رومان حداد | الدولة.. مشروع وسياسي ومنظر
تذهب المدارس الحديثة لعلم الاجتماع على تنوعها لمقارنة السلوك الجمعي في المجتمعات البشرية بالسلوك البشري للكائن المفرد، حيث وجدت مساحات تقاطع بين السلوكين، وبات من الممكن الاستفادة من النتائج التي وصلت إليها الدراسات السلوكية والمعرفية المطبقة على الأفراد وقياسها على مستوى المجتمعات.
والدولة كأحد أبرز أشكال المجتمعات البشرية الحديثة خضعت لدراسات وتصورات ونظريات انطلقت من محاولات تبرير وجودها إلى حتميتها وكيفية إدارة الصراع فيما بينها وداخلها، وسواء تلك الدراسات التي حاولت تبرير وجود الدولة بداية أو تلك التي اعترفت فيها كضرورة تاريخية أو كحالة واقعية انطلقت من أن لكل دولة مجموعة من المصالح والمنافع تنتظم تحت ما يسمى بـ(مشروع الدولة)، فلكل دولة مشروعها الخاص المتمايز عن غيرها من الدول المحيطة بها يخلق مجموعة من المصالح الخاصة بها والتي تدافع عنها وتحاول تحقيقها وهو ما يعطيها هويتها الخاصة.
ولكن أي دولة يمكن، في مرحلة ما، أن تفقد مشروعها، وهو ما يعني فقدانها لمنظومتها الفكرية السياسية الاقتصادية الاجتماعية، مما يسبب خللاً في هويتها الجمعية يعيد طرح سؤال الهوية على مكوناتها من جديد، ويأتي ذلك كنتيجة لعمل منتظم ومقصود، في أغلب الأوقات، عبر خلق مسارات تحويلية سريعة اقتصادياً اجتماعياً داخل الدولة، مما يخرج الدولة عن مشروعها بعد فترة، فيجعلها في حالة من التيه، حيث يتوافر للدولة مجموعة من النظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولكنها لا تنضوي تحت ما يمكن تسميته بـ(مشروع الدولة)، وهو ما يؤدي إلى تشابك المسارات بين المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيخلق حالة (مسخية) ومساراً حلزونياً نحو هاوية بعيدة.
وخروج الدولة عن مشروعها له مجموعة من الآثار الجانبية التي تساعد على تسارع حالة التدهور، حيث تظهر مجموعة من أصحاب المصالح القادرة على إيهام مجموعات النخب داخل الدولة أنها الأقرب إلى صناع القرار أو أنهم شركاء في صناعة القرار، مما يعطيهم تميزاً لا يستحقونه، ويساعد في ذات الوقت على إبعاد من كانوا مقربين من مركز صنع القرار في مرحلة امتلاك الدولة لمشروعها، فيخلق حالة من التفريغ السياسي التي يتم سدها كفجوة بصورة متعجلة يمجموعة من طبقة الموظفين الكبار والمتوسطين.
وأخطر ما يترتب على غياب مشروع الدولة هو عدم امتلاك الدولة لمرجعية نظرية واضحة في التعامل مع كل قضية مستجدة أو إشكالية تواجهها، فيبدو الحل دائماً مجتزأً، يحاول التعاطي مع الإشكالية بمفردها بعيداً عن منظومة مشروع الدولة الغائب فلا تتراكم الحلول للقضاء على أساس المشكلة بل على ظاهر المشكلة، مما يبقي الأسباب المنتجة للمشكلة قائمة وبالتالي إمكانية ظهور المشكلة مرة أخرى قائم وقابل للحدوث.
أي دولة تفقد توازنها إذا ما فقدت مشروعها، ويجب على الدولة أن تتمكن من القيام باختبار ذاتي للتأكد من امتلاكها مشروعها أو ابتعادها عنه، وقد يكون من المؤشرات الرئيسة لامتلاك الدولة لمشروعها وجود مجموعة من المنظرين الحقيقيين للدولة ومشروعها، وهؤلاء يمتلكون القدرة على قراءة الملامح الأساسية للمستقبل السياسي الاجتماعي الاقتصادي للدولة، وهم قادرون بالفعل على وضع واجتراح تصورات (كلية) للحلول في بعدها التأسيسي التنظيري للإشكاليات التي تواجه الدولة، والتي يمكن وقوعها، بحيث تتوافق الحلول مع مشروع الدولة، بل وتقوم بتعزيزه وتأكيد صوابيته، إلى جانب أنها تجد الحلول العضوية للإشكالية لضمان عدم تكرارها لذات الأسباب في المستقبل القريب.
وعلى الجانب الآخر تمتلك الدولة (صاحبة المشروع) مجموعة متعددة من السياسيين القادرين على قراءة الحاضر بمستوياته المتعددة ورسم أفق مستقبلي قائم على أساس حرية التفكير وحلقات العصف الذهني القادرة على خلق سيناريوهات متعددة وإيجاد معادلة التعامل معها، كل ذلك بما يخدم مشروع الدولة ومقولاتها الرئيسة.
غياب (مشروع الدولة) لا يعني بحال من الأحوال انتهاء الدولة مباشرة، بل قد تستمر الدولة، كإنسان بلا مشروعه الشخصي أو هدفه الكبير، تائهة ومحتارة بلا هوية جمعية حقيقية تجمع مكوناتها البشرية، فتعيد العلاقات داخل منظومتها من علاقات مجتمع إلى علاقات تجمعات بشرية داخل مساحة جغرافية محددة، بانتظار ما ستفرزه المعادلات الجديدة من هذه العلاقات البشرية (اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً)، مما يدخل الدولة حالة (الكوما).
جريدة الراي