إشْتبَاكٌ
... وما هي إلا دقائق معدودة من السير الحثيث على الأقدام، وتنقل خاطف من زقاق إلى زقاق بهتافات منثورة مسلية، وبشعارات منظومة مدوية، وتوزيع لأوراق مطبوعة من مختلف الأحجام، وطرق عنيف للأبواب بالأيادي الباطشة، وطبل مقروع ومزمار منفوخ ورقص بأرجل طائشة، حتى التقى الجمعان، وارتفعت الأصوات بالشتم المتبادل وبالهجاء الذي يحار في بلاغته كل بيان، وإذا بالصفير قد احتد من هذه الفئة ومن تلك الفئة فصم الآذان، فتراشقوا بالحجارة والبصاق وبديوان سفاهة مجرد من الغلاف وليس له أي عنوان، وغدوا فرجة كريهة لأهل الحي ولعابري السبيل بالمجان، ثم حمي الوطيس، وصار الحشد مشهداً موسوماً ببئس المنظر البئيس، ومتبوعاً بقول: سحقاً لمن كان لهؤلاء خير جليس، واللعنة على ما يحتويه هذا الكيسُ ...
التحق بهم ركضاً من كل حدب وصوب جمع كبير، ولم ينأ بنفسه عنهم في الحين إلا رهط يسير، فتلاطمت الأجساد بالأجساد، وغاصت النفوس في وحل البغضاء والشحناء وفي مستنقع الأحقاد، ثم اصطدمت العصي الغليظة بالعصي مائلة مرعدة، وتطاير الشرر من ارتطام السكاكين بالسكاكين لامعة مبرقة، فهوى إلى الأرض كثيرون، وداستهم الأقدام والغبار علاهم وهم يستغيثون، حتى خيل لمن حضر الوقيعة أنها معركة ضروس، وكادوا يجمعون على أنها تكملة لحرب البسوس، وأوشكوا على الجزم بأن صوتاً قد نادى قبيل اندلاعها واشتداد أوارها: حي على الجهاد، وأن صوتاً آخر رد عليه دون تأخير: لكم اليوم منا الموت الزؤام يا أوغاد ...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com