العرب قراطية
نشر على الجزيرة نت
عبد الستار قاسم
1/آب/2013
شعار الديمقراطية مرفوع في أنحاء الوطن العربي، ويرفعه من يؤمنون بضرورة تطبيقها، وكذلك من لا يؤمنون بها عسى أن توصلهم إلى الحكم، وأيضا من لا يعرفون شيئا منها عساها تكون القوة الخفية التي تنجيهم من جحيم الدنيا الذي يصنعه حكام العرب. أما الغرب فلا يتوقف عن تشجيع العرب على إقامة الديمقراطية وتبنيها كنظام حكم حديث يخرج الإنسان من ظلمات القهر إلى أنوار الحرية، وتبني الرأسمالية معها لتكتمل حلقة الثقافة والفكر الغربيين على أعناق العرب. سار العرب من شعار إلى شعار وذلك تبعا لتعاقب الحقب الزمنية أو أنماط الهزائم والتراجع والتيه والضياع. تشهد هذه الفترة شعار الديمقراطية في انتظار شعار آخر ربما لن يطول قدومه نظرا لفشل جهود الدمقرطة.
العرب قراطية بدل الديمقراطية
وصلت الديمقراطية إلى بعض الأنحاء العربية، وجرت انتخابات للمجالس المحلية في الجزائر عام 1992، لكن النتائج لم ترق للجميع، فقام من لم ترق لهم بالسيطرة عسكريا على البلاد وألغوا نتائج العملية الديمقراطية، وتسببوا باقتتال داخلي حصد آلافا مؤلفة من النفوس. وجرت انتخابات في فلسطين انتهت بفوز حماس، لكن فتح ومن حالفها على المستويين العربي والغربي لم يقبلوا النتائج، وانتهت الأمور إلى اقتتال داخلي، وقيام حكومتين فلسطينيتين إحداهما في قطاع غزة المحاصر، والأخرى في الضفة الغربية المحتلة. والآن جاء دور العسكر في مصر التي ظهر فيها أول رئيس منتخب في تاريخها.
لم يكن مشهد رفض نتائج الانتخابات بعيدا عن العراق، إذ علت أصوات بضرورة إسقاط المالكي الذي تولى منصب رئاسة الوزراء نتيجة عملية ديمقراطية، وليس بعيدا الآن عن تونس حيث يتم جمع تواقيع لتجاوز نتائج الانتخابات الديمقراطية. وقد شهدتُ انتخابات لمجالس ومنظمات وجمعيات عربية على النمط الديمقراطي، وشهدتُ كيف يجتمع الخاسرون في ذات ليلة إعلان النتائج لتشكيل جسم مواز للجسم الذي فاز من أجل عرقلة عمله وإفشاله.
تشهد الساحة العربية عملية ديمقراطية يوم الانتخابات، لكنها تنقلب بعد ذلك إلى عرب قراطية والتي أعرّفها بالقبلية والحزبية التعصبية التي تلتف على المعايير الديمقراطية للمحافظة على التوازن القبلي السائد على المستويين الاجتماعي والسياسي، وتدفع نحو مزيد من التمزق السياسي والاجتماعي والتدهور الأخلاقي.
القبلية والديمقراطية
جزء كبير من الناس في الوطن العربي يتمنى أن تتطور الديمقراطية في بلاد العرب، وأن يبدأ الناس بتنفس الحرية بعد تطبيقها، لكن لا يبدو أن العقلية العربية القبلية وما يترتب عليها من سلوكيات جاهزة لمثل هذا النظام السياسي. تقول التجربة "أنا أريد ديمقراطية شريطة أن أفوز أنا، وأن الديمقراطية ليست ديمقراطية إذا فاز غيري. إما أفوز، أو أخرب على من يفوز". هذه بالضبط هي العقلية القبلية التعصبية التي لا ترى في الآخرين مركز زعامة أو قيادة، وهي مستعدة دائما للقتال والفساد والإفساد من أجل أن تبقى هي في صدارة العالمين.
العقلية القبلية التعصبية لا تقبل الآخر، ولا تعترف به إلا إذا كان تابعا، وهي تعزو الخير لنفسها دائما، ولا يصيب الناس خير إلا بفضلها؛ أما الشر فهو من الآخرين الذين يتآمرون، أو بفعل قوى شيطانية تطعن بالظهر وتسعى للفتن. لكن هذه العقلية انهزامية وعدوانية وانتهازية فلا تجرؤ على مقارعة الغزو أو الهيمنة الخارجية، وتتربص دائما للإيقاع بالآخرين والسطو على حقوقهم، ولا تترك فرصة مهما كانت دنيئة إلا وتستغلها لمصالحها. إنها عقلية جبانة لا تؤمن بالعمل العام ولا بالصالح العام، ولديها الاستعداد أن تحني رقبتها أمام الأجنبي من أجل أن تطغى على خصومها الداخليين.
وقد سبق أن تم إبراز هذه النقطة فيما يتعلق بفلسطين والحكام العرب إذ أنه لا يمكن أن يقف الحكام العرب أو حتى القيادات الفلسطينية العلنية مع الحق الفلسطيني لأن مصلحة القبيلة أو الزمرة الحاكمة مرتبطة مع ذلك العدو الذي يتحالف مع إسرائيل ويثبّت لها حكمها وزعامتها. الوقوف مع فلسطين يحتاج إلى تضحية، والتضحية في مواجهة العدو الخارجي ليست واردة في القاموس القبلي التعصبي. القبليون مستعدون دائما لأن يكونوا عبيدا لمن يوفر لهم الزعامة داخل مجتمعاتهم.
فهل يمكن لنظام سياسي يؤمن بالصوت الواحد الحر لكل مواطن حر أن يطغى على عقلية قبلية بسهولة؟ العقلية القبلية متناقضة تماما مع العقلية الديمقراطية إلى درجة أن المشرفين العرب على المؤسسات الديمقراطية التي بناها الغرب الديمقراطي في الوطن العربي للترويج للنظام الديمقراطي يمارسون الاستبداد القبلي داخل هذه المؤسسات.
القوى الخارجية والعرب قراطية
لا تغيب الدول الغربية وإسرائيل عن التدخل في الشؤون الداخلية للعرب، وهي تعمل دائما على الهيمنة، والحرص على وجود أنظمة وحكومات تقبل الانصياع والتبعية. العديد من الأنظمة العربية تم تنصيبها أصلا من قبل بريطانيا، وهي الآن تحت رعاية الولايات المتحدة، ولا تستطيع أن تخالف الأوامر أو التمرد لأن ذلك سيكلف الحاكم حكمه. وأيضا هناك دول عربية لا تستطيع الوقوف على أقدامها بدون الدعم المالي والاقتصادي الغربي، وهي بالتالي ليست إلا ذيلا لمن يدفع المال، ومستعدة دائما للعمل لمصلحة إسرائيل حتى لو كان كلامها العلني ضدها ومنتقدا لسياساتها.
الغرب يفضل العمل مع قبائل عربية وزعماء قبليين لأنه يعي تماما انتهازية العقلية القبلية ورغبتها الجامحة في العلو الداخلي ولوعلى حساب مصالح الوطن والمواطنين. هم يبحثون دائما عن قادة منحدرين من عائلات متنفذة تقليديا، ويعملون على ترويض من يصلون إلى النفوذ بدون رصيد قبلي. وما أعنيه هنا أن الغرب وبالأخص الولايات المتحدة لا يريد إقامة ديمقراطية حقيقية تستند إلى إرادة الشعب، وإنما يسعى إلى دفع العرب لممارسة سلوك ديمقراطي يفضي إلى اختيار من يرضون عنهم من المرشحين، وإلا فإنهم يؤيدون التخريب والتخلص من الفائزين. وإذا كان منا من يظن أن الغرب مع إقامة ديمقراطية فإن عليه أن يراجع سجل المواقف الغربية من نتائج صناديق الانتخابات العربية. الولايات المتحدة ومن معها من الغربيين مع العرب قراطية التي تبدو من بعيد على أنها ديمقراطية.
الإسلاميون والعرب قراطية
واضح أن الإسلاميين يفوزون في الانتخابات، ومن ثم يتعرضون للانقلابات، ويصعب عليهم بعد ذلك استعادة ما يخسرون. هناك من يفسر الأمر على أنه عداء للإسلام، لكنني أرى أن المسألة متأصلة في الثقافة العربية، وأن العداء قد يكون للإسلاميين وليس بالضرورة للإسلام. أي أن التمرد على نتائج الانتخابات ليس مقتصرا على حالة فوز الإسلاميين، وإنما متوقع أن يحصل في حال فوز غيرهم. في هذه المرحلة التاريخية، لا يوجد أحزاب أو تنظيمات قوية تتحدى الوضع السلطوي العربي ومرشحة للفوز في الانتخابات غير الإسلاميين، وبالتالي من المتوقع تحدي فوزهم من قبل السلطات المنهارة وتلك القوى التي تتمنى أن تحل محل الاستبداديين المسيطرين. هناك عداء مبدأي للإسلام من قبل بعض الناس، لكن أعدادهم وقوتهم لا تصل درجة القدرة على قلب الأمور على نتائج الانتخابات وفرض واقع جديد غير انتخابي، والعداء الذي نراه على أرض الواقع موجه ضد الحركات الإسلامية والإسلاميين أكثر مما هو موجه ضد الإسلام.
لا يختلف الإسلاميون في عرب قراطيتهم عن غيرهم، وهناك العديد من المؤشرات حول تحوصلهم القبلي أذكر منها:
1- الإسلاميون يحتكرون الحقيقة في كل خطابهم السياسي والأخلاقي، وهم بالتالي يحتكرون الجنة، ويتهمون الآخرين بالضلال أو الفسق او الكفر، الخ.
2- ينعزل الإسلاميون عن المجتمع الأوسع، ويفضلون البقاء ضمن حلقاتهم الاجتماعية والدينية الخاصة بخاصة في المسجد أو الجمعية الخيرية، وينغلقون إلى حد كبير عن مختلف فئات الناس الأمر الذي يعطي انطباعا غير مريح عن تلك الدولة التي يسعى الإسلاميون إلى إقامتها.
3- يتعصب الإسلاميون لأنفسهم، ويقفون أحيانا كثيرة مع أعضاء جماعاتهم حتى لو كانوا على باطل، وهم على استعداد لتجاوز المبدأ الإسلامي لصالح أخوة الجماعة الخاصة.
4- ينحاز الإسلاميون ضد المرأة، ويوظفون جهودا كبيرة لإبعادها عن القيام بالتكليف الإسلامي المنصوص عليه في القرآن الكريم، وهم يحاصرونها بالتقاليد العربية على حساب المبادئ الإسلامية التي فتحت أمامها مجالات العمل والنشاط والتفاعل مع مختلف فئات المجتمع.
5- الفئات الإسلامية المختلفة غير قادرة على التوحد، وبعضها يكفر أو يفسّق البعض الآخر ويصفه بأشد العبارات سوءا. وإذا كان بعض الإسلاميين يكفرون إسلاميين، فكيف يمكن أن يصنعوا بمن هم من غير الإسلاميين؟
6- تعطي الفئات الإسلامية انطباعا بأن الإسلام دين فتنة وذلك بسبب انشغال العديد من الإسلاميين بالفتنة بخاصة بين الشيعة والسنة، وأيضا بسبب أعمال القتل والتدمير التي تطال الناس العاديين والأهداف المدنية ودور العلم والعبادة.
7- يثير الإسلاميون الآخرين في حديثهم عن إقامة دولة دينية تطبق بعض أحكام الحلال والحرام، في حين أنه لا يوجد في الإسلام تدين ودولة دينية، وإنما هناك إيمان ودولة عدل تقيم العدل بين كل الناس. يتحدث الإسلاميون حول قطع يد السارق وظهور شعر المرأة في حين لا يركزون على العناصر التي تقيم أمة وهي العلم والعمل والجهاد بمختلف أشكاله والإطار الأخلاقي الذي يجمع هذه العناصر معا.
الخروج من العرب قراطية
يخطئ من يظن أنه من الممكن استيراد الديمقراطية وتطبيقها بنجاح في مجتمع قبلي. الديمقراطية نتاج مخاض تاريخي واجتماعي طويل في العالم الغربي، وهي نتيجة لتجارب طويلة ومآسي وأحزان وحروب وصراعات، ولم تكن مجرد تمرين ذهني أقبل عليه الناس فاتفقوا وتحولت حياتهم إلى نعيم. الأمم هي التي تصنع تاريخها، وحاضرها لا يمكن أن ينفصل عن تطورات الماضي، كما أن حاضرها يرسم لها ولو جزئيا مستقبلها، وإذا كان للعرب أن يخرجوا من مأزق التخلف والاستبداد والفتنة فإن أمامهم إما التفكير معا بروية وهدوء أو تحمل الصراعات الداخلية ونزيف الدماء وتدمير المنشآت. لا العرب ولا غير العرب يستطيعون استيراد أنظمة أخلاقية وسياسية وثقافية بنجاح، وكل من يحاول لن ينجح. يمكن للعرب أن يستفيدوا من تجارب الآخرين، لكن نهوضهم الحضاري والإنساني والأخلاقي لا يمكن أن يتم إلا من الداخل، اي تطوير البناء الثقافي والديني والاجتماعي العربي لصالح بناء جديد لايلقي بالحضارة العربية الإسلامية جانبا ويتجاوب مع متطلبات المرحلة التاريخية التي تشهد ثورات علمية وتقنية.
الخروج من العرب قراطية يتطلب الخروج من العقلية القبلية، وإذ كان لنا استرجاع الأفكار العربية الإسلامية فلا يوجد أداة للقضاء على القبلية أكثر فعالية من الإسلام. الإسلام يرفض التعصب والعصبية، ويرفض قبلية الرهبنة والكهنوتية، ويرفض التدين، ويقيم مجتمع إيمان مستند إلى قيم أخلاقية واضحة من شأنها إقامة العدل بين الناس دون تمييز بين ذكر وأنثى وأبيض وأسود ومسلم ومسيحي.
القبلية راسخة في السلوك العربي، وقد نجحت في لي ذراع الإسلام بطريقة تجعل أركانها مقدسة وكأنها جزء من التشريع الإسلامي، ولا يمكن للفكرة الإسلامية أن تنهض إلا إذا تغير التدريس الديني القائم على الانغلاق والرهبنة والأساطير الغيبية وبعض قضايا الحلال والحرام، وانطلق نحو الفكر الإسلامي الذي يستند إلى قضايا الحق والباطل والتي لا تنتعش إلا بالتفكير العلمي والبحث العلمي. من الممكن للفكرة الإسلامية أن تطغى على التدريس الديني القائم الآن، وأن تحدث تغييرا تدريجيا في فهم الناس حول إقامة العلاقات العامة، والتعامل فيما بينهم.
هناك من يرى في الإسلام شرا مستطيرا ومستعد لمحاربته، وهناك من يصنع من الإسلام شرا مستطيرا ينفر الناس منه، ولذلك من المهم تفعيل الفكر الإسلامي (وليس الفقه الإسلامي) إذا كان كان للعقل العربي أن يأخذ مكان البندقية، وإذا كان للتقدم والبناء أن يلتف على التخلف والدمار.