قصة قصيرة: (18) استغاثة !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
عاش في عصره الذهبي، وملاعق الذهب لا تفارق فمه بكل انسيابية وعفوية، تحت سقف مغربي كاذب أخاذ، يوحي بأنه ابن السلطان ! كان كل شيء في منزله يواكب بوصلة التغير.... لا تبقى الأثاث مستقرة في مكانها حتى ولو لم يلفها الغبار بل تتغير. كل أجهزة المنزل تخضع طواعية لسنة الاستبدال قبل أن ينال منها العطل.... قصر فريد نموذجي حالم كأنه في عصر ألف ليلة وليلة....العطور دائمة الحضور تشعرك بأنك في محيط مخملي يغريك بالاسترخاء بلا حدود. لعبت أنامل المهندس المعماري عملها في لفت نظر الزوار نحو التراث والإتقان والابتكار في البناء. كان قصرا لا يفتقر إلى أي شيء يدور في خلد الإنسان. المطبخ جد عصري يفتح الشهية على مصراعيها...، غرف النوم لا تراها سوى في الأحلام: أثاثا وإنارة وسجادا شاهنشاهيا وستائر تخلب اللب، أرضية مبلطة كأنها لوحة زيتية فسيفسائية تثير الفضول...... قصر فاره ذو جنينة تعج بألوان الزهور والثمار، تتوسطها نخلة فارعة الطول، تشد الأبصار. على شماله يرقد مراب يحتضن ثلاث مركبات حديثة الطراز. أبواب القصر الفخم الخارجية لا تعرف الغلق قط، تدوس عتبته أقدام الجيران والضيوف ليل نهار. الحيـاة داخل القصر مثالية، مفعمة بالرفاهية واليسر..... بتدفئة وتبريد نموذجيين، وتفيض وجبات الطعام الثلاث عن حاجة ساكنيه تقريبا كل يوم مما يجعل الأسر المتعففة، من بيوت الجوار، تتقاطر وتتراص أمام القصر لتنال قسطها من نعمة الله .
فجأة ، ودون سابق إنذار، وبسرعة البرق، دارت رياح الحياة عكس ما تشتهيه السفن. ونزلت المصائب والكوارث والفواجع دفعة واحدة، دون رحمة على الآلاف من النازحيـن والمهاجرين والمهجرين الأبرياء . حدث ما حدث كالصاعقة، بلمح البصر وبوضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد. تساوى الأغنياء والفقراء كأسنان المشط، تحت سقف خيام هزيلة لا تصلح حتى للمواشي. دخلوا المخيم دون إرادتهم، وشربوا ماء غير صحي، وتناولوا طعاما ملوثا بعيدا عن أجهزة التبريد. عاشوا فوق أرض مقفرة وسط القوارض والأفاعي والعقارب والبعوض تحت عتمة لا نراها سوى في أعماق القبور. تأقلموا مع الحر والبرد، والعواصف، والأمطار . وغالبا ما تطايرت الخيم بفعل الأعاصير العاتية، والرمال أعمت ، بلا تمييز، عيون الكبار والصغار. شبت النيران في أكثرية الخيم وقضى من قضى نساء ورجالا وأطفالا. سجلت الدوائر الصحية أمراضا لا تتناسب وكمية الأدوية المتوفرة. لقد تفشى الجرب وأمراض الجهاز الهضمي إضافة إلى التسمم. مشهد دراماتيكي بشع مرعب ، لم تشهده الإنسانية منذ فجر التاريخ ولحد الآن، سمته البارزة الإجرام وفقدان الضمير وعدم الأخلاق.
اجتمع الأغنياء مع جيرانهم الفقراء في الهواء الطلق، وهم شديدو الذهول ، كان لسان حالهم يقول: "ارحموا عزيز قوم ذل !"، يجترون ذكرياتهم اللذيذة التي أصبحت تراثا من الماضي، يحدوهم الأمل بالعودة إلى مسقط رؤوسهم حتى ولو أضحت بيوتهم أطلالا .
مزقهم الحنين إلى ترابهم المقدس، لاعنين كل من تسبب في نزوحهم وتشردهم، وكأنهم يغطون في نوم عميق، وسط كابوس قاتل .........
عقد علية القوم اجتماعا مطولا ... مستغلين وجود مسؤول برلماني جاء صدفة هناك، وحملوه مطالبهم إلى رئيس الدولة والتي لخصها محضر اجتماعهم المغلق الذي أفاد:
"أقصفونا بالطائرات والمبيدات....فالحياة لم تعد تطاق قط:
جوع، ومرض، وبؤس، وخوف، وإفلاس، وذل ولا بصيص أمل يلوح في الأفق. طال وقت النزوح والإذلال، وتمددت المعانات لتنال بوحشية من المسن والعاجز والمرأة والطفل. صبر جميل وبالله المستعان."