نشرت الشمس غدائرها الصباحية لتوشح الحقول و البيوت ، و بدت وجنات التلال وضاءة يلثمها النور ، و استقبلت الأشجار أعراس الطيور و البراعم ، و توزع الفلاحون نساءً و رجالاً في الدروب ، يتمتمون بالدعاء و البركة ، يتوضؤون برائحة الزروع ، كأن تعبهم صلاة في رحاب الطبيعة .
تصحو سمحة مع الشروق ، تهيئ بناتها السبع ، تجدل شعورهن ، تزينها بملاقط ملونة ، تصنع لهن عرائس من خبز
و زعتر ، أو جبن و نعنع ، ليحملن حقائبهن متوجهات إلى المدرسة .
يخلو البيت من نغوشة البنات ، و يبقى شخير عباس يملأ أذني سمحة ، و يبعث في نفسها الخشية و التقزز ، فاسترجعت هيجانه و غضبه الليلة الماضية ، حين طلبت منه أن يسمح لها بحضور دروس تعليم الأميين مع عدد من نساء البلدة ،
و وعدته أن تذهب إلى الحقل ، حالما تنتهي من دروسها ، رجته ، توسلت إليه كي لا تفوتها فرصة التعلم .
انتعل وجهه الغضب و اللؤم ، و بدا كأنه معفر بالغبار ، و قذف فمه بسياط الكلام ، الذي ألبسها ثوباً من الشتم
و القهر و الذل ، هددها بجملة اعتاد لسانه عليها ، حتى صارت لازمة يطلقها إثر كل مشكلة مهما صغرت بينهما ، أوصاها أن تنهي حصاد حقل العدس قبل فوات الأوان ، و إلا سيتزوج امرأة تلد له ولداً ، فهي لم تلد إلا الإناث .
صارت تمقت الحديث معه لكي لا تسمع هذه اللازمة الكريهة ، يرددها مئات المرات أمام الناس كل يوم ، كأنه سيفتح حصون الأعداء .
تسلحت بمنجلها ، لفت ثوبها حول خصرها ، سندت ظهرها بكفها ، و ركبت الطريق مشياً على القدمين المتعبتين ،
و ما يزال في أذنيها ، يتردد صدى شخير زوجها عباس ، رغم ابتعادها بين حقول الشعير و العدس ، التي لوحتها الشمس بسياطها اللاهبة .
كانت قد طلبت منه ليلة البارحة أن يرحم توجعها و هي في شهرها السابع من الحمل ، فهي تشعر بآلام في أحشائها ، و حركة تتكرر داخلها منذ أيام ، تنبئ عن مخاض جديد ، فنهرها و وبخها ، مدعياً أنها تقوم بأساليب الدلال الممجوج بالنسبة له ، فهو يعرف أن وقت المخاض بعيد .
مشت بإصرار رغم حملها الثقيل ، تتعثر و تنهض ، و حين يشاهدها المارون في دربها ، ينصحونها بالعودة إلى بيتها لتستريح ، رغم علمهم أنها مغلوبة على أمرها مع زوجها المهووس بالعزة الفارغة ، و هو يسعى ليكون وجيهاً في البلدة ، يحلم بها كما يحلم بولد ذكر ، يتصور أنه وحده مركز لحل مشاكل الناس و قضاياهم ، فكيف يلوث يديه و سمعته في تراب محصول العدس و شوكه ؟ ، فيرمي بالأعمال الخاصة بالبيت و الحقل على زوجته ، يعتقد أنه في مركز هام من المسؤولية العامة ، فلا يليق به تلطيخ ثيابه و هيبته بغبار العمل .
يقضي ليله ساهراً ، يحيط به عدد من الرجال ، و هم ينفخون فيه التميز و التفرد ، يخوضون في أعراض الناس
و سلوكهم ، و يطلقون عبارات يظنون أنها أحكاماً نهائية ، و على المجتمع في البلدة تنفيذ ما يقررون .
استيقظ من نومه منتصف النهار ، كان يحيط به عدد من الأصدقاء اللاهين ، يلعبون الورق ، يقتلون الوقت ، في حين زوجته سمحة ، تنهمك بجد متحاملة على أوجاعها و مخاضها ، لتأكل بمنجلها المحصول ، ثم تجمع كوماً متباعدة ، تعمل بلا استراحة ، لا فرق بينها و بين دابة البيدر ، التي تجر نورجاً تلف به و تدور طيلة يومها ، كانت مهدودة مقهورة ، تتوزع نفسها بين بناتها و طموحها بالتعلم لتمحو أميتها مثل الكثيرات من نساء البلدة ، و بين الإنتظار و الرضى بما هي فيه ، فهذه قسمتها و لا تقدر أن تحتج أو ترفض .
لكنها مع ذلك كله تنتظر الفرج ، كل يوم ينمو الأمل في نفسها ، مثلما ينمو الجنين في أحشائها ، ستثبت لزوجها
و للناس ، أنها تستطيع أن تلد ولداً ، و عندها سيتوقف عن ترديد كلامه الحارق ، الذي تحسه الآن يطن في أذنيها ، مثلما يدوي شخيره المقرف ، كأنه الصدى .
تتذكر صباها ، يوم كانت أجمل بنات البلد ، يحسدنها على حسنها ، و يتهافت الراغبون للزواج منها ، أغلب صديقاتها يتوقعن لها حياة رغد و دلال عند رجل يحبها و يقدرها و يهتم بها .
بدأت تغني من خلال دموع عنيدة ، تسلي نفسها بصوت خفيض ، كانت الحسرة تلتهم رئتيها ، و راحت الشمس تتكئ على عكازة المغيب ، و هي بعيدة عن الحصادين و الفلاحين ، منعزلة وحدها ، أحست بشيء من الإجهاد فاستراحت إلى جانب كومة عدس محصود تستظل بها ، و أحست بجفاف
في حلقها و مرارة فمها ، شربت بقايا ما أحضرته من ماء ، كانت معدتها خاوية فهاجمها دوار ، و لم تعد قادرة على تثبيت رأسها أو نظرها ، تقيأت لا شيء ، حاولت جاهدة أن ترى الطريق البعيدة ، كأنها تستجدي أي مخلوق لتستند عليه ، فامتلأ المكان بصوت الشخير ، يتخلله ألفاظ مرة ، من التهديد و الوعيد ، تقيأت مرة أخرى لا شيء ، تمددت ، وضعت حجراً تحت رأسها ، ثم أغمضت عينيها ، لعلها ترتاح ، لكن آلام المخاض فاجأتها ، فكبتت صرختها، و عضّت راحة كفها ، جمعت طرف ثوبها و حشته في فمها ، تقلبت و تلوت ، أحست بآلة حادة تقطع كبدها ، لم يرها أحد ،
و لم يسمع أنينها أحد.
بقيت مدة في صراع مع أوجاعها ، ثم استكانت و غابت عن الوعي ، و ما عادت تسمع أو ترى أي شيء حولها .
عاد الناس إلى بيوتهم من حقول الحصاد ، يهد أجسادهم التعب ، و يسعدهم العطاء القادم .
وراحت الشمس تودع أصدقاءها ، لتهيئ نفسها لشروق يوم جديد ، بينما كان عباس يصرخ في وجه بناته ، و يزعق شاتماً أمهن الكسولة ، حين يرى الناس جميعهم عادوا إلا هي ، لا يشعر بما يطلقه من رصاص التوبيخ المجاني ، كأنه جزء من طبيعة الوجاهة التي يسعى لنيلها .
يبدو قد تكدس في لا وعيه خمائر حامضة من القهر الذي عاشه في سنوات الطفولة تحت سلطة أب ظالم متخلف ، فيقوم بإفراغ ما يحتشد فيه من حقد في وجه زوجته و بناته بأشد مما كان يعامله أبوه به ، كأنه ينتقم لنفسه من أقرب الناس إليه ، يجرب سلطته عليهن ، و يجد راحة في ظلمهن وعذابهن و كثيراً ما يلقى تشجيعاً و استحساناً من بعض المستفيدين أمثاله من أصدقائه المتخلفين .
كان مساء هذا اليوم شاحباً متألماً ، يتوحد في سداميات الكون فضاء من غبار بني مرعب ، و تنشأ في الأفق حزم من سحاب داكن يغلف الشمس الزاحفة نحو المغيب .
تناثرت نجمات بلورية في ذهن سمحة ، أبهجت مخيلتها ومضة الوداع الأخير ، كأنها صحت للحظة ، ثم غابت ، أحست أنها تزف لعباس فرحاً قادماً ، تسكب فيه شهوة الغناء ، و نسج الحلم ، و إنبات الأمل ، لكنه لا يستحقه فضاع .
صعدت الروح إلى ملكوت أيقظ جسداً من تراب و ماء ، كأنها تقول هذا ابنك ، لقد منحتك الآن ميسماً يحيل إليك فرادتي .
في هذا الوقت المسائي ، يمرق بضعة أولاد ، يقفزون و يلعبون قريباً من رقدة سمحة ، يسمعون صرخة وليد ، يتنبهون ، يقتربون ، يصرخون بخوف ، و يركضون بلهفة بلا توقف حتى وصلوا البلدة ، ليزفوا الخبر لعباس و أهله ، أبلغوا كل من شاهدوه ، حتى تجمع الناس بفرح ملأ الطريق و الوادي ، غنوا و رقصوا و زغردت النساء ، و أحاط الصبية بعباس يطلبون مكافآت ، فرشرش نقوداً بلا حساب .
يكاد يطير نشوة ، تجمعوا حول سمحة ، كان بين ساقيها وليد يغلفه التراب .
حمله بكفيه فتدلى رأسه ، و ارتخت أطرافه كخرقة مبلولة ، قربه من وجهه ، حدق فيه ، لم يجد أمله ، كان قد فارق الحياة منذ ودعته الشمس .
حركوا سمحة ، سقوها ماء ، غسلوا وجهها ، احتضنتها أمها و صرخت بلوعة ، بكت بناتها ، و بكى الناس جميعاً ، كانت أطرافها باردة ميتة .
و تحول فرحهم و غناؤهم و زغاريدهم إلى عويل و أسى .
عم المساء كل الأمكنة و أوت القبرات إلى أعشاشها ، و تحولت نظرات الناس في ذهول إلى عباس ، ترشقه بما تختزن
من احتقار .
</b></i>