهم , وأيضا الأستاذ هامل لن أستطيع أن أراه , فقد جعلتني فكرة أنه سيرحل إلى بعيد وإنني لن أراه إلى الأبد مرة أخرى . جعلتني هذه الفكرة أنسى كل ما كان من مسطرته وكيف أنه كان شخصا متقلبا !
يا للرجل المسكين!
إكراما للدرس الأخير يرتدي ملابس جيدة مثل ملابس يوم الأحد ، الآن فهمت لماذا كان يجلس الرجال الكبار في آخر الحجرة ، ذلك لأنهم حزانى جدا ، ولن يحضروا إلى المدرسة مرة أخرى ، إنها طريقتكم في التعبير عن تقديرهم لأستاذنا على خدمته المخلصة لمدة أربعين عاما ، ولكي يظهروا أيضا مجرد احترامهم للبلد التي ينتمون إليها لا أكثر .
بينما أفكر في كل هذا ، سمعت اسمي ينادى ، لقد حان دوري لكي أسمع الدرس . ماالذى يجعلني لم أمنح القدرة على قول تلك القاعدة المرعبة لاسم المفعول ، بطلاقة و بصوت عال واضح دون خطأ واحد ؟ ولكن الأمر اختلط علىً منذ الكلمات الأولى ووقفت ممسكا مقعدي وقلبي يدق من الخوف دون أن أجرؤ على رفع رأسيً ، عند ذلك سمعت الأستاذ هامل يقول لي :
ـ لن أوبخك يا عزيزي فرانز يكف شعورك بما أنت فيه من سوء ،تخيل ذلك ، كل يوم كنا نقول لأنفسنا ، ما زال لدينا متسعا من الوقت ، سوف أتعلم ذلك غدا ، والآن ها أنت ترى أين وصلنا ؟
آه ! هذه مشكلة الألزاس الكبرى إنها تؤجل التعليم حتى الغد ، اآن يحق لهؤلاء الرفاق في الخارج أن يقولوا ، كيف لكم أن تدعو أنكم رجال فرنسيون وأنتم لا تستطيعون أن تتحدثون أو تكتبون لغتكم ؟ ولكنك لست أسوأنا يا عزيزي فرانز المسكين كلنا يستحق أن يلوم نفسه ؟ لم يكن والداك حريصين بدرجة كافية على تعليمك ، فقد فضلا أن يرسلاك للعمل في مزرعة أو طاحونة ، لكي يحصلوا من وراءك على قليل من المال وأنا أيضا أستحق اللوم ، ألم أرسلك في كثير من الأوقات لكي تسقي الورد بدلا من أعلمك دروسك ؟ وعندما كنت أريد الذهاب للصيد لم أكن أعطيك إجازة ؟" واستطرد الأستاذ هاميل فى الحديث من موضوع إلى آخر ثم تحدث عن اللغة الفرنسية ، قائلا إنها أجمل لغة في العالم وأوضح لغة ، كما أنها أكثر اللغات منطقية ، ويجب أن نحافظ عليها ولا نفرط فيها أبدا ، لأن الناس إذا استعبدوا لمدة طويلة يسرعون إلى التمسك بلغتهم كما لو كانت بمثابة المفتاح الذي يخلصهم من السجن ، وعند ذلك فتح الأستاذ هامل كتاب القواعد وشرع يقرأ علينا , درسا وكنت مندهشا لمدى استيعابي وفهمي الجيد, كل ما يقوله بدا سهلا , سهل جدا , اعتقد أيضا أنني لم يسبق لي أبدا أن أنصت إليه باهتمام شديد هكذا , كما أنه لم يسبق له أن شرح كل شيء بصبر كبير مثل اليوم . يبدو أن المسكين كان يريد أن يعطينا كل ما يعرفه قبل أن يتركنا , وفي ذات الوقت يدخله في رؤوسنا دفعة واحدة . بعد القواعد أخذنا درسا في الكتابة , في ذلك اليوم أعطانا ورقة جديدة مكتوبة بخط اليد الجميل : فرنسا- الألزاس - فرنسا - الألزاس بدت الأسماء المكتوبة مثل أعلام صغيرة طائرة في كل مكان في غرفة الدرس وقد نزلت من الصواري فوق المقاعد . وكان عليك حينئذ أن تلاحظ مدى هدوء الفصل واستعداد الطلاب للعمل , فلم يكن يسمع أصوات عدا صوت احتكاك الأقلام بالورق .
في هذه الأثناء حلقت بعض الخنافس داخل الفصل ومع ذلك لم يعرها أحد انتباها , ولا حتى أصغرها , حيث كانت منهمكة تماما في تتبع فرائسها ,كما لو كانت هذه فرنسية أيضا . وفى الخارج على السطح كان الحمام يهدل بصوت خفيض, فقلت نفسي:
_ حتى الحمام! "هل سيعلمونه الغناء بالألمانية ؟"
كلما رفعت رأسي عن الكتابة وجدت الأستاذ هامل يجلس في مقعده دون حراك وهو يحدق في شيء محدد ثم ينتقل إلى شيء آخر كما لو كان يريد أن يثبت في ذهنه الذي الشكل صارت عليه حجرة الدراسة الصغيرة... رائع!
مند أربعين عاما وهو في ذات المكان حيث الحديقة خلف الشباك والفصل أمامه هكذا دون تغيير , فقط التخت والمقاعد صارت بالية وناعمة، وطالت أشجار جوز الهند في الحديقة , والتفت أشجار العنب ووصلت إلى السطح عبر النافذة . يا للمسكين لكم كان قلبه يعتصر حزنا لغراقه كل هذا ولسماعه أخته وهى تتحرك في الحجرة العليا , حيث تحزم الحقائب لأن عليهما أن يغادرا الوطن في اليوم التالي . ولكنه كان لديه الشجاعة لإسماعنا الدرس إلى آخره . وبعد درس الكتابة أخذنا درسا في التاريخ , وعند ذلك غنى الأطفال أغنيتهم :بي بي بو بو
وكان هوسر العجوز في آخر الفصل يضع النظارات على عينيه وكتاب مبادئ القراءة في يده , ويتهجى الحروف معهم , تستطيع أن تقول أنه كان يبكى أيضا، فصوته كان يرتجف بالعاطفة الجياشة ,وكان ممتعا جدا أن نسمعه ونحن نضحك ونبكى أه .. كم هو جميل أنا أتذكر ذلك. لقد كان الدرس الأخير وبعد ذلك مباشرة دقت ساعة الكنيسة الثانية عشر لصلاة البشارة وفي نفس اللحظة كان نافخو البوق من البروسيين عائدين من تدريبهم , وعند اقتراب الصوت من شباكنا ،قام الأستاذ هامل- وهو ممتقع الوجه جدا -من مقعده، لم أره أبدا من قبل طويلا هكذا , ثم قال :
_ أصدقائي .. أنا..
ولكن شيئا تحشرج في حلقه , فلم يستطع الكلام , وعندئذ استدار إلى السبورة ,وأخذ قطعة تباشير، واستجمع قوته وكتب بخط كبير جدا:
" عاشت فرنسا "
ثم توقف وأسند رأسه إلى الحائط ، ودون أن ينطق بكلمة ، حرك جسده وأشار بيديه نحونا ، وكأنه يقول : "انتهى اليوم الدراسي .. لكم أن تنصرفوا "
د. محمد عبد الحليم غنيم