لمناسبة اليوم العالمي للكتاب : دعوة لوليمة القراءة
دمشق
تشرين الثقافي
ابواب
الاحد 11 نيسان 2010
د. خير الدين عبد الرحمن
بينما يحتفل العالم بيوم الكتاب في 21 نيسان، تفرض تجربة سنغافورة مع الكتاب نفسها نموذجاً باهراً يستحق التمعن. وقد ازدادت أهمية هذه التجربة بعدما كادت جائحة العولمة تنقل سنغافورة من حالة نجاح نادرة المثال في فترة قياسية إلى حالة تناقضها سعياً إلى تجديد النجاح بمعايير الأمركة الفاسدة لكن الكتاب تدخل مرة أخرى.. وهذه هي الحكاية:
بعدما تجاوز الثمانين من عمره بثلاث سنوات في العام الماضي، قال مهندس معجزة نهضة سنغافورة الاقتصادية والاجتماعية لي كوان يو، الذي أسس دولة سنغافورة وظل رئيساً لوزرائها سنوات عديدة : «إن العالم يتغير بسرعة وبقفزات واسعة إلى حد أن صارت لاس فيغاس نموذجاً للاقتداء»!
تعجب المثقفون قبل غيرهم : كيف يتحول الرجل الذي قاد سنغافورة وجعلها نموذجاً لنجاح التنمية الباهر وقدوة في عملية بناء الإنسان والمجتمع المنتج المنظم المبدع المثقف الذي تمكن من اقتحام التحديث وريادته في فترة قياسية إلى عجوز تبهره عاصمة القمار واللهو العابث الأميركية لاس فيغاس إلى حد جعله يدعو إلى اتخاذها نموذجاً تقلده سنغافورة بالذات ، التي صار نجاحها الباهر حلماً لكل مجتمع جاد في سعيه إلى التقدم ؟!
لم يخف الرجل في تصريحه ذاك عدم احترامه سلبيات لاس فيغاس ومثالبها التي لا تحصى ، فقد قال : «أكره كازينوهات القمار ، ولكن العالم يتقدم ويتغير... لاس فيغاس مدينة القمار والرذيلة والجريمة، هي أيضاً مدينة السياحة المتكاملة، فيها كل ما يبهر العين ويطرب الأفئدة ويملأ المعدة ويسعد العقل ويمتع الجسد.. دعونا نجرب.. بشرط أن نراعي أن تكون مدينتنا السياحية المتكاملة خالية من الدعارة، ونظيفة من المخدرات وعصابات الجريمة المنظمة وشبكات غسيل الأموال»..
قال الرجل هذا دون أن يخفي حذره الشديد من المجازفة الخطرة، وربما المدمرة، التي يتضمنها اقتراحه الذي أطلقه قبل بدء انتكاس جائحة العولمة . فقد اعترف بأنه غير قادر على الجزم بنتائج دعوته إلى تحويل سنغافورة من معجزة الازدهار الاقتصادي الناجح المبهرة إلى تقليد مدينة الموبقات لاس فيغاس قال الرجل مجدداً بترف: من استطاع أن يجعل لبلده رصيداً هائلاً من الثروة والنجاح ، بما يكفل لها تعويض فشل التغيير المقترح: لست متأكداً من نجاح هذه التجربة في سنغافورة.. ولكن لماذا لا نجرب؟.
طرحت دعوة لي كوان يو بإلحاح وعلى نطاق واسع تساؤلا مشروعا : هل فسد العالم إلى حد يجعل سنغافورة تتحول من نمط راقٍ في التقدم والتنمية المتكاملة والانضباط والعدالة والنظافة المادية والسلوكية إلى نمط الملذات المتكاملة الرخيصة في قيمتها، الباهظة في تكلفتها ؟
رد الرجل المحنك نفسه بالإيجاب قائلاً :« نعم، الدنيا تغيرت إلى الحد الذي يبرر النظر في احتمال تحولنا إلى نمط لاس فيغاس». واعترف الرجل بأن إعادة بناء سنغافورة وتغيير بنيتها التحتية لن يكون سهلاً، فسنغافورة دولة غنية، وإعادة بناء دولة غنية على نحو جذري أصعب بكثير من إعادة بناء دولة فقيرة أو فاشلة. كما أن من الصعب أيضاً تغيير العادات الاجتماعية ، خاصة في مجتمع تسوده تقاليد شرقية ، بعدما تعود الناس على الجدية المفرطة والانضباط الشديد والمغالاة في النشاط الإنتاجي ، حتى أنجزوا مجتمع الرخاء المتوازن والتنمية الشاملة التي تكفل ارتقاء المجتمع والوفرة الاقتصادية وارتفاع مستوى التعليم وتوفر أفضل الخدمات الصحية والاجتماعية والثقافية .
لن يكون يسيراً فرض منظومة أخلاق مدينة الملذات على شعب نمت فيه تيارات أخلاقية متشددة وبخاصة بين السكان المسلمين، حيث يتميز المجتمع السنغافوري بالأخلاق الطيبة والتكافل الاجتماعي والصدق والاحترام المتبادل والنظافة المذهلة والاحترام الشديد للقانون والنظام وانخفاض مستوى الجريمة إلى أحد أدنى مستوياتها في العالم . لهذا لا تشكل سنغافورة نموذجاً لنجاح التنمية الاقتصادية والاجتماعية فحسب، وإنما تشكل حالة شاذة في عالم نخره الفساد وتعاظم فيه التخريب الأخلاقي الذي تمارسه قوى الإفساد وتياراته . لعل هذا ما جعل لي كوان يو يقدم على دعوته الجديدة المغامرة إلى حد المقامرة قائلاً بصراحة : «إذا سمحنا لروابطنا بالعالم أن تضعف، فالمؤكد أننا سنعود إلى ما كنا عليه قبل عام 1965. ستعود سنغافورة قرية صيادين. لقد نجحنا في إقناع الناس عندنا بضرورة الوصول إلى ما وصلوا إليه من تقدم، مع أنه لم يكن لديهم نفط أو غاز. لذلك عملوا وأنتجوا وتقدموا وحققوا الهدف في فترة وجيزة. المشكلة الآن، هي أن أهل سنغافورة أغنياء، أي أنهم أقل حماسة واستعداداً لبذل الجهد والتضحية لتحقيق قفزة جديدة نحو التغيير والتقدم مثلما فعلوا عندما كانوا فقراء. هؤلاء وغيرهم في المجتمع من التيارات والأفراد الذين يقاومون التقدم يجب أن يجدوا من يجرهم جراً إلى المستقبل» .
استعرض جميل مطر اقتراح لي كوان يو في مقالة عنوانها ( لاس فيغاس المدينة الفاضلة ، الخليج ، 20/9/2007)، فلخص أهم مبررات الرجل للمجازفة بالدعوة إلى هذا التحول كما يلي:
* أولاً: المواطن السنغافوري الذي صنعته تجربة تحديث سنغافورة لم تعد مواصفاته صالحة لمسايرة تطورات العصر والتقدم التكنولوجي ومتطلبات الثورة المالية وثورة الاتصالات وأمواج العولمة.
* ثانياً: نمط سنغافورة في التنمية، وربما النمط الآسيوي بشكل عام. الذي حقق قفزة الاقتصاد في جنوب شرق آسيا منذ الثمانينات لم يعد مناسباً لاحتياجات الاقتصاد العالمي، وبخاصة جانب الخدمات والدور المتنامي لصناعة السياحة.
* ثالثاً: انحسرت منظومة القيم والأخلاق الآسيوية، وهي المنظومة التي ساهمت في تعزيز خطط التنمية في آسيا وكانت حديث علماء الاقتصاد والأخلاق والسياسة على امتداد عقدين من الزمن. وضرب لي كوان يو المثل بأحفاده. فقد اكتشف أنهم لا يجيدون اللغة الصينية وهي اللغة الأم ولغة العائلة الممتدة ولغة التراث والقيم والأخلاق، وفقدوا في الوقت نفسه المستوى الرفيع للغة الإنجليزية، لغة الإنتاج والعمل، وفقدوا الاهتمام بالقيم الكونفوشية، على عكس جيل آبائهم أي أبناؤه. ونستطيع الآن وبالنظر إلى أطفالنا في منطقتنا العربية أن نتفهم شدة اهتمام لي كوان يو بهذا الأمر، إذ كانت منظومة القيم الآسيوية وبخاصة قيم احترام المراتب والنظام والسن الأساس الذي شيدت سنغافورة عليه مشروع نهضتها.
* رابعاً: انشغلت أميركا بالشرق الأوسط، ولم تعد تجد الوقت الكافي لآسيا وبخاصة دول جنوب شرق آسيا. لقد تسبب العراق في نزف موارد أميركا وأضعف قدرتها على الانتباه ورسم خطوط سياسة طويلة الأجل في جنوب آسيا، وتكاد تكون سلمتها إلى الصين. ويؤكد لي في هذا الشأن ما يردده آخرون من الزعماء في جنوب شرق آسيا، إذ قال:«إن الصين هي التي ترسم الآن خطوط المستقبل في جنوب آسيا، وتضع قرارات إستراتيجية ستؤثر حتماً على علاقاتها بدول هذه المنطقة وبالتوازن العالمي» ..
لكنني أرى دوراً هاماً لقرار آخر سبق اتخاذه في سنغافورة قبل سنوات طويلة ، تغري ذكرى نجاحه بلفت النظر إلى إنجازاته الهائلة الماثلة للعيان. بل قل تجددت روح ذلك القرار ، فحفزت على البحث عن سبيل مختلف إلى إشباع رغبة التغيير على نحو أكثر جدوى وأقوى رسوخاً من الاقتداء بمدينة القمار واللهو الأميركية لاس فيغاس . ذلك هو قرار الوثوق بالثقافة وسيلة للتغيير ، وبالقراءة سبيلاً إلى إعادة صياغة المجتمع وبنائه في فترة قصيرة جداً.
كانت الحاجة الملحة هي تعزيز روح الوحدة الوطنية بين مواطني سنغافورة المنحدرين من أعراق مختلفة: صينية (نحو 75%) وماليزية (نحو 14%) وهندية (نحو 8%) وعربية- يمنية وعمانية (نحو 2% ) وأوربية (نحو 1%) . يتحدث هؤلاء السكان بعدة لغات، ويدينون بعدة ديانات ، وتتباين أنماط معيشتهم وثقافاتهم وعاداتهم نتيجة شدة نزوعهم إلى الاحتماء بالجذور . لذلك راهنت النخبة على القراءة لتعزيز ثقافة موحدة ، فأطلقت مبادرة توحيدية عنوانها: (اقرئي يا سنغافورة)... تم اختيار اثني عشر كتاباً آنذاك ليقرأها السنغافوريون على مدى عشرة أسابيع ومن ثم يتحاورون بشأنها. وقد أعطت هذه المبادرة أُكلها، حيث أوجدت اثني عشر موضوعاً ليتناقش الناس حولها. وأدى الحوار الواسع في سياق تلك المبادرة إلى تقارب سريع بين المجموعات العرقية والدينية والثقافية المتباينة التي تشكل المجتمع السنغافوري ، فخف الجذب الذي كان يمارسه الانتماء الإثني في اتجاهات متعاكسة ، وحل محله مزيد من تعزيز التعارف والاندماج الوطني التوحيدي بفضل الحوار. كان طبيعياً أن تتطور تلك المبادرة بعدما حققت نجاحاً ملحوظاً.
من المبادرات اللاحقة مثلاً مضاعفة العناية بالتعليم والثقافة لتعزيز فكرة المواطنة ولتسريع التنمية البشرية الشاملة ، فوضعت الحكومة خطة للبنية التحتية للمكتبات العامة بغرض تشجيع القراءة بدأتها عام 1992 وانتهت في عام 2000 بنجاح كبير، مما أدى إلى تأسيس مجموعة كبيرة من المكتبات العامة وتزويدها بأحدث التقنيات، وهي تلقى إقبالاً شديداً من الرواد، وخاصة من الأجيال الجديدة. كما تمت إقامة مزيد من المسارح المجانية الراقية التي تعرض مسرحيات عالمية ومحلية وأعمالاً تراثية، وانتشرت إلى جانبها المتاحف ومعارض الفنون في كل الأحياء.
تم أيضاً اعتماد التعليم متعدد اللغات جزءاً من إستراتيجية التعددية الثقافية ، من أجل رفع السوية العلمية والمعرفية للمواطنين . من طرائف نجاح الثورة التعليمية والثقافية والعلمية في سنغافورة ذات العدد الصغير جداً من السكان، الذي يماثل عدد سكان مدينة صغيرة، إن هجرة مواطنيها المتعلمين لا تثير أي قلق ، لا شعبياً ولا حكومياً ، على نحو ما تسببه هجرة العقول في البلدان الأخرى ، ففي مقابل كل سنغافوري يغادر بلده يأتي أربعة عشر شخصا معظمهم من الخبراء والمؤهلين تأهيلاً عالياً ليحلوا محله بصفة دائمة!
وما كان للبعد التعليمي والثقافي في المعجزة التنموية السنغافورية أن ينجح لو لم تعاضده أبعاد أخرى تكاملت معه ، في ظل معايير وقيم تم الالتزام الصارم بها حكومياً وشعبياً ، فنقلت تلك المدينة (الجزيرة) الدولة الصغيرة إلى مصاف أكثر الدول تقدماً ورقياً ونظافة وعدلاً ورخاء في العالم . من أبرز هذه المعايير والقيم اعتماد معيار العدالة القائمة على الكفاءة والقدرة والفاعلية، بعيداً عن المحاباة والتحيز لأي اعتبار أو سبب، والتطبيق الصارم لمبدأ تكافؤ الفرص والتنافس النظيف والتعيين عبر لجان متخصصة تتميز بالصدق والنزاهة وتخضع للمراقبة والمتابعة الدورية شعبياً وحكومياً. لقد نجح تضافر الجهد الحكومي والشعبي والقضائي والحزبي في التضييق على منافذ الفساد الإداري، وتسهيل تجنيس الناجحين من الأجانب المقيمين، سواء كانوا خبراء أو فنيين أو رجال أعمال .
من قال أن القراءة تتراجع عالمياً، أو أن الثقافة النظيفة تذوي ؟ عندما تتوافر قيم أصيلة وإرادة قوية وإيمان راسخ وحسن تخطيط وثقة بالذات واطمئنان عام إلى نزاهة القائمين على التغيير، تصبح القراءة أسرع وسائل النهوض، وتصبح الثقافة ضمانة مستقبل رخاء ونجاح لأجيال وأجيال!
عسى أن يقترب يوم يستجيب فيه ثلاثمئة مليون عربي لنداء برنامج( اقرؤوا يا عرب )، تمرداً على مأساة راهن القراءة العربية، فلدى العرب من مقومات الوحدة ومبررات النهوض أكثر بكثير مما كان لدى الذين وحّدهم نداء : (اقرئي يا سنغافورة )!
قصر الأمير عبد القادر الجزائري في فيلم وثائقي سوري
مظفر سلمان.. اصطياد (الحالة) الحائرة الملتبسة بالجمال
بخصوص الثقافة الأهلية
أعمال كنفاني وحبيبي و جبراأبرزنماذجها صور الفلسطينيين في رواياتهم
الجمهوروالأباطرة
الشاعر الغاضب والمتمرد والضجرمحمد الماغوط: الغياب الرابع
يعيش بهويتين ثقافيتين جيلبير سينويه: كتابتي هي خليط من الرواية والتاريخ
جمالية الصورة السينمائية
تاريخ العرب في جزيرة العرب
كتب
الرابحون لخوليو كورتاثاراستقراء الكابوس وصولاً إلى التزامن
من مدينة صناعية إلى مدينة ثقافية
مسودّة الكاتب
مهمة التأسيس
هل يفتت تهميش المجتمع الأهلي الثقافي جهود التنمية
المجتمع الأهلي والتنمية الثقافية وضرورة الدولة
ماذا يعني أن تكون فاعلاً ثقافياً مستقلاً؟
نحو مجتمع أهلي واع ٍ وفعال.....
نحو تأسيس مفهوم جديد للنقد النسوي
لمناسبة اليوم العالمي للكتاب : دعوة لوليمة القراءة
من جبل الشيخ إلى حلب وقلعة الحصن
بأمر من المحافظة: اليوم يزال مشغل آخر «القزازين» في دمشق
وعليه أوقّع
ابحث عن: بحث متقدمالبحث في الأرشيف ابحث عن:بحث بين تاريخين: سنة-شهر-يوم سنة-شهر-يوم أي من الكلمات كل الكلمات معاًالبحث ضمن العناوين والمحددات فقط المصدر -جريدة تشرين
http://www.tishreen.info/_book.asp?F...20100411091151