د. مصطفى يوسف اللداوي
كاتبٌ وباحث فلسطيني
تركيا باللغة العربية
في ظل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، نهاية العام 2008، وتحت ضغط الصورة الدموية والوحشية التي خلفتها آلة الحرب والدمار الإسرائيلية، والتي حصدت أرواح مئات الفلسطينيين، ودمرت بيوتهم ومساكنهم، قررت تركيا أن تطلق فضائيةً تركية ناطقة باللغة العربية، تطل من خلالها على الوطن العربي كله، وتخاطب سكانه بلغة الضاد، وبلسانٍ عربيٍ مبين، لتحاول أن تبني من خلالها مع الأمة العربية، جسوراً من الثقة والتعاون، وأن تستعيد ماضيها العريق لدى العالم العربي، الذي قضت فيه حاكمةً مئات السنوات، بعد فترةٍ طويلة من القطيعة معهم، والتقارب مع الدولة العبرية، وكانت تركيا قد نجحت في الدخول إلى البيوتات العربية كلها، من خلال مسلسلاتها المدبلجة إلى اللغة العربية، وقد استطاعت من خلالها أن تثبت قدرتها على الولوج إلى العالم العربي، لتشابهٍ كبير في العادات والتقاليد، ولتشابهٍ أكبر في الأسماء والأعلام، وقد تركت المسلسلات التركية أثراً كبيراً لدى المشاهد العربي، كما أفسحت المجال واسعاً نحو مزيدٍ من الانتاج الفني التركي، كان آخرها مسلسل "صرخة حجر"، الذي يروي المعاناة الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويصور الحياة اليومية الفلسطينية في ظل الحصار والعدوان، وقد أثار المسلسل غضباً إسرائيلياً، وسبب في أزمةٍ دبلوماسية كبيرة بين البلدين، لم تنقضِ إلا بإعتذارٍ إسرائيلي واضح وصريح، في سابقةٍ لم تتعود عليها الحكومات الإسرائيلية.
تطل تركيا الحديثة، العثمانية الإمبراطورية، الإسلامية الهوية، على العالم العربي، بفضائيتها الجديدة الناطقة باللغة العربية، وقد تهيأت بآلاف الساعات الوثائقية التي تروي معاناة الشعب الفلسطيني، وتوثق بالصورة والأدلة والبرهان الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وتكشف عن المؤامرات الإسرائيلية ضد المسجد الأقصى المبارك، وتحاول أن تنبه العرب والمسلمين إلى خطورة المخططات الإسرائيلية، الهادفة إلى تهويد الحرم القدسي، والسيطرة على باحاته وساحاته، تمهيداً لهدمه، وبناء هيكل سليمان المزعوم مكانه، وإمعاناً في تأكيد الهدف التركي من الفضائية التركية الناطقة بالعربية، فقد قام رجب طيب أردوغان بشخصه بافتتاح الفضائية، بحضور ومشاركة العديد من الشخصيات العربية، في رسالةٍ تركية واضحة، أننا معكم في المطالبة بحقوقكم، وفي استعادة أرضكم، وفي مواجهة عدوكم، وفي إعادة بناء ما دمره وخربه العدوان الإسرائيلي، وفي رسالة تحدي واضحة وصريحة إلى الحكومة الإسرائيلية، بأنهم صناع الحرب، وأنهم سبب فقدان الأمن في المنطقة، وأنهم مصدر القلق والاضطراب في العالم، معلناً أن أمن تركيا إنما هو في استعادة الفلسطينيين لحقوقهم، وتمكينهم من بناء دولتهم، والعودة إلى وطنهم.
القناة التركية الناطقة باللغة العربية، عنوانٌ صريح لرغبةٍ تركية صادقة في الانفتاح على العالم العربي والإسلامي، وهي جزء من سياسةٍ رسمية وشعبية تستهدف تنمية التجارة البينية، والتكامل الاقتصادي والصناعي مع الدول العربية، وتسعى لتصفية المشكلات المزمنة معهم، وتقاسم الثروة المائية معهم، وتعزيز المواريث المشتركة بينهم، وهي كثيرةٌ ولها أصول موغلة في عمق التاريخ، كما أنها محاولة لنقل التجربة التركية إلى العالم العربي، والاستفادة منها في عملية النهوض والتنمية، والتطوير التقاني والمعرفي، وبناء أسس التبادل الثقافي، والفضائية التركية تسعى لإيصال صورة واضحة عنها، لرجال الأعمال والمستهلكين العرب، عن المستوى الذي بلغته تركيا في قدراتها الاقتصادية والتنموية والصناعية، وأنه من الممكن للطرفين أن يستفيدا في تطوير العلاقات الثنائية بينهما، وفي خلق أفاق لتجارةٍ بينية ناجحة بعيداً عن الأسواق الغربية، التي تحتكر وتفرض شروطها القاسية على منتجات الدول العربية.
وهي تسعى للتأكيد على علاقاتها التاريخية المشتركة مع العرب، التاريخ والثقافة والفن والموسيقى والدين والعادات والتقاليد، إذ أنها ستكون قناة عائلية، تخاطب الكبير والصغير والمرأة والرجل، وستساهم في عقد اجتماعات حوار للمثقفين العرب والأتراك، حول العديد من القضايا التي تهم الطرفين، وتساعد في مد وتمتين جسور التعارف فيما بينهم، وسيكون من مهام الفضائية التركية الوليدة، نقل وتعريف المشاهد العربي بصورة المجتمع التركي من الداخل، وطريقة عيشه، وستسلط الضوء على المعالم التاريخية والجغرافية ، والآثار المنتشرة في كل بقعة من تركيا، وستنقل إلى المشاهد العربي صورة عن الريف التركي، وما يقوله الشارع التركي في مختلف القضايا، التركية والعربية والدولية، وسيتعرف العرب على صورة تركيا الحديثة، بمشاهير كتابها ومفكريها، وبرواد الفن لديها، وبالرموز السياسية والعلمية والثقافية، الذين يحركون ويؤثرون مختلف جوانب الحياة في تركيا، وستتيح الفضائية الفرصة لتعريف المشاهد العربي، بأعظم العمارات الإسلامية التي بناها سلاطين الدولة العثمانية، تاركين خلفهم أعظم المساجد عمارةً، وأكثرها شهرة، وسيتمكن المشاهد العربي من الاطلاع بشكلٍ صحيح على التطورات السياسية والاقتصادية، وعلى كافة جوانب الحياة في تركيا، بفضل نشرات الأخبار والبرامج الحوارية التي تبث خلال أيام الأسبوع، وتتطلع الفضائية التركية لأن تساهم في تطوير العلاقات الاقتصادية بين كلا الجانبين، كما ستتيح القناة التركية العربية الفرصة لنقل اللقاءات الهامة والبرامج التي ستجريها في البلدان العربية إلى الشعب التركي، بفضل قنوات مؤسسة الاذاعة والتلفزيون التركية الأخرى، ما يعني أن القناة العربية ستتولى مهمة ثنائية الأهداف.
والسياسة التي تعتمدها تركيا في فضائيتها العربية، سياسةٌ نظيفةٌ بريئة، ليس فيها خبثٌ ولا دهاء، ولا تسعى لاستمالةِ فريقٍ من العرب، أو التأثير على عقولهم وأفكارهم، أو إحداثِ فرقةٍ وخصومةٍ بينهم، أو تأليبِ فريقٍ على فريقٍ آخر، كما تسعى وسائل الإعلام الغربية، التي تتوجه بخطابها العربي إلى قطاعاتٍ واسعة من عالمنا العربي، بقصد التأثير عليه، وتحويل أفكاره، وثنيه عن معتقادته، وتأليبه على مجتمعه، والانقلاب على قيمه وموروثاته، وقد أغضبها كثيراً افتتاح تركيا لفضائيتها العربية، وانفتاحها على العالم العربي، فهي تخشى فضح حقيقتها، وكشف زيفها وخداعها، من خلال ما تبثه من إعلامٍ مسمومٍ خبيث، ولكن الهدف التركي من مخاطبة العرب بلسانهم مختلف، فغايتهم نبيلة، وأهدافهم تعزز من قوتنا، وتطور من قدراتنا، وتصقل خبراتنا، وتزيد في حجم التعاون المشترك معنا، وهي تريد خلق فرص للحوار العميق مع العرب، الذين يمثلون عمق الشرق، بعبقه القديم، وثرواته الهائلة، ومقدساته الدينية، وهو حسب ما قال رجب طيب أردوغان في حفل الافتتاح إنها ليست محاولة احتواء، بل هو مشروع انفتاحي تواصلي لا أكثر، وتحدث عن حجم التداخل بين العرب والأتراك، وتقارب الأمثال والأقوال المأثورة لدى الفريقين، وكيف أن الأتراك تابعوا عبر السنين نجوم الطرب، وكبار الشعراء والفنانين والمفكرين العرب، وقال" نحن كأصابع اليد الواحدة، ماضينا كان واحداً، ومستقبلنا أيضاً واحد، فعندما تصرخ العواصم العربية يصل الصدى إلى أنقرة، وعندما تنادي إستانبول يصل الصوت إلى القاهرة والرياض وعمان ودمشق وطرابلس الغرب، نحن في ثقافتنا تماماً مثلكم نبحث عن الجار قبل الدار" .
القناة التركية العربية تعبيرٌ صادق عن السياسة التركية التي تسعى للانفتاح على العرب، والتفاعل معهم، وتبني قضاياهم، وإن كانت تحمل رسالةً ضمنية إلى دول الإتحاد الأوروبي، الذين دأبوا على رفض انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، ووضعوا العراقيل والعقبات أمام اندماجها في المجتمع الغربي الأوروبي، فكان انفتاح تركيا نحو الشرق، وتوجهها نحو عمقها العربي والإسلامي، واستعدادها التام للتعاون معهم، وتذليل العقبات التي تعترضهم، ومواجهة إسرائيل التي تعتدي عليهم، وتحتل أرضهم، فعمدت إلى مخاطبة العرب بلغتهم، والتحدث إليهم بلسانهم، والتقرب إليهم عبر إنتاجٍ فنيٍ مبدع، كان العرب قد أبدوا من قبل إعجابهم وتأثرهم به، وتعلقهم بأحداثه وشخوصه وأبطاله.
وأشير هنا أن فكرة الكتابة عن دور الفضائية التركية الناطقة باللغة العربية، أوحي لي بها اقتصاديٌ فلسطيني شاب طموح، تربطه علاقات عملٍ تجارية كبيرة وواعدة مع تركيا، ويدرك من خلال زياراته المتكررة لها حجم هذه الدولة، ومدى الصدق في لهجتها، وحجم الاستفادة المتوقعة منها، وأن اقتصادها ينمو بإضطراد، وأنه قادر على النهوض باقتصاديات الدول العربية وتنميتها، كما أنها في حاجةٍ كبيرة إلى مقدرات الدول العربية وخيراتها، لإنعاش اقتصادها، وتحقيق نسبة أعلى من الجودة المنافسة، بما يخدم مصلحة وحاجة الطرفين، وقد سبر هذا الاقتصادي الشاب غور قيادتها، وأدرك أنها جادة في الانفتاح على العالم العربي، وأنها صادقة في مساندتها للقضية الفلسطينية ونصرة أهلها، فتمنى لو أن العرب يجارونها، ويساندونها في أهدافها وغاياتها، إذ رأى أن غاياتها لا تختلف كثيراً عن غاية كل عربيٍ ومسلم.
لذا فإنها محاولة جديدة من حزب العدالة والتنمية، ومن رئيسه رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، للانفتاح على العالم العربي، ببوابته الإسلامية الواسعة، ومن خلال قضيته الأهم، القضية الفلسطينية، لتتصدر تركيا جبهة المواجهة مع إسرائيل، وتتحدى سياساتها الرامية لتهويد القدس، والسيطرة على أرضها ومقدساتها، إنها مغامرة مدروسة بدقة من قبل الحكومة التركية، في محاولةٍ منها لاستعادة الثقة المهزوزة، والتأكيد على الهوية المشرقية، بطابعها القديم الجديد، وأنها قادرة على استنهاض ماضيها، والإفادة منه، والبناء عليه، وتتوقع الحكومة التركية من فضائيتها الجديدة نتائج طيبة ومرضية، لتنطلق من خلالها إلى آفاقٍ أوسع وأرحب، ولكن على العرب أن ينظروا إلى المحاولة التركية بنوعٍ من التقدير والاهتمام، وأن يبادلوا الأتراك الثقة والرغبة في بناء جسور الثقة، لتكون التجربة رائدة ومنافسة ومشجعة.
دمشق في 11/4/2010