قراءة نقدية في مجموعة يسرا الخطيب القصصية
د . محمد أيوب
قبل الولوج في أي نص، لا بد من المرور من خلال عتبة أو عتبات هذا النص، ولعل الغلاف هو أول ما يجذب انتباهنا إلى هذه العتبات، فهو يحمل العنوان الرئيس للنص ولوحة الغلاف، كما يحمل اسم المؤلف وتاريخ النشر ودار النشر والطبعة.
ولعل أهم ما لفت انتباهي هو عدم وجود اسم المؤلف، وعدم ذكر اسم الناشر الذي هو ملتقى الصداقة الثقافي، فالغلاف الذي يشكل بوابة النص الرئيسة يخلو من أية بيانات ترشد القارئ إلى هوية الكتاب أو كاتبه أو ناشره، على الرغم من وجود ما يفيدنا بأن الكتاب هو مجموعة قصصية.
وفي الصفحة الداخلية نجد الإهداء، فالكاتبة تهدي كتابها إلى كل روح تنقش زنبقة في الذاكرة ولا تخاف السقوط في هوة النسيان، ولا أدري لماذا فضلت استخدام كلمة تنقش ولم تستخدم كلمة تغرس، فالغرس يبشر بالنماء ويوحي باستمرار الحياة، ثم تثني بإهداء عملها إلى وطن يتنكر لها، وتعشقه فينفيها، ومع ذلك تتمسك بحبه وتعد بأنها لن تكفر به.
أما العنوان الرئيس والبحر يعطش أحيانا) فإنه يذكرني بمجموعة قصصية للكاتب رجب أبو سرية بعنوان (عطش البحر) وكأن هناك توارداً في الخواطر بين الطرفين، ولو دققنا النظر في العنوان لوجدنا أنه يتكون من جملة اسمية يسبقها حرف عطف هو الواو، وقد تكرر استخدام حرف العطف "الواو" في أكثر من قصة مثل: ( ولها قمر مختلف - وعادت إلى مستقرها – وقرع الجرس)، ونلاحظ هنا أن المعطوف في العنوانين هو جملة فعلية، مما يوحي أن الحدث في العنوانين مسبوق بحدث آخر، لأن الجملة الاسمية تدل على المضمون بينما تدل الجملة الفعلية على الحدث، فالعنوان يشير إلى أن البحر يعطش، وهو حقيقة يعطش؛ لأنه بحاجة دائمة إلى مياه الأنهار التي تصب فيه لتعيد إليه بعضا من مائه الذي بعثه سحبا في الجو لتسقط مطرا يحيي الزرع ويسعد الإنسان والحيوان، ووجود حرف العطف يوحي لنا بوجود كلام محذوف يمكن للقارئ أن يستنتجه حسب إدراكه للنص، وقد يكون المحذوف هو على سبيل المثال لا الحصر( الإنسان يعطش) فترد المؤلفة بقولها: (والبحر يعطش أحيانا) وليس دائما كما يعطش الإنسان.
أما العتبات الداخلية فإننا نجد أن المؤلفة قسمت مجموعتها القصصية إلى قسمين، القسم الأول عنوانه( حافة الانتظار)، يتكون هذا العنوان من مضاف ومضاف إليه، أي أن هناك حذفا نحويا ومضمونيا في الكلام، كأن نقول (أنا أقف على حافة الانتظار) أو (هذه هي حافة الانتظار)، وقد جعلت المؤلفة من الانتظار شيئا ماديا له حافة يمكن أن نقف عليها، مما يوحي بأن حياة شخصيات العمل يؤرقها الانتظار، انتظار شيء ما، قد يأتي وقد لا يأتي كما في حال انتظار جودو الذي لن يأتي أبدا.
أما القسم الثاني فيحمل عنوان(أوراق ملغومة) مما يجعل القارئ يتساءل: كيف يمكن للأوراق أن تكون ملغومة، والقارئ يجد في العنوان حذفا نحويا، فقد تم حذف المبتدأ واكتفت الكاتبة بالخبر الموصوف، وعليه يمكن أن يكون المبتدأ المحذوف هو كلمة "هذه"، وقد يكون الخبر هو المحذوف، وتكون كلمة أوراق مبتدأ موصوف مما يجيز لنا الابتداء بنكرة خصوصا إذا كانت موصوفة، ويمكن أن يكون الخبر في هذه الحال شبه جملة، ونتوقع أن يكون العنوان كما يلي: "أوراق ملغومة في حياتي أو في وطني".
وبالدخول إلى عناوين القصص في القسم الأول نجد أن عنوان أول قصة هو "نجمة هاربة" وفيه حذف نحوي ومضموني يدفع القارئ إلى التساؤل: هاربة من ماذا وإلى أين ستهرب؟ ولماذا تهرب؟ وهل يمكن لنجمة أن تهرب من مدارها؟
أما العنوان الثاني فهو " نقطة الصفر" وفيه حذف نحوي وحذف مضموني، ومن حق القارئ أن يتساءل: عن أي صفر تتحدث المؤلفة؟ وهل الصفر مادي ملموس أو أنه صفر معنوي؟
في القسم الثاني نجد قصة "ميلاد ... موت" مع وجود ثلاث نقاط تفصل بين الكلمتين مما يوحي بوجود كلام محذوف يترك للقارئ مهمة الحدس به، كأن يكمل الفراغ بكلمة يتبعه أو يتلوه، فيصبح العنوان ميلاد يتلوه أو يتبعه موت، والحذف هنا حذف مضموني ونحوي، فقد تم حذف خبر المبتدأ الأول وهو الفعل والمفعول به مع إظهار فاعله وهو كلمة موت، وهناك قصة تحمل عنوان: "حمار يحتاج إلى حب" وهو عنوان يخلو من أي حذف، فهو جملة اسمية ركناها الأساسيان مذكوران، وهناك الجار والمجرور المتعلق بالفعل يحتاج، وهنا تحلق في عقل القارئ علامة استفهام كبيرة: هل حقا يحتاج الحمار إلى الحب أم أنه يحتاج إلى الطعام، وإذا كان الحمار يحتاج إلى حب فما بال البشر الذين يتعرضون للظلم على يد أبناء جلدتهم!! ألا يحتاجون لأكثر من الحب بدلا من سيل الكوبونات والسلال الغذائية التي أحالت أبناء شعبنا إلى متسولين فقدوا كرامتهم، الإنسان الفلسطيني يحتاج إلى الكرامة والعمل أكثر من حاجته للحب أو للمساعدات الغذائية، لأن الإنسان الجائع لا يحب سوى فرصة عمل أو رغيف خبز.
لا أريد أن أتطرق إلى كافة العناوين في هذه المجموعة القصصية وإنما أترك للقارئ اكتشاف ما قد توحي به هذه العناوين من أفكار واستنتاجات.
اللغة والسرد :
تعددت الأصوات السردية عند الكاتبة فتوزعت بين استخدامها لضمير الغائب، ويكون السارد من نوع السارد أو الراوي العليم الذي يعرف كل شيء عن الأحداث وتطورها في القصة أو الرواية، وضمير المتكلم، وفي أحيان أقل ضمير المخاطب، ويكون السارد هنا من نوع السارد المشارك الذي لا يعرف عن الأحداث في القصة أكثر مما يعرفه القارئ، وربما استخدمت أكثر من ضمير في القصة الواحدة، وقد لجأت الراوية إلى استخدام ضمير المخاطب بنوعيه المذكر والمؤنث في أكثر من قصة، وتراوح استخدامها لضمير الغائب بين الفعل المضارع الذي يدل على الحال والاستقبال، وبين الفعل الماضي الذي يدل على انقضاء الحدث ليصبح مجرد ذكرى، تقول الراوية في قصة "نجمة هاربة " : " تنتظر غروب الشمس يومياً "، وتقول في قصة نقطة الصفر " قررت الانطلاق.... فوجدت ذاتها عاجزة " ، كما لجأت في قصة " أرقام ميتة" إلى استخدام ضمير المتكلم، يقول الراوي: "لم أكن يوماً جباناً أو ضعيفاً..كنت وما زلت أقتحم الأبواب المغلقة بكل تصميم ..لأنال غايتي) لتعود بعد ذلك إلى استخدام ضمير الغائب، تقول: " أدار القرص ...ولم يجب الرقم ..أعاد المحاولة أكثر من مرة " بينما لجأت الراوية إلى استخدام ضمير المخاطب في السرد ومزجت بينه وبين الضمائر الأخرى، تقول: " كم كان هروبك جبانا ..وكم جبنت أنا من الاعتراف بالحقيقة"، وتقول في القصة نفسها: " كم كرهت الهروب من هروبك المتعمد لأنه باعد بين حقيقتك الجبانة ..وواقعك الذي بات غريبا عنا جميعا" أما في قصة : "توت بطعم القهوة" فتقول:" ولا زلت هنا تجول في كل الأمكنة . وعيونك الجميلة تطل على عيوني من كل الزوايا ..كلمات أيقظت بي الحنين إليك و لكل من غيبهم الزمان عن عيوني)
(هنا بهذا المكان كم لعبنا معًا تحت شجرة التوت .. تظللنا كرمة العنب اليتيمة التي أضاءت بعناقيدها الكريمة ..لحظات طفولتنا البريئة).
وفي سردها لجأت الراوية إلى القطع الزمني لتقفز شهرا كاملا دون أن تتطرق للأحداث التي وقعت خلال هذا الشهر، ولعل القطع الزماني يناسب الرواية أكثر من القصة القصيرة، تقول: " أأدرك القمر أن المرور على أرضها له وقع آخر ؟؟!
بعد شهر من تاريخه/ "
عادت إلى انتظارها كالعادة ...ومن خلال نافذتها تابعته لتراه بدراًً...ففاجأها للمرة الثانية .. واختار الخسوف".
وقد استخدمت في قصصها تقنية أخرى، حيث قدمت بعض القصص على شكل لوحات أو صور، كما وزعت بعض القصص إلى مشاهد وكأنها كانت تفكر في عرض هذه المشاهد على خشبة المسرح، أو ربما كان في نيتها كتابة قصة مسرحية.
ملاحظات لغوية
هناك ملاحظات لغوية برزت في هذه المجموعة حول بعض الأخطاء اللغوية أو المطبعية أو النحوية أو الإملائية، فمثلا نجد في العبارة التالية خطأ نحويا: " تنتظر غروب الشمس يومياً بنفس الشوق واللهفة" فقد تقدم لفظ نفس على المؤَكَّد، والمعروف أن التوكيد هو أحد التوابع، والأفضل القول " بالشوق نفسه" أو بالشوق واللهفة نفسهما، ونجد في عبارة " هي لا زالت على حاله تترقب" أن الراوية استخدمت لا زالت الدعائية بدلا من ما زالت التي تفيد الاستمرار، وتكرر هذا الاستعمال في أكثر من قصة، والصواب القول: "هي ما زالت" ، وهناك خطأ مطبعي في كلمة " حاله " والصواب " حالها" وهناك خطأ نحوي أو مطبعي نتج عن السهو، ربما لأن أغلب شخصيات القصص من النساء، تقول الراوية : " فتتراقص أمامها تلك الأرقام السبعة) ، والصواب أمامه لأن الضمير يعود إلى المذكر، كما نجد خطأ في العبارة التالية: "وبقي هو على الشاطئ يستقبل زائرينه..ويودع الراحلين ..) والصواب القول: زائريه بدلا من زائرينه، وقد أدخلت الراوية حرف الميم وهي علامة على العدد والجنس المذكر على اسم الإشارة للساعات فقالت تلكم الساعات والأصوب القول: "تلك الساعات" في قولها: "ولست أعلم كم عددها تلكم الساعات "، وفي عبارة: " يده فقط من تنتشلنا من مستنقعنا الآسن " أعتقد أن من الموصولة قلقة في موقعها، لأن الاسم الموصول وصلته يأتي لوصف اسم قبله؛ ويفضل عدم الفصل بين الصفة والموصوف، ولو تم حذفها لما اختل المعنى المقصود، وقد وردت في قصة مشاهد فوق القانون عبارة قلقة لا يستسيغها الذوق هي عبارة: " شيء وحيد استبد بي الخوف .القلق" ولا بد من إعادة صياغتها كي يستقيم المعنى.
الشخصيات:
معظم شخصيات القصص غير محددة الأسماء أو الهوية، تغلب عليها الشخصيات النسائية إضافة إلى بعض الشخصيات الذكورية والأطفال والحيوانات، وقد جعلت من الجمادات أبطالا لبعض القصص فأضفت عليها مسحة إنسانية، ولكننا نجد في بعض القصص ما يشير إلى أن الراوية تعمل معلمة وخصوصا في قصة "وقرع الجرس"، ولو تتبعنا العبارات التالية نجد أننا نستطيع أن نؤكد ما سبق: " تنتظر غروب الشمس"، " فوجدت ذاتها عاجزة"، "عادت إلى انتظارها كالعادة"، "رسمت ملامح تشتاقها..وترغب بالانتماء إليها"، (" أصبحت جزءًا من أحلامه التي تعود الهروب منها"، "ما زالت تمتطى صهوة الهروب/ ويترجل هو عن المقاومة أحياناَ")، ("كان يقتلها سؤال ملح"، "فسر هروبها بالرفض ...وترجمت هي اندفاعاته بالتهور")، " كلما فتح محفظته الخاصة تسقط تلك القصاصة من بين أصابعه" ، " هي من كانت تربطه بالوطن"
نلاحظ هنا أن شخصية الرجل تتبع رغبات المرأة وتصوراتها، أما شخصية الطفل فتظهر لنا في صورة ذلك الطفل الذي تجاوز مرحلة الطفولة قبل الأوان، وصار الهم الوطني شغله الشاغل، تقول الراوية"و بعناد الطفولة ارتكن إلى جدار مهترئ وأرض مغطاة بالفحم والسناج...افترش تراباً مغموساً ببقايا كاوتشوك محترق ..يتنفس هواءً مشبعاً بالبارود والغاز المسيل للدموع"، " (كان هناك من يتربص به ..بعين سحرية مصطنعة ..صوب رصاصته الحاقدة إلى قلبه الصغير ... فسقط مدرجاً بدمه ..ويده الصغيرة قابضة على زناد الحجر ..و العلم فوق جسده الصغير قائماً مرفرفاً في الهواء")
وقد أنسنت الراوية الأشجار فجعلتها ترقد جثة هامدة كالبشر بعد الموت، وجعلت من القطة متهمة، تقول: (هل أشكو لهم بأن القطة هي الأخرى تآمرت علي عندما اختارت نافذتي أنا دون النوافذ الأخرى .؟!!.)، بينما جعلت الحمار في حاجة إلى الحب، كما جعلت من القمر كائنا عاقلا تنتظره بفارغ الصبر، وعلى الرغم من أن الضمير هو أقوى المعارف فإن استخدام الضمائر لم يقدم لنا شخصيات محددة، بل قدم لنا شخصيات يمكن أن تتواجد في أي مكان من الوطن.
الحدث:
تدور أحداث القصص في فترة مقاومة الاحتلال في قطاع غزة على الأرجح، وإن لم تحدد الراوية ذلك بصراحة، وقد شاركت المرأة بقوة في صنع هذا الحدث وتوجيه دفته وخصوصا عندما كانت تتبنى الأطفال الذين يقعون في قبضة جنود الاحتلال، والأحداث لا يمكن أن تقع خارج إطار الزمان والمكان اللذان لا يتواجدان بالضرورة خارج وعي الإنسان صانع الحدث الذي تغلب عليه الحركة التي تكشف لنا ماهية الزمان والمكان، ولعل الأحداث تتنوع حسب تنوع الزمان والمكان، فالموجود خارج الوطن يطمح في العودة إليه، ولكنه يصطدم بالواقع بعد العودة فيكتشف أن العود لم يكن أحمداً، فالغربة في الوطن أقسى أنواع الغربة، وتشير الراوية إلى بعض السلبيات التي ظهرت في المجتمع الفلسطيني قبل وبعد أوسلو، تقول بأسلوب يفيض بالسخرية والألم:
" تنازع شابان على جدار ...من له الحق به ليلصق صورة مرشحه ..
استدعى الأمر رجال الشرطة ..وقوات الأمن .. فزادت المعضلة ..
ولم يفض الاشتباك القائم بينهما بالأسلحة ..إلا عن مقتل أحد الشابين) ..
و التفت فجأة للخلف ..لعل أحدهم ..استخدم ظهري جداراً..ليلصق صورة لمرشحه ؟؟
هل من حقي عندئذً الاعتراض ؟؟؟"
فنحن نجد هنا أنه لم تعد هناك حرمة للملكية الخاصة لدرجة أن الإنسان لم يعد يحمي ظهره أو جدار بيته، فقد أصبحت جدران البيوت ملكا للفصائل المتعددة التي تتنازع ملكية الجدار بينما يقف صاحب الجدار الحقيقي دون حول أو قوة.
الزمن:
لعل الزمن النفسي هو المسيطر على أجواء القصص، وهو يتسم بالانتظار والقلق، وفي حالة الانتظار يبدو الزمن طويلا سواء أكان هذا الانتظار متعلقا بحبيب أو بأي شيء مبهج، أو كان متعلقا بانتظار شر أو بلاء يمكن أن يحط على الإنسان في أية لحظة، ومن العبارات الدالة على ذلك ما يلي: " تنتظر غروب الشمس يومياً " ، " هي لا زالت على حاله تترقب"، " ليؤكد لها بأن الطبيعة لازالت بخير"، " عادت إلى انتظارها كالعادة ...ومن خلال نافذتها تابعته لتراه بدراًً...ففاجأها للمرة الثانية .. واختار الخسوف"، " وينتظر المد الأوفر ..والجزر الأعظم ليحمله بقوة من مكانه الميت ويلقيه في عباب البحر ..ويطول الانتظار" ،
كما استخدمت عبارات تدل على الزمن المستمر، مثل: "ما زالت تمتطى صهوة الهروب" فالفعل ما زال يدل في هذه العبارة على استمرار الهروب من وطأة الواقع وآلامه، وفي قصة " ولها قمر آخر" لجأت الراوية إلى القطع الزماني، تقول: " بعد شهر من تاريخه"، فقد اختصرت الراوية أحداث شهر كامل في هذه العبارة، وفي قصتها " حمار يحتاج إلى الحب" تقول الراوية:
الرحمة يا رب ..ولا تنسوا طلب الرحمة لذاك الحمار ..فهو الأكثر حاجة منا جميعاً للرحمة و الحنان
بعد سنه من تاريخه ....
مشهد جديد من الوطن.
كلما أخذتني خطواتي لذات المكان.
المكان:
المكان في مجموعة يسرا الخطيب ضبابي الملامح، فالأمكنة مثلها مثل شخصيات المجموعة بلا أسماء، كل ما ندركه أن الوطن هو الوعاء الذي يحتوي هذه الأماكن المعرضة لوحوش الاحتلال المعدنية التي تغتال الأشجار وتغير ملامح الطبيعة لتخلق واقعا جديدا يلغي الهوية الحقيقية للمكان، تقول الراوية: "(وفي ليلة عاصفة شديدة البؤس والألم ..صحوت على صوت جرا فاتهم ..تقتلع شجرتي .. وتلقيها جثة هامدة بلا روح .. شعرت بقلبي يختنق مرارة .. وروحي تغادرني بلا عودة ..).
نلاحظ أن هناك استقطابا بين الوطن والغربة وبين الأرض والسماء وبين البر والبحر وبين البحر والسماء والغيوم، وتشكل المرأة عنصر ربط بالوطن وعاملا يشجع أبناءه على العودة إليه، تقول الراوية: (هي من كانت تربطه بالوطن .. وبذكراها كان يقطع سنين الوحشة والغربة ..وينتظر فجره الجديد .. من أجلها تمسك بالعودة ..وحارب من أجل أن يحتويها بين ذراعيه، والوطن محاصر من جميع الجهات، فالصياد يصطدم بتلك اليافطة التي تمنعه من التوغل في البحر لأكثر من خمسة كيلومترات، تقول الراوية: (تنظر عيناه المحملقة إلى اللائحة المنصوبة أمامه كشاهدٍ على قبر أمانيه وأحلامه""ممنوع التوغل لأكثر من 5 ك "
وتتوزع الأمكنة بين المدرسة والجدران المهترئة، والأرض المغطاة بالفحم والسناج والكاوتشوك المحترق، وقد حددت الراوية بعض الأماكن بأسمائها الحقيقية ليدرك القارئ أن الأحداث تدور في قطاع غزة الذي يشكل المخيم معلما من أهم معالمه التي تدل على النكبة التي حلت بالفلسطينيين، تقول: ( يبحث في جيبه الصغيرة عن بعض الشواقل التي ادخرها من مصروفه اليومي .ليذهب إلى حيث يتوجه الرفاق ..إلى دوار الشهداء..(منطقة نتساريم)..لأول مرة يخطو خارج حدود المخيم بدون رفقة أمه ...كيف لا ؟؟؟و الجميع يذهب كل يوم إلى ذات المكان لمواجهة الاحتلال .)(لا زالت على بوابة المدرسة بانتظاره ..)
وتعود الراوية لتكسو المكان بغلالة شفافة من الضبابية فتقول: (هنا بهذا المكان كم لعبنا معًا تحت شجرة التوت)، مما يذكر القارئ بأغنية فيروز" فاكر لما راحوا أهالينا مشوار، تركونا وراحوا ، قالوا أولاد صغار، دارت بينا الدار ، واحنا ولاد زغار.
وتعود الراوية فتمنح المكان اسما حقيقيا حين تنقل لنا الخبر التاليمقتل ثمانية عمال في عيون قارة ( ريشون لتسيون ).
مما سبق يتضح لنا أن مضامين هذه المجموعة القصصية تتمحور حول الهم الوطني والاجتماعي، وقد تلجأ الراوية إلى السخرية في رسمها للواقع المر، ومن الاختلافات التافهة التي تؤدي إلى الاشتباك والتنازع وسقوط بعض الضحايا دون مبرر، كما يتضح لنا بين السطور أن هؤلاء المتصارعين لا يفكرون في مصلحة الوطن والمواطن بل يفكرون في حماية مصالحهم الحزبية الضيقة .
عن موقع ملتقى الصداقة والثقافة