حتى لا نصل الى الرضا بقول (الطلقة التي لا تصيب تدوِّش)
يسود الابتهاج والفرح أوساطاً شعبية واسعة في أرجاء البلدان العربية، نتيجة لثورتي الشعبين التونسي والمصري. فتونس، التي كانت مُستبعدة من احتمالية أن تبدأ شرارة التغيير من أراضيها نتيجة للصورة البعيدة التي رسمها المواطن العربي المراقب، بأن تلك البلاد تنعم بنمو اقتصادي مقبول ومتفوق نوعاً على غيره من البلدان العربية، إضافة الى قسوة القبضة الأمنية الشديدة للنظام هناك. أما مصر، فإن خبرة النظام بالتعامل في قمع أي تحرك مناهض، ولأهمية موقع مصر الإستراتيجي في المعادلات الدولية، فقد كان التغيير أو الثورة بمثابة حلمٍ غير قابل للتحقيق فيها.
لم يكتمل المشهد في تونس، لكي يُعلن المواطن التونسي أو حتى العربي فرحته رسمياً مما جرى في ذلك البلد. كما أن المشهد في مصر، رغم ضخامة (الزخم) الجماهيري المستمر، يحمل في ثناياه نتائج قد لا ترقى الى ما أفصحت عنه مظاهر الابتهاج العربي الواسعة.
تضخيم النتائج المرجوَّة قبل تحقيقها
خرج المحللون العرب وحتى أصدقائهم المتفائلين، من أن بداية عهد جديدٍ آخذة بالانتشار السريع، فأسس هؤلاء سيناريوهات مفرطةً في التفاؤل بأن هذا العهد سيؤدي الى وضع دساتير تضمن تداول السلطة بشكل طبيعي غير مُقنَّن، وأن حالة الخنوع التي استمرت زهاء قرن من الزمان ابتدأ منذ بداية نيل البلدان العربية لاستقلالها المحدود، ومَرَّ بحكم نُخب استولت على الحكم بتفاهم مع المستعمرين الراحلين، وامتهنت ترسيخ قواعد الحكم الذي يستند الى رضا المُحتل القديم، وانعدمت فيها الثقة بين الحاكم والمحكوم، مما جعل من شرعية تلك الأنظمة محل شكٍ وإشكال.
أما تلك الحكومات، التي جاءت تحت مسميات ثورية تارةً أو تحت مسمى الأحقية بممارسة الحكم، كونها هي آخر من قال كلمته قبيل خروج المحتل، فإنها هي الأخرى استلهمت من المُحتل الكيفية التي تجعل من شعوبها ترضخ بالقوة أو بالرضا، دون إثارة مشاكل.
ولو عُدنا للمفرطين في التفاؤل وسيناريوهاتهم، فإنهم يذهبون الى ما هو أبعد من ذلك، بأن الفساد المستشري في الأنظمة سيختفي، وأن إهانة كرامة الشعوب والأمة ستزول، وهذا يعني أن الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني ستسقط، وأن الشعب الفلسطيني سيحصل على حقوقه، وأن المستوطنين سيغادرون فلسطين، وربما سيتفكك الكيان الصهيوني ويرحل.
التمعن في الوجه طويلاً سيفقده ملامحه الحسنة
جميلٌ، هو منظر الملايين يهتفون ويثابرون على صمودهم. لكن لو سُئل أحدنا أو أحدهم: من أنتم؟ أو من هُم؟ لكانت الإجابة مضطربة جداً. سيقول أحدهم: نحن أبناء الشعب الذين لاقينا الويل والثبور، ونرى سرقة وبيع ممتلكاتنا للصوص تنعم بممتلكات الشعب بحماية قوانين تضعها (هي) وتضمنها دوائر إمبريالية وصهيونية عالمية، نريد الانتهاء من هذا الوضع!
سيقول أحدنا: وماذا في تلك الإجابة من اضطراب؟
ليس بتلك الإجابة من اضطراب، على الأقل ممن يتفق مع تلك الإجابة..
لكن، لو تبعها طلبٌ آخر، هاتوا من يمثلكم لكانت ملامح الاضطراب واضحةً..
أحد الذين يتكلمون باسم الإخوان المسلمين، يقول: نحن القوة الأكثر تنظيماً والأجدر بتمثيل هؤلاء، لأننا خبرنا التعامل مع النظام. ولم ينس هذا المتكلم من تقليل شأن حركة (كفاية) و(6 أبريل/نيسان) وغيرها...
وفي يومٍ ثانٍ يخرج متكلم آخر باسم الأخوان المسلمين، بالقول: نحن لا نطمع بالحكم ولن نزاحم الآخرين على الصدارة!
يخرج الدكتور (البرادعي) لينفي ما نُسب عنه أنه لن يترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، ويؤكد أنه ليس لديه مانع من الترشح!
وتخرج عشرات اللجان التي تسمي نفسها (باستعلاء عفوي)ب (لجنة الحكماء)...
هذا الاضطراب يقودنا الى التعرف على ما يقوله خبراء دوليون.
خبراء روس لا يبرءون أمريكا وبريطانيا!
رغم ضخامة الحدث وعفويته بما يجعله مفخرةً للأجيال الحالية والقادمة، فإن نظرية المؤامرة لا تغيب في هذا الوقت عن المشهد! والمرة هذه ليس من أبناء الأمة العربية، كما اعتادوا، بل تأتي من خبراء أجانب...
يتساءل الدكتور (سيرجي بيلتشينكو) الخبير الروسي الإستراتيجي: لماذا تتوافق تلك الأحداث في تونس ومصر بمدة متقاربة؟ إنه لا يبرئ الغرب من التهيئة لتلك الأحداث، ويستند هذا الخبير الى وثائق (ويكيليكس) التي كشفت أن الإدارة الأمريكية دعمت حركة 6 أبريل/نيسان بالمال واستضافت قياداتها في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تعلم أن عام 2011 سيشهد اضطرابات كبيرة في تونس ومصر، ولكنها لم تخبر إدارتي الدولتين، حتى لا تأخذ حذرهما!
ومن جانب آخر فإن بريطانيا ليست بعيدة عن التدخل، حيث ساهمت تلك الدولة بشيطنة النظام المصري إعلامياً، وأعدت رجلها الذي يتشبه بغاندي في سلوكه المسالم (الدكتور محمد البرادعي) لتنافس الولايات المتحدة على وضع قدمٍ لها في مصر، خِشية من تغير لصالح الولايات المتحدة، والذي سيؤدي بالتالي لهروب أموال الخليج التي تدفق على بريطانيا دون غيرها فيما لو حدثت التغييرات على المقاس الأمريكي!
ارتفاع كُلَف الأنظمة الموالية لأمريكا والغرب هي وراء غض نظرها...
لا يمكن التسليم بنظرية المؤامرة التي ساقها الخبير الروسي وأمثاله، كالدكتور (وليد عربيد) أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، والذي أضاف عليها فكرة المصلحة الأمريكية، هي ما كانت وراء تحرك الولايات المتحدة..
لو عُدنا لمفهومي (العولمة: أو الأمركة) ومفهوم الفوضى الخلاقة، لرأينا أن الشركاء (أو الوكلاء لأمريكا) في المنطقة، يبالغون في نهب ثروات شعوبهم، مما يجعل حصصهم أعظم بكثير من حصة أمريكا نفسها. وهم بذلك يخلقون بيئة تساعد في ظهور من يناهض ويعادي مشاريع الولايات المتحدة.
من هنا، فإن أمريكا بخلخلتها تلك النُظم، تدرك جيداً أن ما ستؤول إليه من نتائج لا تكون مقلقة للحد الذي يتصوره البعض، وستأخذ تلك الشعوب زمناً للاستقرار السياسي وتنظيم نفسها بما يجعل منها خطراً غير متوقع!
باختصار، فإن أمريكا والدول الغربية، استقرأت الواقع العربي، وعلمت حجم الاحتقانات الموجودة فيه، وحتى لا تكون التغيرات لغير صالحها، حاولت التواصل أو تجميل فكرة الهبات الجماهيرية، علَّ وعسى أن تكون تلك الفوضى لصالحها من خلال تنطع عناصرها أو من لا يضع فيتو على التعامل معها ووصولها الى سدات الحكم. وعندها تتخلص من شراهة وكلائها وتضيع عدة سنوات في ترتيب الوضع الداخلي لتلك الدول.
خاتمة
سيهزُّ أكثر من واحدٍ كتفيه، ويقول: إن هذا القول هو تقزيم للثورات الشعبية!
كلا! ليس تقزيماً للثورات الشعبية المباركة، ولكنها همسة بأذن كل وطني من كل طيف سياسي أن يقف الى جانب نفسه، بنبذ محاولة الاستكبار على شركاءه في الرفض، والتوجه لإعداد مواثيق تحمي تلك الثورات.
وإلا سنكتفي بالقول: (الطلقة التي لا تصيب تُدْوِّشْ)!