دروس من العدوان على غزّة
صبحي غندور*
جيّدٌ طبعاً هذا الصمود العظيم الذي أبدته المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، لكن ما تحتاجه القضية الفلسطينية الآن هو أكثر من صمود قطاعٍ بمفرده، فهي تحتاج إلى إنتفاضـة شـعبيـة فلسـطينيـة شـاملـة تضع حدّاً لما حصل في العقدين الماضيين من تحريف لمسـار النضال الفلسـطيني، ومن تقزيم لهذه القضيـة التي كانت رمزاً لصراع عربي/صهيوني على مدار قرنٍ من الزمن، فجرى مسخها لتكون مسألة خاضعة للتفاوض بين سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وبين الدولة الإسرائيلية التي رفضت الاعتراف حتّى بأنّها دولة محتلّة، كما رفضت وترفض إعلان حدودها النهائية.
وكما كان من الخطأ تصغير حجم القضيـة الفلسـطينيـة في مجال العمل السـياسـي والمفاوضات، سـيكون كذلك من الخطأ الاسـتمرار في تحجيم عمل المقاومـة الفلسـطينيـة ضدّ الاحتلال بحصره على جبهـة غزّة فقط. فلو تتحقّق فعلاً وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة برنامج العمل على مستوى كل المنظمات الفلسطينية الفاعلة داخل الأراضي المحتلة وخارجها، لكان من المهمّ عندئذٍ أن يتكامل أسلوب العمل السياسي ومسار التفاوض، مع أسلوب المقاومة الشعبية الشاملة في كل المناطق الفلسطينية، ومع أسلوب المقاومة المسلّحة حينما يضطرّ الأمر إلى ذلك.
فالمشـكلـة الأسـاسـيـة تكمن في الانقسـام الفلسـطيني الذي ازداد حدّةً بعد توقيع اتفاقيات "أوسلو" والتي ثبت عجزها بعد عشرين عاماً في تأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. لذلك كانت الآمال كبيرة في أن تكون حكومة الوحدة الفلسطينية مدخلاً إلى توافق وطني فلسطيني يُحقّق التكامل بين العمل السياسي والعمل المقاوم، بين الضفّة وغزّة وكل الأراضي الفلسطينية، وبين عموم الشعب الفلسطيني أينما كان.
طبعاً، كان في الأهداف الإسرائيلية للعدوان على غزّة، إضافةً لإضعاف المقاومة المسلحة واغتيال قادة لها، إعادة الشـرذمـة للجسـم الفلسـطيني من خلال ما يمكن أن يترتّب على العدوان من إحراجات لقيادة السلطة التي لا تستطيع تبنّي العمل المقاوم المسلح (بسبب إلتزامات أوسلو) ولا يمكن أيضاً أن تقف متفرّجة على ما يحدث في غزّة!!
أيضاً، في الأهداف الإسرائيلية للعدوان على غزّة، إمتحان لمدى إلتزام الرئيـس الجديد في مصر بإتفاقيات "كامب ديفيد" وبالمعاهدة مع (إسـرائيل)، إضافـةً إلى دراسـة ردود الفعل العربيـة والإسـلاميـة بعد إزاحـة "حركـة الأخوان" عن الحكم في مصر، والتي كانت تدعم "حركة حماس"، وبعد التطورات الأخيرة في العراق وسوريا حيث مخاطر التقسيم والحروب الأهلية تتصاعد في دول المشرق العربي، وهي مخاطر تصبّ كلياً في المصالح الإسـرائيليـة، وتجعل "العربي يكره أخاه العربي أكثر من كرهه للإسرائيلي"!
وتستفيد (إسرائيل) طبعاً من الموقف الأمريكي الذي يعتبر كلّ عدوانٍ لها على غزّة بأنّه "دفاع عن النفس"!! فإدارة الرئيس (أوباما) مصابة بداء الإدارات الأمريكية السابقة، التي تقف دائماً مع المعتدي الإسـرائيلي ضدّ الضحيّـة الفلسـطيني، وتُبرّر الأعمال العدوانية الإسرائيلية بحجّة "الدفاع عن النفس"! فقد وجدنا إدارة (أوباما) تعكس الإنحياز الخطير (لإسرائيل) في الإعلام الأمريكي ولدى أعضاء الكونغرس، دون حتّى إشارة بسيطة من الرئيس (أوباما) لمعاناة الشعب الفلسطيني المحاصر في غزّة منذ سنوات، أو لجذور المشكلة التي هي الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود. وكانت التصريحات الأمريكية عن "حق (إسرائيل) بالدفاع عن نفسها"، وبأن "لا دولة يمكن أن تقبل بتعرّضها للصواريخ دون الرد"، فيها إجحافٌ كبير بحقّ الشعب الفلسطيني. فأيضاً، لا شـعب يمكن أن يقبل بالاحتلال لعقود، وبالحصار لسـنوات دون أن يُقاوم ذلك!! ألم تكن ولادة "الولايات المتحدة الأمريكية" التي احتفلت في مطلع هذا الشهر بعيد استقلالها هي حصيلة مقاومة الهيمنة البريطانية ورفع شعار "عش حراً أو مت"؟!
فتصريحات "البيت الأبيض" والخارجيـة الأمريكيـة وأعضاء في الكونغرس، كلّها تُكرّر ما يقوم به معظم الإعلام الأمريكي من تشـويـه لحقائق الصراع العربي والفلسـطيني مع (إسـرائيل)، ومن تصوير للمشـكلـة الآن في غزّة وكأنّها أزمـة بين دولتين اعتدت إحداهما على الأخرى! أو كأنّ ما تفعله (إسرائيل) في غزّة هو مشابه لما تقوم به أمريكا وحلف الـ (ناتو) في أفغانستان وفي أماكن أخرى من ملاحقة وقتل لجماعات "إرهابية"! فموضوع "الاحتلال الإسـرائيلي" مغيَّب عن المواقف الرسـميـة الأمريكيـة ومهمَّـش كثيراً في الإعلام الأمريكي، كما هو الظلم أيضاً في مسـاواة مسـألـة "الإرهاب" بالمقاومـة ضدّ الاحتلال.
لكن المشـكلـة ليسـت في الموقف الأمريكي فقط أو في بعض المواقف الدوليـة الأخرى، فالأوضاع العربيـة مسـؤولـة أيضاً عن حجم المأسـاة التي عاشـها ويعيشـها الشـعب الفلسـطيني. وهل كانت حكومة (نتنياهو) لتُقدِم على هذا العدوان، كما أقدمت على مثله أكثر من مرّة، لو كانت الضفة وغزّة والقدس في حالٍ من التوحّد والتنسيق الجاد سياسياً وأمنياً؟! ثمّ إنّ غزّة، قبل حرب العام 1967، كانت قطاعاً فلسطينياً تحت الإشراف المصري الكامل، وتخلّى أنور السادات إثر معاهدته مع (إسرائيل) عن مسؤولية القطاع، فهل كان ليحصل هذا العدوان الجديد على غزّة لو ربطت مصر بين استمرار المعاهدة مع (إسرائيل) وبين إقامة دولة فلسطينية تضمّ الضفة وغزّة والقدس، إضافةً طبعاً إلى ضرورة فتح المعابر بين غزّة ومصر؟! ولماذا لا تحصل غزّة والشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال على ما حصلت وتحصل عليه قوى سياسية عربية مسلّحة قاتلت في ليبيا وتُقاتل الآن في سوريا والعراق؟! أليس هذا مخالفٌ لما يُفترَض حدوثه عربياً من مقاومة مسلّحة ضدّ الاحتلال، ومن مقاومات سلمية ضدّ حكومات؟!
إنّ عناصر المواجهـة العربيـة والفلسـطينيـة للاحتلال الإسـرائيلي ما زالت حتّى الآن غائبـة. فوحدة الشعب الفلسطيني ومنظماته وقياداته هي العنصر الأهم المفقود حالياً، وكذلك الحدّ الأدنى من التضامن الرسمي العربي ما زال بعيداً، والدور المصري الريادي في المنطقة لم تتمّ استعادته بعد. كلّ ذلك هو الواقع الآن، إضافةً إلى استمرار حروبٍ أهلية عربية بأشكال مختلفة، وتزايد عوامل التفكّك لا التوحّد في المجتمعات العربية. فكيف لا تستفيد حكومة (نتنياهو) من هذا الواقع العربي المزري، وكيف يأمل البعض بتغيير المواقف الأمريكية والدولية لصالح الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟!
(نتنياهو) امتحن في غزّة قوى فلسـطينيـة وعربيـة ودوليـة في ظلّ غياب القوّة العربيـة الفاعلـة، لكن ربّما "فوائد" ما يحدث الآن هي إعادة الحيوية لقضية فلسطين، التي جرى تهميشها عمداً في السنوات الماضية، وبالتالي تصحيح "البوصلة" العربية، بعدما تسبّبت "معارك التغيير الداخلي" بفقدان معيار معرفة الصديق من العدوّ!
14-07-2014
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن