هيستيريا فلسطينية
سوسن البرغوتي
أراد البعض ركوب موجة ثورات البلاد العربية فأدخل الساحة الفلسطينية فيها، دون مراعاة لعدم وجود مقاربة مع أي قطر اندلعت فيه الثورة، وعدم الأخذ باعتبار أن تلك البلاد ليست محتلة ولا تواجه أعاصير الترحيل والتهويد والإلغاء منذ 63 عاماً، وأن السلطة لا تمثل نظاماً، بل لا تعدو أكثر من هيكلية جوفاء شُكلت بموافقة الاحتلال بعد اتفاق أوسلو، لتحمل أعباء العمل البلدي لتسيير الحياة اليومية للناس، وتريح الاحتلال منه!.
هذا كل ما بالأمر، فلا دولة ولا حتى مقاطعة حرة مستقلة. ولكن طُورت أجهزتها الأمنية أمريكياً وصهيونياً لتمارس دورها الفعال في حماية الاحتلال وضمان أمنه من "المخربين.. الإرهابيين!" الفلسطينيين، مع تجاهل تنظيم أوسلو، تشييد الجدار العازل وتهويد القدس وتقويض أساسات الأقصى.. ودون أن يتحرك لهم جفن، وكأنهم صم بكم لا يفقهون!.
محاولة أخيرة لما يسمى (توحيد شطري الوطن)، واختزال فلسطين بالضفة وغزة، تخوض غمارها السلطة وتنظيمات منظمة التحرير، وليست بأي حال بوضعها الحالي، تمثل كل الشعب الفلسطيني، وليست شرعية، وكل ما يصرحون به، سواء أكانت فتح السلطة أو تنظيمات تلك المنظمة، فهي ليست مخولة من أحد، ولا يحق لأكبر رأس فيهم أو غيرهم، أن يتنازل عن سنتمتر واحد من أرض فلسطين.
بدأت اصطفافات تنشط مجدداً جلها من يسار المنظمة، أو المحسوب على برامج "البدائل" بقناع الاستقلالية، ترفع شعار (إنهاء الانقسام)، وفصائل المقاومة ترفع ذات الشعار، وكل إلى ما يذهب إليه. حتى أن حماس دعت عباس للمصالحة، ورمت طوق نجاة له، بعدما سقطت ورقة القاهرة، واقترب رفع الحصار عن القطاع، بهمة ثوار وثورة مصر!. ومن المفترض، أن حماس بموقع أفضل من السابق، لكن من باب مهاودة الشباب ونزولاً عند رغباتهم، عادت لتُخلط الأوراق ثانية، وتقبل بسلطة أوسلو ثانية، مما استدعى تحركاً سريعاً لقوى يسار المنظمة، وفي مقدمتهم الجبهة الشعبية، التي كانت قد أعلنت تجميد، تعليق، توقيف عضويتها باللجنة التنفيذية، واليوم تجدد تمسكها بـ"شرعية المنظمة كممثل وحيد وشرعي للشعب الفلسطيني"، لتطالب وتتمسك (بعقد مؤتمر دولي كامل الصلاحيات بحضور الأطراف المعنية لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، إطاراً وحيداً للمفاوضات بعد اتضاح حقيقة الأهداف التصفوية لنهج مدريد – أوسلو وتوظيفه لخدمة الإستراتيجية الأمريكية و"الإسرائيلية" في المنطقة والتغطية على حل الأمر الواقع الصهيوني). وفي الوقت الذي لم نزل نعاني من تنازلات وتفريطات المنظمة (الشرعية)، تدعو الجبهة إلى استنساخ مؤتمر دولي آخر، بهدف التعايش مع العدو، ليس إلا، ومن الطبيعي أن تحضر (الأطراف المعنية) هذا المؤتمر، فأي لغة خداع هذه تُستخدم، والمشروع الداعون له لا ولن يخرج من طوع وإدارة الحليفين الإستراتيجيين. فكل القرارات الدولية، لم تنصف شعباً ولم تنحز إلى حريته، بل ساوت بين الغزاة والقتلة والمستبدين والطغاة، مع الشعب المحتل والمسلوبة حقوقه، والمغتصبة أرضه.
إن العودة إلى نغمة مؤتمر للدخول بنفق تسووي آخر، ما هي إلا مهزلة تافهة وحمقاء للدخول بنفق آخر مع عدو الأمة العربية والإسلامية، لإيجاد حل يرضي الكيان الصهيوني، والتذلل له واسترضائه كونه (الطرف الآخر) الأقوى، فما الذي سيتغير في مشهد مستنقع وحل أوسلو؟!، اللهم إلا فرض رؤية تختلف عن "حل الدولتين" وتتفق مع مبدأ التسوية والمفاوضات، دون إخراج المستعمر من فلسطين!.
بيان آخر يتزامن مع تصريح الجبهة الشعبية، ويعرض متأرجحاً لتعزيز شعار (إنهاء الانقسام)، وتماهياً مع مطالب السلطة يقوم على أساس أنهم يجددون دعمهم للشباب في الوطن والمنافي من أجل تواصل التحرك، والاعتصام والتظاهر والتعبير بكل الوسائل المشروعة والقانونية، حتى تحقيق أهدافهم، وأهداف الشعب في إنهاء الانقسام والمصالحة على أساس وثيقتي القاهرة والوفاق الوطني، وتحقيق الوحدة الوطنية وبناء النظام الفلسطيني الديمقراطي.. وجلهم من ذات نغمة يسار المنظمة والمحاطين والمسترزقين من السلطة، ليحددوا أهداف الشعب كله، وليس هم، وكأن الشعب الفلسطيني، منحهم توكيلاً أو تفويضاً ليتحدثوا باسمه، ويحددوا الأسس التي يطربون لها، مستبعدين المقاومة والتحرير لكل الأرض، مما يعني اجترار ما ثبت قطعاً أنه ساقط وفاشل، وبالتالي ما ثبت باطله، جبّ سابقه!.
ثم لا ندري هل فلسطين تحررت، حتى يبنوا نظاماً فلسطينياً وأين هذا النظام سيُبنى، أم أنهم اعتمدوا تنظيم أوسلو، نظام سياسي لكل الشعب، ويعاودون البصم، باسمه بمشروع تخريبي آخر. نستغرب فعلاً الهبّة المصطنعة والمفاجئة، ويتحدثون عن حقوق الإنسان والديمقراطية، ويتغاضون عن انتهاك حقوق الصحفيين والمجاهدين والنساء في سجون السلطة، وملاحقة كل من ينطق بحقه بمقاومة المحتل، ويتشدقون عن الديمقراطية، التي غابت منذ الانتخابات التشريعية، وقوضوا كل خطوة للتلاقي والتوافق على مرجعية وإستراتيجية ثابتة للتحرير الشامل.
مفاجأة سريعة، شروع من يطلقون على أنفسهم التحضير لزيارة رأس الأفعى، الذي أهان الشعب وتنازل عن 80% من فلسطين، وساهم بحصار القطاع لمدة خمس سنوات، ليعفوه عما سبق، ولتحضن الأذرع "الفاتح" بأمر الاحتلال. مهلاً.. مهلاً، كيف سيلتقي النقيضان وعلى أي أساس؟ تحرير فلسطين كلها فوقكم جميعاً ولا استثناء لأحد، من يريد التفريط والتنازل، فليتحدث عن نفسه، وليكشف عن نواياه، أما فلسطين، فليست ملكاً لكم، ولا لاصطفافاتكم وحساباتكم الخاصة المشبوهة!.
فلسطين من البحر إلى النهر، ملك للأمة العربية والإسلامية، فاستفتوا أحياءهم وأمواتهم وشهداءهم، إن شئتم، ولكننا لن نصالح، ولن نعترف ولا نريد دولة، قبل التحرير، وما سلبه العدو بالقوة، سيُسترد بمثلها، وسيلعن جيل التحرير، كل من تهاون وخان عهد الله والوطن. فإن لم تكن المصالحة على أساس استرجاع المنظمة المسروقة وإسقاط أوسلو وسلطتها، واعتماد المقاومة إستراتيجية ثابتة، والقانون الفلسطيني الثابت دون تحريف ولا تدجيل وتدليس، فلا خير يُرتجى من هيستيريا تعصف بما تبقى من الحق والأرض.