حلقة أخرى من كتابى: "من كُتَّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد- محطات على مسيرتى الروحية"
د. إبراهيم عوض
وقد اعتمرتُ، والحمد لله، مرارا أنا وزوجتى وابننا وبنتنا، ثم سلوى أيضا بعد أن هلت على الوجود، عندما كنت أعمل فى جامعة أم القرى (فرع الطائف)، وإن كان هناك من يفوقوننى فى عمل العمرة كثيرا جدا من زملائى المصريين فى مدينة الطائف، التى لا تبعد عن مكة سوى تسعين كِيلاً أو نحو ذلك، إذ كان بعضهم يؤديها كل أسبوع تقريبا، فى الوقت الذى أديتها أنا وأسرتى بمعدل عمرة كل ثلاثة شهور. كما حججت ثلاث مرات أنا وزوجتى والأولاد. ومن المؤكد أن قلة تكاليف الحج بالنسبة لنا حين كنا نسكن "الطائف المأنوس" حسب تسمية بلدية تلك المدينة لها فى اللافتات المنشورة على الطريق قرب مداخلها لها دخل فى ذلك. وقد وهبْنا ثواب الحج الزائد أنا وزوجتى وابناى الكبيران لأبى وأمى وجدتى ووالدَىْ زوجتى. رحم الله الجميع، وألحقَنا بهم على خير. وأحب ألا تفوتنى الفرصة لأبين للقراء أن استقامتى الجنسية هى، فى جانب منها، راجعة إلى لطف الله بى إذ لم يضعنى فى موقف حرج كان يمكن أن تزل فيه القدم، وإن كان ما أعرفه من شخصيتى "يخيِّل لى" أن خشيتى من المجتمع وكراهيتى أن يلوك الناس سمعتى ورفضى فعل شىء يسىء إلى عِِرْض الآخرين مما أبغضه لنفسى كان كفيلا بتقوية عزيمتى فى مواجهة الإثم لو ضَعُفَ الوازع الدينى. فالحمد لله على بره بى ولطفه معى، وأبتهل إليه سبحانه أن يدخلنى الجنة بكرمه ورحمته دون حساب أو عقاب أو عتاب كما أدعوه فى كثير من الأحيان.
ومن عجائب الأقدار أن جدتى ظلت على قيد الحياة إلى أن انتهيتُ من دراستى فى طنطا ثم انتقلتُ إلى التعليم الجامعى فى القاهرة ثم تخرجتُ ومعى ليسانس اللغة العربية وآدابها. وهنا، وبعد تخرجى واستقلالى بنفسى، توفاها الله تعالى، فكأنه قد تركها لى كى تؤدى هذه المهمة ثم تغادر الحياة بعد أن تنتهى من مهمتها الربانية. ولم أتمكن للأسف أن أرد لها شيئا من جميلها، اللهم إلا أننى اشتريت لها طرحة وحذاء بسيطا عُقَيْبَ تخرجى، فدعت لى كثيرا بفرحة عجيبة وكأنى اشتريت لها الدنيا جميعا ناسية أنها صاحبة فضل عظيم علىَّ لا يمكننى، مهما صنعت لها، أن أوفيه أبدا. وكلما تذكرت تهلُّل وجهها وهى تدعو لى أحسست باطمئنان، وعزوت ما أنا فيه من ستر ويسر إلى دعوتها الكريمة لى، أكرمها الله تعالى برحمته وبره ولطفه.
والغريب أننى لم أشعر بتلك المنة التى أولانيها المولى الكريم فى شخصها إلا بعد رحيلها، وبعد أن نضجت شخصيتى وفهمى للحياة، فعندئذ، وعندئذ فقط، تنبهت إلى الدور العظيم الذى أدته تجاهى والذى لولاه لما تعلمت ولما وصلت إلى ما وصلت إليه. ودائما ما أدعو الله فى صلواتى بكل ما فى كيانى من حرارة وحب وإخلاص وشعور بالجميل وأمل فى رحمته سبحانه أن يتغمدها بكرمه وفضله وأن يبوئها أعلى منزل فى الجنة. رحمها الله رحمة عميمة. لقد كان ظُفْرها برقاب رجال كثيرين رغم أنها، ككل أمهاتنا وجداتنا فى القرية آنذاك، كانت امرأة أمية. بل إنى لأدعو لها عادة أكثر وأقوى مما أدعو لوالدىَّ رغم حبى الشديد لهما. وكانت، رحمها الله، كثيرا ما تقضى الليالى فى طفولتنا لَدُنْ إخلادنا إلى النوم فى البكاء والتعديد على أمى وأبى (وكان ابن أختها. وقد مات ميتة مأساوية، إذ دخل بالموتوسيكل ذات ليلة شتوية وهو عائد من طنطا فى النصف المظلم من مقدمة عربة تضىء فانوسا أماميا واحدا، فتحطمت جمجمته ومات فى مستشفى محلة مرحوم ليلة الأحد السابع عشر من يناير 1957م)، وخال لى مات فى شبابه مقتولا، بعد أن بجست بطنه سيارة نقل كان يقف وراءها قريبا من حائط، فرجع السائق إلى الخلف دون أن يحسب حسابه فدعسه فى الجدار، فكان وقت نومنا فى كثير من الليالى حزينا. وظلت الجدة تبكى وتعدِّد بصوتها الواله الضعيف إلى أن التهب جفناها.
إنى أكتب هذا وأنا أغالب دموعى حنانا إليها وتذكرا للعطف الذى كانت تفيضه علىَّ حين أعود أحيانا أصيل يوم الخميس من طنطا متشوقا إلى دفء قلبها فتأخذنى عند النوم فى حضنها وتغطينى بمَلَسِها الأسود ذى الكرانيش تقينى من البرد، حتى إذا انقضى باقى الخميس ونصف يوم الجمعة الأول ووجب أن أعود إلى طنطا هجمت جيوش الحزن على قلبى وأنا أغادر القرية فى إحدى سيارات الأجرة عائدا إلى الغربة والضياع فى شوارع المدينة وحواريها حيث لا جَدَّة ولا أحد يسأل عنى. وذلك كله على العكس مما كنت أشعر به وأنا أترجل من الحافلة المتهالكة لدن وصولها إلى مشارف القرية قبل نحو أربع وعشرين ساعة، إذ كنت أحس بروحى ترفرف عند رؤيتها للمنازل والحقول، وكأنها أسير طال اعتقاله وتعذيبه ثم أفرجوا عنه بغتة، فعاد إلى أهله ودياره، ديار المحبة. ولقد كتبت فيما بعد قصة موت خالى ووصفت مشهده وهم يحملونه إلى المقعد البحرى على سطح بيت خالى الكبير (والمقعد بلغة قريتنا هو الغرفة العلوية)، ولطخات باللون الأحمر تغطى بطنه ظننتها وقتذاك عصير طماطم أكلها قبيل موته وسال من بطنه المنفجرة، ولكن عندما كبرتُ رجحتُ أن تكون هى الدماء التى نزفت من بطنه بعد انبجاسها. كما وصفتُ الناسَ الكثيرين الذين صعدوا وراء جثمانه وأنا طفل صغير تائه بينهم.
كذلك كتبتُ قصة قصيرة عن طفلٍ مات أبوه، لكنه كان يظن أنه سافر إلى مكان بعيد وسوف يعود يوما، فكان يخرج كل يوم إلى ظاهر القرية ينتظر عودته، إلى أن رأى من بعيد فى يوم من الأيام فرسا يعدو برجل ظنه أباه، ليفاجأ عندما اقترب منه بأنه ليس هو بل شخصا آخر، فعاد إلى البيت كاسف البال ثقيل القلب، إلا أنه رغم ذلك لم يفقد الأمل ورجع يخرج كل يوم فى انتظار الوالد الغائب. وقد أردت، من خلال هذه القصة، أن أقول إن بعض حقائق الحياة ثقيلة على النفس، وإن كثيرا من البشر يعيشون فى الأوهام على أمل لن يتحقق، إلا أن له رغم ذلك دورا فى حياتهم بالغ الأهمية إلى أن يكبروا ويفهموا أوضاع الدنيا على حقيقتها وبشاعتها. ثم ضاعت القصتان: الأولى الساذجة، والثانية المقبولة، فيما ضاع من أشيائى الكثيرة فى مضطرَب الحياة.
لقد كان تعليمى فى المرحلة الإعدادية (وكانت تسمى: "الابتدائية" فى السنتين الأُولَيَيْن لى فى الأزهر) تعليما أزهريا. وكنا نجلس فى نصف السنة الأولى على الحصير بمسجد السيد البدوى حيث كنا نتلقى دروسنا على يد المشايخ الذين يجلس كل منهم على دكة خشبية، وقد لبس فى قدميه خفا نظيفا خاصا بالمسجد يقيه برد الشتاء، ونتحلق حوله على الأرض، والبرد يخترق عظامنا الطرية لا يبالى بشىء. وكنت لا تكاد تسمع صوتا آخر فى المسجد غير أصوات المدرسين، الذين كان يجلس كل منهم لصق عامود من عواميده. ورغم أن المسجد فى نصف النهار الأول يستحيل معهدا فقد كان هناك مكان داخل المسجد حول المقام مفتوح لجمهور الناس نساء ورجالا، ولكن يفصل بينه وبين مكان تلقى الدروس سور خشبى غير مرتفع. فكانت النساء الريفيات اللاتى يردن زيارة أولادهن يأتين ويقفن بجوار السور حاملات القفف التى عبأنها من خيرات المنزل بالقرية يتحفن بها أبناءهن. وفى الفسحة التى كنا نصلى فيها الظهر، ويمكن الجمهور أن يدخل إلى مكان الدروس ويصلى معنا، كانت الأمهات يلتقين بأبنائهن وينتظرنهم إلى ما بعد انتهاء اليوم الدراسى ليصحبنهم إلى حيث يسكنون. وكان فتانا الصغير لا يعرف مثل تلك الزيارات، لأنه لم تكن له أم، ولا حتى أب. وكان من بين أولئك الأمهات من تريد أن تفرح بابنها فى تلك السن فتزوجه، ليأتى إلينا أحد زملائنا قائلا لنا إنه قد تزوج فى الإجازة، وتظهر عليه علائم السعادة لدخوله دنيا. وأذكر بهذه المناسبة ما كتبه الدكتور عبد الحليم محمود عن زواجه مبكرا بهذه الطريقة وكيف أركبوه الحصان ليلة الدخلة ولفوا به العزبة. وهذا مسجل فى كتابه الممتع: "الحمد لله! هذه حياتى". أما فى النصف الأخير من أول عام دراسى لنا بطنطا فقد انتقلنا إلى معهد طنطا الأحمدى الإعدادى الذى بَنَوْه خصيصا لذلك فى سيجر، فكان علينا أن نمشى أكثر من ضعفى المسافة التى كنا نمشيها من غرفتنا إلى مسجد السيد البدوى. لكنْ عَوَّضَنا عن ذلك أننا كنا نجلس على كراسىّ، ولكل منا درجه، ولم يعد البرد يخترق عظامنا الضعيفة كما كان يفعل فى مسجد السيد البدوى. رحمها الله من أيام!
وكنت أشعر فى بداية ذهابى إلى طنطا بالهم يملأ قلبى، وكنت أتمنى أن أعود إلى القرية وأترك كل هذه الأحزان التى لم يكن لى بها قِبَل، إلا أن القدر كانت له كلمة أخرى. وأذكر أمسية قضيتها أنا وزميل لى من القرية كان يشعر مثلى بالحزن، وكان أبوه وأمه على قيد الحياة، ومشينا فى شارع البحر فى آخر خمسينات القرن الماضى بدءا من الحارة التى كنت أسكنها قبالة مدرسة القديس لويس فى اتجاه شارع الخان وسط الشارع نتشاكى، وكنا فى السنة الأولى بالمعهد الدينى، فتمنينا لو استطعنا ترك الجمل بما حمل والعودة إلى القرية، ولكن ضاعت شكاوانا وتمنياتنا سُدًى لحسن الحظ.
وفى يوم الجمعة، يوم سفرنا إلى طنطا فى صيف 1959م للتقدم إلى امتحان الأزهر فى اليوم التالى، ارتفعت حرارتى بعد الصلاة ارتفاعا شديدا وشعرت بضعف وتضعضع كبيرين، فتمددت، بعد أن استحممت وغيرت ملابسى، على شلتة موجوة عندنا منذ كان جدى لا يزال حيا، إذ كنت أراه راقدا عليها ينظر إلىَّ وأنا أدور وأتقافز فى أرجاء البيت مارا به داخلا وخارجا لا أستقر فى مكان كما يفعل الأطفال. وأخذت أشكو لجدتى ما أنا فيه من تعب وإرهاق، فاقترحت علىَّ عطفا منها وحنانا أن أبقى فى البيت هذا العام لظروف مرضى وأتقدم العام المقبل، إلا أننى رفضت قائلا فى سذاجة ملهمة إن زملائى سوف يسبقوننى بعام. وأغلب الظن أننى لو بقيت إلى العام القادم ما كنت ذهبت إلى طنطا أبدا بعد ذلك. وكان السبب فى اتخاذ خالى وجدتى قرار ذهابى إلى طنطا الشيخ عيد عطا، وهو أحد طلاب القرية الكبار، وكان يومها منتقلا إلى السنة الرابعة الثانوية فى معهد طنطا الأحمدى، إذ هوّن عليهما الأمر قائلا إننى لن أكلفهما شيئا. رحمه الله رحمة عظيمة، فلولا هذا الاقتراح وذلك التشجيع من جانبه لما كان من نصيبى الذهاب إلى المعهد الدينى ولا غير الدينى. والحمد لله، الذى رعانى ولم يسمح لظروفى المعاكسة قط أن تعوقنى عن التعلم وبلوغ أعلى الدرجات الرسمية فيه بغض النظر عن استحقاقى ذلك أو لا.
وكان التعليم جادا مرا تمام الجد والمرارة، ولا موضع فيه للهزل كما سبق القول. لقد كنا ندرس الآجُرُّوميّة مثلا والسيرة النبوية، والفقه فى "متن أبى شجاع"وشرحه، وما أدراك ما أبو شجاع ومتنه وشرحه؟ ولا تنس أننا كنا أطفالا طرييى العظم، فكنا نحفظ ما لا نفهمه. ومع هذا فلا شك أن طريقة التعليم تلك بخشونتها وجِدّها الـمُرّ كان لها فضل كبير علينا، إذ صَلَّبَتْ أعوادنا وصقلت شخصياتنا وعقولنا. ولم نكن نعرف الدروس الخصوصية ولا كنت أستعين بأحد من أجل فهم شىء فى الكتب مهما كانت صعوبته أو تعقيده. كان علينا أن نصارع الأمواج وحدنا معتمدين على قوتنا الذاتية وعلى الله سبحانه قبل قوتنا الذاتية. وإذا لم نفهم شيئا كنا نحفظه، وإلا فماذا كان يمكننا أو ماذا كان ينبغى أن نفعل؟ ثم قليلا قليلا ينقشع غموض ما كان غامضا وتلين صعوبة ما كان صعبا، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، وإن لم يعن هذا أن كل شىء فى دنيا العلم صار سهلا ولينا، فما قصدت إلى هذا، بل قصدت إلى أن ما كان صعبا علينا فى البداية أضحى ميسرا فيما بعد، إذ العلم لا يمكن أن يخلو من الصعوبة والغموض يوما.
وحين وصلت إلى طنطا عصر الجمعة استعدادا لامتحانات القبول التى تبدأ اليوم التالى كنت فى حالة يرثى لها، ولم أستطع الخروج مع زملائى للفسحة فى المدينة، وبقيت نائما على كنبة فى صالة الشقة التى كنا ننزل فيها أعانى المرض والإنهاك وارتفاع درجة الحرارة. وقد تولى الشيخ عيد عطا، عليه رحمة الله، مهمة علاجى، إذ أحضر رأس ثوم وطلب منى تفصيصها وتقشيرها، فصدعت بالأمر، ثم أحضر كوب خل لا أدرى من أين، وأمرنى أن أمضغ فصوص الثوم كلها مرة واحدة، ففعلت وشعرت أن نارا شبت فى فمى ولسانى، ثم ناولنى كوب الخل لأشربه كى يطفئ نار الثوم، فأطعته، وكان شيئا جديدا لم أفعله فى حياتى قبل ذلك ولا بعده. وكان معروفا عن الشيخ عيد أنه ينظر فى "تذكرة داود" يستلهمها طرق معالجة ما يقابله من أمراض. وقد شعرت أن لسانى قد تَنَفَّط أو هكذا تصورت، فقد كنت ألقى صعوبة وعناء وألما شديدا فى لسانى إذا ما أكلت مع زملائى ومن حضر معهم من أهليهم. وكان الخبز الذى كنا نتناوله خبزا ريفيا جافا، فزاد هذا من معاناتى وآلامى، إضافة إلى مقاساتى الجوع بسبب أنى لم أكن آكل كفايتى كرفقائى، الذين لا يعانون فى أفواههم أو ألسنتهم أية مشاكل. وكنت إذا ما أردت أن أرفه عن نفسى أخرج إلى رأس الحارة، وأجلس وحدى بجلبابى الريفى فى ظل شجرة من أشجار الجزيرة المعشوشبة الجميلة الهادئة التى تفصل بين اتجاهَىْ شاعر البحر قبالة مدرسة القديس لويس أتأمل ما حولى أو أقرأ فى المصحف استعدادا للامتحان الشفوى فى حفظ القرآن.
وفى المعهد الدينى قابلت طلابا كثيرين من قرى مختلفة اللهجات واللكنات، فكان أبناء كل قرية من تلك القرى يجدون فى لهجات الطلاب الآخرين ولكناتهم ما يبعث على التعجب والتهكم، إذ يتصورون أن كل ما خالف نطقهم خطأٌ صُرَاحٌ لا شك فى ذلك، غير دارين أن الأمر لا يعدو أن يكون عادة لغوية لا علاقة لها بصواب أو خطإ. ولكن كيف تنتظر من تلاميذَ صغارٍ جهلةٍ ضيقى الأفق يعيشون فى شرنقة مغلقة أن يفهموا هذا الذى أقوله الآن بعدما نضجتُ واتسع أفقى ودرستُ علوم اللغة وتعلمتُ ألسنة أجنبية فعرفت أن الدنيا تفيض باللغات واللهجات المختلفة وأن الدنيا فى كل مناحيها قائمة على الاختلاف، وبعد أن سافرت إلى الخارج وطفت عددا لا بأس به من بلاد العالم؟ ومع هذا فلا بد من القول بأن ذهابى إلى طنطا واصطدامى بتلك الثروة من اللهجات واللكنات المخالفة للهجة قريتى ولكنتها قد مَثَّل لى ما يمثله الخروج من الشرنقة بالنسبة للدودة التى كانت محبوسة فيها والتى تحولت إلى فراشة تطير فى الفضاء، وإن كان الفضاء فى هذه الحالة فضاء محدودا جدا لا يتعدى الحقول المجاورة، بخلاف الفضاء المتناوح الذى أطير فيه الآن بعدما تحولت الفراشة إلى طائر مهاجر عابر للأوطان والقارات.
ولقد فهمنا منذ البداية أن الحياة جِدٌّ واستقامة وجهد ومعاناة، ولا تحتمل الهلس، فحفظنا الدرس، ومشينا على العجين لا نلخبطه أبدا، اللهم إلا فى الشهادة الإعدادية حيث بداية التفتح العاطفى خلال طور المراهقة الذى تختلط فيه السعادة الفردوسية السامقة الشاهقة بالقلق والحزن الممض الأليم، فأهملتُ بعض المقررات وكنت، فى حصص مادة الرياضيات، ألفّ رأسى بالكاكولا ببطانتها الحريرية وأستنيم إلى ما تشيعه فى دماغى من دفء فى فصل الشتاء، بينما الأستاذ عاطف ذو الوجه المنمش واللثغة الظريفة التى كانت تقلب سيناتِه ثاءً ماضٍ فى طريقه كالبلدوزر يشرح الرياضيات للطلاب، الذين يتجاوب كثير منهم معه تجاوبا عظيما وأنا مخدر بدفء الكاكولا، مع شعورى فى ذات الوقت بالتنغيص جراء تخلفى عن زملائى أنا الولد الجاد النشيط. وكانت مسافة الخُلْف بينى وبين الزملاء تزداد اتساعا كل يوم، وأخذ اليأس يكشر لى عن أنيابه فى الوقت الذى كنت متفوقا على هؤلاء الزملاء فى النحو والصرف والفرنسية.
ترى أين إبراهيم القديم البارع فى حل الحساب والهندسة؟ لقد كان العم أحمد نحلة، رحمه الله، يسهر معى فى بيتهم بقريتنا قبل الامتحان فى السنة الأولى لنا بالأزهر فى العام الدراسى 1959- 1960م، وكان ابنه محمود (الأستاذ الآن بقسم اللغة العربية فى آداب الإسكندرية) زميلا لى بالمعهد الدينى قبل أن يترك الأزهر ويلتحق بالمدارس مثلى، وإن كان قد حول أوراقه إلى إحدى مدارس الثغر لوجود عمه هناك حيث يملك عدة لوكاندات فى وسط المدينة. فكان الأستاذ أحمد نحلة يفتح معى الكتاب ونقوم معا بحل المسائل الصعبة بينما يكون محمود قد تركنا وذهب ينام. وكنت قريب عهد بالكتاب حيث لم نكن ندرس الكسور الاعتيادية والعشرية والمسائل الصعبة التى شرعْنا ندرسها فى الأزهر، فكان العم أحمد يستحثنى على حل ما يصعب من المسائل، وأنا مرهق من السهر والحر، إذ كان الصيف على الأبواب، فأهرش رأسى، فيهتف فى ظرف قائلا: أيوه! هِيهْ! ها هو ذا الغراب يوشك أن ينقر! إذ كان يصور لحظة الإلهام عندى بنقر الغراب لرأسى. فكنت أضحك، وفى نفس الوقت كان الغراب من جهته يضع فى عينه حصاة ملح وينقر، وأتوصل أنا عندئذ لحل المسألة. ولا يبقى أمام الولد الذى ينقر رأسَه الغرابُ سوى أن يعود إلى جدته لينام، إلى أن يصبح الصباح، فنقوم أنا وحنف وبعض الزملاء الآخرين وننطلق، بعدما نكون قد صلينا الصبح، إلى الزراعية فى اتجاه بسيون، وفى أيدينا الكتب نستذكر ما فيها حتى نصل إلى عزبة حسام الدين وكوم الغابة فنرجع، وقد نتريث قليلا عند سور الجسر المؤدى إلى عزبة قارون على المصرف ونحن ماضون فى الاستذكار أو الثرثرة، ثم نعود أدراجنا إلى القرية، وتكون الشمس قد ملأت الآفاق.
وكان من الممكن جدا أن تنزلق قدمى فى الإعدادية الأزهرية فأرسب رغم تفوقى وحصولى على الجائزة الأولى دائما فى الاختبارات التى كان يعقدها لنا المشايخ قبل ذلك، إلا أن الله ستر وسلَّم، فحين أتت إجازة آخر العام، وكانت شهرين كاملين قبل خوض غمرات الامتحان، ولم أكن قد استذكرت مادة "الرياضيات" بحسابها وهندستها وجبرها، صارحت أحد زملائى بالكرب الذى أنا فيه، فما كان منه إلا أن أجابنى برجولة وشهامة وحب أَنْ: لا تبتئس يا إبراهيم ولا تحزن.
- ولكن كيف يا أبا السِّيد؟
- سوف أعطيك كتابا خارجيا للرياضيات هدية، وما عليك إلا أن تمشى معه خطوة خطوة، وسوف تجد كل شىء سهلا، ولن تقابلك صعوبة على الإطلاق.
ولم أكذِّب خبرا، فمررت عليه بقرية قحافة القريبة من طنطا، فأيقظته من نومة القيلولة، فأعطانى الكتاب، وأخذته ومضيت إلى قريتى أستعد للامتحان. وكنت، طوال العام، قد أهملت بعض المقررات الأخرى كالجغرافيا والتاريخ والعلوم والفقه والتوحيد، وإن لم تكن مصيبتى فيها فى فداحة مصيبتى فى الرياضيات. وكان علىَّ أن أبدأ استذكار معظم المواد من البداية. فكنت كمن يجرى من عدو يطارده ويوشك أن يلحقه ويقضى عليه. ولهذا كان الاستذكار قلقا. أما الرياضيات فما أصدق ما قاله لى زميلى! لقد كنت أقطعها كما تقطع السكين قطعة الزبد الطرية، ولم تقف أمامى أية مسألة. وعلاوة على هذا كان هناك خمسة دروس كاملة فى مقرر اللغة الفرنسية التى كنا ندرسها فى الأزهر لأول مرة لم يشرحها الأستاذ لنا، فكان علىَّ أن أستذكرها بكلماتها وتعبيراتها الجديدة وقواعدها معتمدا على نفسى وحدها دون أية مساعدة من أحد. ورغم أن المواد الأخرى كانت مشوشة فى ذهنى للسبب المشار إليه فقد جاء ترتيبى الثالث على الجمهورية بين الطلاب المبصرين فى امتحان الشهادة الإعدادية الأزهرية سنة 1964م. الحمد لله.
وقد ترك هذا الزميل النبيل الأزهرَ كما تركته أنا أيضا، وأغلب الظن أنه التحق بمدرسة التجارة الثانوية. وقد أتى علىَّ وقت فى نهاية تسعينات القرن الماضى حاولت فيه بكل ما أستطيع أن أعثر على ذلك الزميل الشهم، ومررت ببعض القرى القريبة من طنطا وبسيون أزور الأسر التى تحمل ذات اللقب: "زيادة" لعلى أضع يدى على أول الخيط الذى يمكن أن يقودنى إلى ذلك الرجل العجيب الذى قيضه الله لى ليمدنى بالحل السعيد، فأرد له بعضا من الجميل العظيم الذى يطوق به عنقى وقلبى وضميرى. لكن للأسف ضاع كل مجهودى فى محاولة التوصل إليه هدرا. جازاه الله عن هذا الموقف الكريم خير الجزاء، فإنه سبحانه وتعالى يحب الشهامة والنبل، وقد كان هذا الزميل بالغ النبل والشهامة. بارك الله فيه وفى ذريته ووفقه فى كل أموره.
هذا عن الاستذكار، أما بالنسبة للتفتح العاطفى فقد ذاق الصبى الصغير المسكين فى الإجازة الصيفية السابقة طعم الحب فى أروع وأرقى وأنقى وأسعد تجاربه. كان الصبى المسكين يشعر حينئذ بمذاق السكر الحاد فى حلقه كسكين تحزّه حَزًّا، وبنشوة علوية فى قلبه لم يُقَدَّر له أن يَخْبُرها فى حياته بعد ذلك بنفس القوة والامتلاء والسعادة. لقد شاهدها هناك جميلةً أنيقةً متعلمةً رقيقةً مهذبةً. وقد أتاحها الله للصبى المسكين فعصمه بها من الزلل، إذ جعلته ينظر دائما إلى الأعلى حيث الرقى والنقاء والبهاء والتحضر، ولا ينغمس فيما ينغمس فيه الشباب فى سنه وظروفه. وأخذ الأمر من الصبى المسكين بعض الوقت حتى فهم أخيرا أن هذا هو الحب الذى يتحدثون عنه. لقد كان يحس بقلبه يوشك أن يقفز من موضعه فرحة وسعادة. وكان الصبى الصغير المسكين على مقربة منها طوال الإجازة، وكذلك فى طنطا طوال العام الدراسى التالى، حتى عاد إلى القرية يستعد لامتحان الشهادة الإعدادية، فانقطع عن رؤيتها، إلى أن كان يؤدى امتحان الثانوية العامة بعدها بثلاثة أعوام فى مدرسة قاسم أمين بطنطا، وكان جالسا أثناء الفسحة التى تفصل بين مادتى الامتحان على ترابيزة فى حوش المدسة، وإذا بها تقبل عليه كأنها مقبلة من الفردوس وتحدِّثه بعد انقطاع دام ثلاثة أعوام كاملات لم ير أيهما الآخر خلالها قط، فيشعر أن الدنيا والآخرة والكون جميعا كلها قد أقبلت عليه وصارت طوع يمينه، لكنه رغم ذلك يبقى فى مكانه مرتبكا جَرّاء المفاجأة. إلا أن الشياطين من زملائه أخذوا ينادونه من بعيد مداعبين ومنغمين أصواتهم بطريقة تشى بحسدهم إياه على ما هو فيه، فانصرفت هى وزميلتها مستحيية. منهم لله! ثم رآها مرة أخرى فى زورة من زوراته لطنطا عن طريق المصادفة بعد ذلك بثلاث سنوات، وكانا فى السنة الثالثة من تعليمهما الجامعى، وإن كان كل منهما فى جامعة ومدينة غير جامعة الآخر ومدينته، فوجدها كالعهد القديم بها بهاء ونقاء وتحضرا وأناقة، وقُلْ فيها كُلّ ما شئتَ من جمال ورقة وعذوبة وضياء فلن توفيها حقها.
ثم ضربت الأيام بينهما بسد عال فلم ير أحدهما الآخر منذ ذلك اليوم. لكنها رغم هذا لم تترك خيال الصبى الشاب الرجل الكهل الشيخ قط. ومع علمه أنها لا بد أن تكون قد كبرت مثله فإنه لا يستطيع أن يتخيلها، بل لا يراها فى المنام بعد أن كبر، إلا تلك الفتاة الأنيقة الرقيقة الأولى التى كانت ولا تزال مثالا للجمال والكمال، والتى مضى على آخر عهده بها عشرات الأعوام. ولعل ما يمكن أن يقرب للقراء مشاعر الصبى الصغير المسكين آنذاك رواية الأديب الروسى الكبير تورجنيف: "الحب الأول" مع الفارق المتمثل فى أن صبينا الصغير المسكين لم يكن يبكى كما كان يبكى بطل رواية الأديب الروسى. وبكل تأكيد لقد كان لتلك الفتاة العجيبة يَدٌ طُولَى فى إقبال صبينا الصغير المسكين على القراءة والكتابة وفى طموحه إلى أن يكون أديبا كبيرا. ولهذا ليس غريبا أنه، حين يلتفت إلى الماضى، يجد أن بداية اهتمامه بعالم الكتاب والكتابة قد تزامنت وسطوعها فى حياته كالشمس المتألقة التى نشرت الضياء الباهر فى كل كيانه على نحو غير مسبوق ولا ملحوق.
وهو، كلما تذكرها بعد هاتيك الأعوام الطوال، دعا الله لها بالسعادة هى وزوجها وأولادها رغم أنه لا يعرف شيئا عن زوجها ولا أولادها، بل لا يعرف هل لها أصلا أولاد أو لا. وقد ارتبطت فتاته فى عقله وقلبه وخياله وكيانه كله بعدد من الأغانى الشجية الرائعة كـ"ساكن قصادى"، و"كلمنى عن بكرة"، و"أيوه وحياة اللى فات"، و"لا تكذبى"، و"بأمر الحب"... وكلما سمع أغنية من هذه الأغانى أخذته على جناحيها إلى عالم النور والطهر القديم، ليعود مرة أخرى بعد انتهاء الأغنية إلى أرض الواقع الخشنة، وهو يشعر أنه قد طُرِدَ طَرْدًا من الجِنَان. لقد استحالت هذه الفتاة رمزا على كل ما هو جميل نقى يسعد به الإنسان بينه وبين نفسه، لكنْ لا يمكن الوصول إليه فى واقع الحياة. إنها الواحة البليلة الظليلة فى الصحراء الملتهبة القاحلة. ولقد فكر صبينا حين كبر أن يكتب قصة قصيرة تصور صلته بفتاته، تلك الصلة التى لم تتعد جوانح قلبه. لكنه لم يضع هذه النية موضع التنفيذ قط. ترى لماذا؟ لعله فى أعماقه يؤثر أن تظل تلك الفتاة الرائعة فكرة فى الضمير، ورمزا على كل ما هو جميل وبديع ورائع وسام نبيل طاهر، ومن ثم كان لا بد أن تبقى عالية فى سمائها الشاهقة السامقة بعيدا عن الواقع الذى يخدش الأشياء والأشخاص بل يجرّحها تجريحا، بل يحطمها تحطيما. إنها المثال الأعلى المتنائى عن الأرض والنقصان.
وتحضرنى مسرحية الأستاذ توفيق الحكيم: "بيجمالون"، التى تأثّر فيها بالأسطورة اليونانية المعروفة، وكان أول ما لفت نظره إليها لوحة شاهدها فى متحف اللوفر بباريس، ثم أعاد تذكيرَه بها فِلْمٌ عُرِض في القاهرة بنفس العنوان مأخوذ من مسرحية برنارد شو عن ذلك الموضوع، فتناولها الحكيم بدوره، لكن مع الانحياز للفن ضد واقع الحياة، الذى ينفر منه الفنانون المخلصون. ذلك أن جالاتيا، التى كانت فى الأصل تمثالا نحته بيجماليون وتفنن فى نحته، صارت رمزا للخلق الفنى الذى يهيم به مبدعه حتى ليطلب من الإله أن يهبه زوجة تشبهها، فينفث فيها الإله الروح تحقيقا لأمله على أبهى صورة. لكن جالاتيا لا تلبث، بعد أن نفث فيها الإله الروح، أن تصبح امرأة فيها ما فى كل امرأة من غرائز حيوية تدفعها إلى تفضيل الرجل على الفنان المشتغل عنها بفنه، فتهرب مع نارسيس المدلل المعجب بنفسه، ثم تثوب إلى رشدها وتفىء إلى زوجها الفنان تستغفره عما فعلت وتقر بعظمته، وتقوم على خدمته كما تفعل الزوجات. إلا أن بيجمالون الفنان ينفر منها رغم ذلك مخيبا ما كنا نظنه ونأمله من أنه سوف يفرح بعودة تلك التى وقع فى غرامها لشوشته تائبة مستغفرة! والسبب؟ السبب هو أنها، حين أخذت تزاول أعمال البيت وتحمل المكنسة وتنزل من دنيا الخيال إلى دنيا الواقع وتتصرف كأية امرأة فى الحياة الحقيقية، قد بعدت بتصرفاتها هذه عن صورتها المثالية التى سمت بها فى ذهنه حين كانت تمثل الجمال الخالص، فيثور الفنان فيه على المرأة فى صورتها الواقعية، ويدعو الإله أن يردها تمثالا عاجيا كما كانت، ثم ينهال عليها بالمكنسة. لا لا، فلتبق فتاة صديقنا الشاب صورة فى الخيال لا ينال منها واقع الأرض أى منال. ولو كانت له دعوة مستجابة تخرق قانون الحياة لطلب من ربه أن يبقيها كما كانت يوم رآها فى شبابه الباكر لأول مرة: نضرة وبهاء وروعة وجمالا وتحضرا وإبداعا لا تمسها يد الزمان أبدا.
لقد كانت له فى السنة التمهيدية للماجستير بآداب القاهرة عام 1970- 1971م زميلة من بلد عربى جميلة أنيقة شاعرة بنفسها أشد الشعور، وكانت هيفاء ذات شعر أصفر حريرى طويل تعقصه على هيئة ذيل الفرس فينوس خلف ظهرها نوسانا فاتنا، ثم انفصلا حين انتقل إلى جامعة عين شمس معيدا، وتصادف أن كان فى مدينتها ببلدها المجاور لمصر يناقش رسالة دكتوراه منذ عدة أعوام قبل ثورات الربيع العربى، وقابلها هناك بناء على سؤاله عنها لأنها كانت مدرسة مساعدة بنفس الكلية التى يناقش فيها رسالة الدكتورية، فحضرت ليفاجَأ بكائن آخر غير الذى كان فى ذهنه، كائن ذهب جماله، ولم تعد له فراهة ولا شعر حريرى ولا غير حريرى لأنها صارت ترتدى الخمار وتتلفف فى عباءتها وتلبس نظارة مقعرة ولا تقول عن القطة فى دلال ساحر: "قَطُّوسة" (بالقاف) كما كانت تفعل قبل عشرات الأعوام. وحاول عبثا أن يرى شيئا مما كان عالقا طوال تلك الأعوام فى ذهنه، فلم يجد شيئا البتة. ومن غبائه أن هذه المعانى قد ظهرت على وجهه، ويبدو أن السيدة قد تألمت. لعن الله الغباء! لكن منه لله الزمن، فهو السبب لا أنا! إنه قاس شديد القسوة لا يرحم! يبدد كل شىء، و"ليس على حجره غالٍ".
نسيت فى غمرة كلامى أن أذكر أننى، فى السنة الثانية من تعليمى بالمعهد الدينى الأحمدى، كنت أستذكر مع طلاب قريتى فى مسجد السيد البدوى عصرا مراجعا مادَّتَىِ امتحان اليوم التالى حينما قامت خناقة بينى وبين زميل لى عرفت فيما بعد أباه وأمه وإخوته، وكنت أذهب معه كثيرا إلى بيتهم بعد زوال الخصام وبعد انتقالهم من حى العداسة إلى مسكن جديد قريب من شارع القاضى حيث تعاملنى والدته، رحمها الله، معاملة حنونا. ولست أستطيع الآن أن أتذكر السبب فى خناقة ذلك اليوم، إلا أننا على كل حال قد تشابكنا فى المسجد وبركتُ فوقه أيام كنت أستطيع الخناقة، وضربنى من غيظه بالقبقاب الخشبى فى رأسى، فشعرت بجمجمتى ترن، ولكن دون ألم ودون أن تترك الضربة أثرا فى دماغى. ولما لم يستطع أن ينتقم منى أخذ نفسه وخرج من المسجد، وأنا لا أدرى ماذا انتوى. لكنى بعد قليل سمعت زملائى يُهِيبُون بى أن أهرب لأنه أحضر عمه من سوق العَدَّاسة القريب من السيد البدوى حيث كان لهم دكان لبيع العلافة هناك، وهم صعايدة، فخَشِيتُ أن يقتلنى عمه بِشُومَةٍ أو سكين، فأخذت ذيلى فى أسنانى، وانطلقت لا ألوى على شىء فى شوارع طنطا حتى قطعت مسافة كبيرة من شاعر الحلو (أو شارع سعيد الموازى له: لا أذكر بالضبط) وأمسيت بعيدا عن الأنظار بحيث لا يستطيع الجن ولا العفاريت الزرق أن يعرفوا أين أنا. وأظن أننى، فى غمرة رعبى من عم زميلى، قد خرجت من المسجد حافيا، إذ لم يكن هناك وقت للبحث عن الحذاء (أو ربما الشبشب).
ولكم أن تتصوروا مشاعر صبى يتيم غريب لا أحد يسأل عنه فى طنطا ولا فى غير طنطا يجرى فى شوارعها لا يشعر به ولا يلتفت إليه أو يرأف بحاله سوى الله فى عليائه، ولديه امتحان فى اليوم التالى، وهو محروم من فرصة مراجعة ما سوف يُمْتَحَن فيه بعد ساعات. ومضى بعض الوقت، وهو جالس فى ذلك المكان البعيد قلقا مستوحشا لا يؤنسه سوى تطلعه إلى النسوة اللاتى يفدن إلى حنفية الماء العمومية هناك ويتبادلن الأحاديث أثناء ملء صفائحهن، إلى أنْ نَسَخَ الوقت بعضا من فزعى السابق، وحل محله قلق شديد على مصيرى إذا لم أسارع إلى استذكار الكتابين اللذين سوف أُمْتَحَن فيهما صبيحة اليوم التالى، فعدت إلى المسجد أحوم حوله إلى أن استطعت التواصل من أحد بابيه الغربيين مع بعض أبناء قريتى، فأحضروا لى، وأنا واقف أرقب المكان جيدا وأمسحه بعينىَّ القلقتين خارج المسجد، كتابىَّ وشبشبى (أو ربما حذائى) فأخذت أغراضى وانطلقت إلى مسجد سيدى مرزوق قريبا مِنَ الغرفة التى كنت أسكنها مع بعض طلبة القرية فى آخر درب سيدى مرزوق من جهة الصاغة، وشرعت أراجع المادتين المذكورتين محموما وكأن عفريتا يلهبنى بالسوط، كل مادة مرتين، حتى اطمأننت ورضيت عن المراجعة، ثم عدت بعد أن أغلق المسجد أبوابه إلى المسكن وأنا أحمد الله أنْ لم يَضِعْ علىَّ اليومُ دون مراجعة، مما كان يمكن أن يؤدى إلى رسوبى فى الماديتن أو حصولى على درجة متدنية فيهما. فالحمد لله!
ولتسمحوا لى هنا بشىء من الاستطراد، عيبى الفظيع، لأقول إن علاقتى بزميلى هذا وأسرته نشأت وتوثقت وظلت قائمة إلى ما بعد عودتى من بريطانيا فى ثمانينات القرن الماضى بزمن طويل. وكانت زوجتى تأتى معى لزيارة والدته بعدما مات أبو زميلى، الذى تزوج على أمه أرملة عمه بإيعاز منه هو، وكذلك بعد أن أصيبت أم زميلى بالشلل جراء ما حاق بها من الابتلاءات المتلاحقة، ومنها موت ابنتها الصغرى، الفتاة الرقيقة الحيية المهذبة التى أتمت التعليم العالى وحدها دون سائر إخوتها، فكانت زوجتى تأتى معى لنزورها وتجلس بجوارها على السرير وتلاطفها وتقدم لها الهدايا وتقبّلها وتضحك معها وتربت عليها شاعرة أن هذا واجب لا بد لها من تأديته نظير ما أفاضته هذه السيدة علىَّ فى صباى من حنان كأنها والدتى. بل لقد كانت هذه السيدة تذكِّرنى دائما من خلال طباعها وسَمْتها بوالدتى، لأنها كانت هادئة وقمحية مثلها. وكانت زوجتى تقوم بهذا الواجب عن طيب خاطر مطلق، إذ كانت تحب ما أحبه ومَنْ أحبه، وبخاصة من كانوا يعاملوننى معاملة طيبة فى صباى وشبابى، وظللنا نزور السيدة النبيلة الكريمة إلى أن انتقلت إلى الرفيق الأعلى، طيب الله ثراها وكتبها من سعداء الآخرة.
أما بالنسبة لوفاة أخت زميلى الشابة الرقيقة التى كنت أعدها بمثابة أخت صغرى لى فأذكر أننى، حين عدت من بريطانيا إثر حصولى على الدكتورية، ذهبت إلى بيت ذلك الزميل أجدد العهد به وبوالدته وسائر أفراد أسرته، فقابلتنى الأم بذات الترحيب القديم، وأخذنا نتبادل الحديث، وكان وراءها صورة كبيرة لتلك الابنة الصغرى، فسألتها عنها وأين هى الآن وهل تزوجت أو لا، فأجابتنى بنبرة غريبة أنها فعلا قد صارت عروسا، فمضيت أسأل: ومن زوجها؟ فقالت ما معناه أنه القبر. وهنا أحسست كأن إرْزَبَّة قد نزلت على يافوخى، وانخرطت فى بكاء عصبى لم أستطع له مقاومة. وبدلا من أن أواسيها أنا أخذت هى تواسينى، وكأننى أنا المصاب لا إياها. ومع ذلك فقد أشفقت على السيدة الكريمة أن يصيبها سوء، وهو ما وقع سريعا، إذ رأيتها فى إحدى زوراتى التالية وقد شَلَّتْ وصارت ملازمة لسريرها لا تَرِيمُه، ثم ماتت رحمها الله. وقد استمرت صلتى بأبنائها، وبخاصة ابنتها الكبرى وزوجها وأولادها، وكانوا يسكنون بالطابق الثانى فى نفس المنزل الذى انتقلوا إليه من بيتهم الأول فى العداسة. وكثيرا ما قضيت عندهم الليل، فأقوم أصلى الفجر لأجد زوجها الشيخ محمد قد أحضر الخبز الفينو الطازج واللبن والجبن والمربَّى وغير ذلك من ألوان الطعام والمشروبات لنفطر أنا وهو. الحق أن مثل هذه الذكريات الجميلة هى التى تجعلنى، كلما ضقت بسلوك كثير من الناس الآن، أعود فأقول إن الحياة رغم ذلك مليئة بعباد الله الذين حباهم المولى بالنبل والكرم والرحمة والذوق الجميل.
إن فى رقبتى، بل فى كيانى كله، لَدَيْنًا ضخمًا لا يمكن قضاؤه لأم زميلى هذا ولأم صديقى المرحوم أحمد الزاهد (طنط أنوار)، التى كانت تفتح على الدوام بيتها لأصدقاء أبنائها كلهم آكلين شاربين، وبالنسبة لى: نائمين أيضا، كل ذلك فى أريحية وابتسام وصفاء قلب ونبل عجيب. ومهما فعلتُ فلن أستطيع أن أوفى هذه السيدة العظيمة النادرة المثال بالكلام حقها، وهى الوحيدة التى لم أَرُدَّ شُعَيْرَةً واحدةً من جميلها الهائل كالجبال الشوامخ. وإنى لا أكف أبدا عن الدعاء لها والحديث إلى زوجتى عن بِرّها وكرمها وإنسانيتها ورحابة قلبها وطول أناتها حتى إننى لا أستطيع أن أتذكر أنها تجهمت يوما فى وجوهنا، وبالذات فى وجهى أنا. وأحيانا ما أروح فى الدعاء لها عقب صلواتى مبتهلا إلى الله سبحانه بكل ما أملكه فى كيانى من حرارة ملتهبة أن يبلِّغها فى العالم الآخر دعواتى لها ورغبتى فى أن يُبَوِّئها سبحانه الفردوس الأعلى. وكلى أمل أن يستجيب الله لى فيوصل لها ابتهالاتى وإخلاصى وأسفى على أَنْ لم تُتَحْ لى الفرصة لرد شىء من جميلها العظيم لظروف خارجة إلى حد ما عن إرادتى ولِمَا استجدَّ لدىَّ من الخجل بعدما تزوج صديقى المرحوم أحمد فى الشقة التى كنت أتردد عليهم فيها وتغيرت أوضاع الأسرة من ثم تغيرا جذريا. ومن المرات القليلة التى حاولت أن أعبر لها عن شكرى لصنيعها العظيم بعد أن عدت من بريطانيا أننى اصطحبت ذات مساء واحدا من طلبة القرية الجامعيين من جيراننا (وكان أخوه هو الزميل الذى كنت أوقظه أول واحد لصلاة الفجر، فكان إذا لم يكن ينوى أن يستيقظ يرد على تحيتى بـ"صباح الخير" ممطوطة على ما سيأتى ذكره فيما بعد من هذا الكتاب)، ووقفتُ قرب المنزل الذى تسكنه أسرة صديقى، وكلفت ذلك الشاب أن يصعد إلى الشقة المذكورة ويسأل عن طنط أنوار: فإن كانت موجودة اشتريت لها هدية عيد الأم، الذى كانت مصر تحتفل به فى ذلك الوقت. ولم أكن رأيتها منذ سنوات طويلة. إلا أن الشاب المذكور عاد وأخبرنى أنها ليست هناك، بل تقيم لدى أختها حسبما ذكروا له. اللهم أكرم نزلها وأَطِبْ مثواها وأَحِلَّها دار المُقَامَة فى أعلى عليين.
وفى مناسبة أخرى منذ ستة عشر عاما اتصلت بهاتف صديقى أحمد للمرة الأولى فى حياتى بعد أن عرفت الرقم فى سياق غريب، فسألت عنه الفتاة التى ردت على الهاتف، وكانت ابنته، ولم تكن تعرفنى إلا من بعيد من خلال كلام الأسرة عنى، فردت: البقية فى حياتك يا عمو. لقد توفى والدى منذ سنتين. فحوقلت واسترجعت وأنا لا أصدق نفسى. ثم أعطتنى رقم عمها الأصغر، وكان، أيام ترددى على بيتهم حتى تخرجى من الجامعة، صبيا ظريفا ضحوكا لطيف المعشر، إلا أنه رغم ذكائه لم يكمل تعليمه وترك مدرسة القديس لويس واشتغل فى مشروع تجارى، فاتصلتُ به، وكان يسكن فى الشقة الأصلية على حين تسكن أسرة أخيه المتوفَّى فى شقة جديدة بالبيت المقابل. وتحدثنا لبعض الوقت فبدا من نبرات صوته أنه متحفظ، ثم مررت عليه فى مكان عمله لأعزيه، فألفيته ما فتئ متحفظا رغم كل محاولاتى استعادة الصديق الصغير الظريف الذى كانه أيام الصفاء. وفى النهاية استأذنت وغادرت. ومضت الأيام، وسافرت مرة أخرى خارج البلاد للمرة الثالثة. وفى أثناء كل هذا الوقت كنت أفكر فى كيفية كسر حاجز الثلج المرتفع بيننا، إلى أن كنت منذ شهور مع أستاذ جامعى مُصْهِر إلى فرع آخر من أسرتهم، وهو فى نفس الوقت صديقى وصديقهم، فجاءت السيرة، فإذا به ينهى إلىَّ أن أخا صديقى أحمد هذا قد مات. ثم ها هو ذا نفس الأستاذ الصديق يزيد فينبئنى منذ أيام أن أختهم قد توفيت هى أيضا. وهكذا أُغْلِق الطريق نهائيا تقريبا.