كتاب ـ قصة الإليزيه ـ الحلقة (2)
مرض بومبيدو يشكل أحد الأسرار الكبرى لقصر الإليزيه
تأليف :فرانسوا دورسيفال
يروي المؤلف لنا في هذه الحلقة أسراراً من قلب قصر الإليزيه حول الفترة الأخيرة من حكم الجنرال ديغول عندما كان جورج بومبيدو يشغل منصب رئيس الوزراء، حيث يشير إلى حادثة قتل وقعت في باريس لشاب يوغوسلافي ووجه فيها اصبع الاتهام إلى بومبيدو وزوجته، وكيف اضطر رئيس الوزراء إلى دخول الإليزيه من الباب الخلفي لكي يلتقي بديغول ويشرح له حقيقة الأمر.
وهناك سر آخر احتضنته جدران الإليزيه وظل طي الكتمان لفترة طويلة وهو حقيقة مرض بومبيدو الخطير، حيث كان يعاني من «سرطان الدم» وقد أبقيت هذه المعلومات بعيدة عن متناول الجميع حتى المقربين من بومبيدو رغم الشائعات العديدة التي كان الإليزيه يصر على نفيها باستمرار، وحتى الأميركيين كانوا مهتمين بالموضوع لدرجة أنهم قاموا بتحليل عينة أخذت من مياه المرحاض الذي يستخدمه الرئيس الفرنسي فاكتشفوا حقيقة مرضه. لا يعرف قصر الاليزيه الكثير من الحالات التي شهد فيها رئيس الجمهورية الفرنسية المرض.
فالرئيس يمكن أن يتعرّض للاغتيال كما حدث بالنسبة ل«سادي كارنو» أو «بول دومير»، ويمكن أن تصيبه ذبحة قلبية قاتلة مثل تلك التي أودت بحياة «فليكس فور»، لكن «ليس له الحق بأن يصاب بالمرض»، فالجمهورية «لا تستطيع» أن تمرض. لكن جورج بومبيدو، الذي خلف الجنرال ديغول في قصر الاليزيه، خالف تلك «القاعدة»، لقد كان مريضا وكان يعرف ذلك ولكنه حافظ على السر حتى النهاية. كان حبه للحياة أقوى من كل شيء بالنسبة له ثم إن الفكرة القائلة بتبعية سلطة رئيس الدولة لتشخيص طبّي كانت أشد وقعا عليه من المرض نفسه.
وفي مطلع عام 1971 كان على الرئبس بومبيدو أن يقوم بتحاليل طبية معمّقة طلب منه طبيبه إذا كان سيتم إصدار نشرة عن حالته الصحية، كما جرت العادة بالنسبة لرؤساء الجمهورية فأجابه أنه هو نفسه سوف يتولى مهمة ذلك. جلب له الطبيب التشخيص وكانت النتيجة تقول إنه مصاب بمرض لا شفاء منه في الدم.
عندها كانت أوامر بومبيدو واضحة: «قراري قاطع وهو أن لا يعرف أحد أي شيء عن مرضي، بما في ذلك زوجتي». هكذا أصبح مرض الرئيس أحد أسرار قصر الاليزيه الكبرى آنذاك. كانت إذن مأساة شخصية وليست «مأساة دولة». وينقل المؤلف عن السيدة بومبيدو نفسها قولها فيما بعد: « لم نعرف أبدا بالدقة المرض الذي كان زوجي يعاني منه».
لكن مفاجأة الفرنسيين كانت كبيرة عندما رأوا رئيسهم على شاشات التلفزة يوم 31 مايو 1973 عندما كان عائدا من زيارة له إلى ايسلندة. كان وجهه متورما وتقاطيعه تنم عن ألم كبير. مع ذلك تابع وزير الإعلام آنذاك، التأكيد، بناء على الأوامر الصادرة، أن الرئيس يعاني من وعكة صحية عابرة.
ويشير المؤلف إلى أن الأستاذ الفرنسي الكبير الدكتور برنار كان قد شخّص منذ عام 1968 إصابة بومبيدو ب«سرطان الدم». وقد قال يومها: ليست أعمال الشغب التي عرفها شهر مايو هي التي تركت آثارها على وجه جورج بومبيدو ـ كان آنذاك رئيسا للوزراء ـ ولا سهر الليالي فحسب، وإنما أيضا الأعراض الأولى لمرض لم يأبه به ولم يعطه الأهمية التي يستحقها.
وينقل المؤلف أن أندريه مالرو، الكاتب الفرنسي الشهير، ووزير الثقافة في ظل ديغول حيث جرى الحديث عن لقاء القمّتين: القمة السياسية ممثلة بالجنرال والقمة الثقافية ممثلة بمالرو. لقد «شرب نخب» بومبيدو عندما استبدله الجنرال ديغول ب«كوف دوميرفيل» كرئيس للوزراء بعد فترة فقط من نهاية أحداث مايو.
كان عمر بومبيدو آنذاك 57 سنة وينقل عنه المؤلف قوله: «لقد تصرفت دائما كما أملت علي طبيعتي العفوية (...) إنني أؤمن بها أكثر من إيماني بمحاكمتي العقلية». وكان قد عمل إلى جانب الجنرال مدة 25 سنة في مناصب شتى ابتداء من رئيس الديوان حتى رئاسة الحكومة. وبعد أن افترقت طريقاهما كان على بومبيدو أن يمسك زمام مصيره بيده.
وينقل عنه المؤلف قوله آنذاك: «لقد تجاوزت مستوى الصدفة، إذ هناك لحظة يترك فيها المصير الصدفة وراءه». لاحظ أولئك الذين غادروا معه من مساعديه مقر رئاسة الحكومة إلى المكاتب الجديدة في باريس أن وزنه قد زاد وكان من بين هؤلاء ميشيل جوبير الذي كان مديرا لمكتبه منذ عام 1963، والذي أصبح فيما بعد وزيرا لخارجية فرنسا.
وقد قال له جوبير ذات يوم أن الفرنسيين سوف «يتفاجأون» عندما يرونه على شاشات التلفزة، بعد غياب، بسبب «ما اكتنزه أثناء العطلة من زيادة ظاهرة في الوزن. فطمأنه بومبيدو قائلا: «لا تهتم بذلك. لقد كنت متعبا، ولكن انتهى الأمر بعد أن تناولت بعض العلاجات.
فلا تقلق من هذه الناحية فالناس سوف يشاهدونني ـ على شاشة التلفزة ـ وقد استعدت مظهري الاعتيادي». وقد حدث ذلك بالفعل، ذلك أنه توقف عن تناول دواء «الكورتيزون» أثناء العطلة الصيفية. وينقل المؤلف عن ميشيل جوبير نفسه قوله فيما بعد: «لماذا كان علينا أن نقلق؟ لقد وجدناه كعادته رجلا قوي البنية يتمتع بشهية كبيرة للطعام وبقدرة هائلة على العمل، ينام قليلا وبشوشا باستمرار».
وفي واقع الأمر لم يلاحظ أحد من المحيطين به أي شيء غير طبيعي، باستثناء أطبائه، وبالتالي «لم يكن مريضا». لقد كان يشغله آنذاك مظهره كثيرا بدافع حرصه على الاحتفاظ بشعبية مرتفعة لدى الفرنسيين في أفق أن تقوده طريقه ذات يوم إلى قصر الاليزيه.
جريمة قتل
يتوقف مؤلف هذا الكتاب عند حادثة قتل شغلت قصر الاليزيه في مطلع نوفمبر 1968. كان الجنرال ديغول لا يزال هو سيد القصر. وفي الأول من ذلك الشهر جرى إبلاغ الأمين العام لقصر الاليزيه بالعثور على جثة شخص يوغوسلافي شاب مرميّة في أحد أمكنة تجميع القمامة العامة بمنطقة «الايفلين» القريبة من باريس. فما علاقة قصر الاليزيه بذلك؟
اسم القتيل هو «ستيفان ماركوفيتش» وكان يعمل حارسا شخصيا للممثل الفرنسي الشهير «آلان ديلون» وقد وجدت الشرطة بين أوراقه اسم أسرة بومبيدو. هكذا أخبروا الجنرال ورئيس وزرائه ووزير العدل، ولكن لم يخطر أحد المعني نفسه بأي شيء.
بل وقد عرف ذلك بمحض الصدفة عندما سأل أحد أقاربه: «قل لي، من هو إذن ذلك السياسي الذي تتحدث عنه الصحافة وقد يكون متورطا في القضية»؟ كانت الإجابة صاعقة له، خاصة عندما علم أن الجنرال يعرف والحكومة تعرف وهو لا يعرف. كان جرحه عميقا.
طلب بومبيدو مقابلة الجنرال ديغول على عجل، لاسيما وأنه كان عرف أن اجتماعا قد جرى عقده في الاليزيه بحضور الرئيس ورئيس الوزراء ووزيري العدل والداخلية حول تلك القضية ولم يدافع عنه وعن زوجته أحد. بقي أمر اللقاء مع الجنرال طي الكتمان ودخل بومبيدو إلى قصر الاليزيه من الباب الخلفي وصولا إلى «الصالون الذهبي».
وينقل المؤلف عن جورج بومبيدو قوله للجنرال: «سيدي الجنرال أنتم تعرفون سبب طلبي اللقاء بكم. ولدي ثلاثة أمور أريد قولها لك وهي: أنت تعرف زوجتي إلى درجة تسمح لكم بالتأكد أنها لا يمكن أن تتورط بمثل هذه القضية. وربما هناك من يحاول زجّي في الأمر ولكنهم لن يتمكنوا من ذلك. ثم إنه لم يصدر أي رد فعل من وزارة الداخلية أو رئاسة الوزراء أو قصر الاليزيه حيال ما جرى».
كان الجنرال يصغي وينظر له ثم قال: «لكنني لم أصدّق أبدا أي شيء من كل ما يقال. وقد طالبت إخطارك». انسحب عندها بومبيدو ثم كتب في إحدى يومياته: «كان عمل الشرطة والعدالة موجّها ليس للبحث عن فاعلي الجريمة وإنما للبحث عن شهادات ووثائق يمكنها أن تديننا أنا وزوجتي».
شرع بومبيدو بتحقيق خاص من جهته وعاد في مطلع يناير 1969 ليعرض ما توصل إليه من نتائج. وهذا ما وصفه هو نفسه كالتالي: «لقد عرضت الوقائع بدقة على الجنرال الذي كان يصغي مدهوشا.
وقد طلب أمامي من الأمين العام لقصر الاليزيه استدعاء وزير العدل. أعرف أن اللقاء قد تمّ وأن التحقيق اتجه نحو البحث عن القتلة، الأمر الذي كان يمثل الواجب الأساسي للمعنيين بذلك التحقيق. وعندما غادرت مكتب الجنرال نصحني أن أعامل المتقوّلين النمّامين باحتقار وقال لي أن التعرض للوشاية هو قدر رجال الدولة».
ويذكر المؤلف أن جورج بومبيدو كتب يومها على مفكرة صغيرة محفوظة في وعاء جلدي أسود أسماء أولئك الذين «خانوه» ورددوا أقوالا مثل: «بومبيدو انتهى، لقد قتلته قضية ماركوفتش». كما كتب في نفس المفكرة عن وزرائه السابقين: «لم يمتلك أحدهم الشجاعة كي يذهب لرؤية الجنرال ويندد بفضيحة الهجمات الموجّهة ضد زوجتي وضدي».
لم يذهب أحد منهم باستثناء شخص واحد يذكره بومبيدو بالجملة التالية: «الشخص الأكثر إخلاصا والأكثر شهامة والذي ساعدني حقا هو جاك شيراك». وكان سنده القوي الذي سمح له بمواجهة «الفضيحة» هو الفريق الذي يعمل معه وقد برز من بينه محامية شابة هي ماري فرانس غارو التي أصبحت وزيرة فيما بعد وقال عنها بومبيدو إنها كانت «ذات فعالية استثنائية وبفضلها استطعت أن أبرهن على مجريات التحقيق».
ما يؤكده مؤلف هذا الكتاب هو أن تلك القضية، التي كان يراد منها هزّ مكانة جورج بومبيدو والنيل من مصداقيته، أعطت مفعولا معاكسا. ذلك أنها حررته، وبتحريره سارعت في رحيل الجنرال ديغول عن قمة السلطة.
فبتاريخ 17 يناير 1969 عندما كان جورج بومبيدو يقوم بزيارة لروما أجاب على سؤال وجهه له مراسل وكالة الصحافة الفرنسية بالقول: «إذا انسحب الجنرال من الرئاسة فإنني سوف أرشح نفسي لخلافته، وهذا ليس سرا على أحد». وبعد أربعة أيام فقط أعلن الجنرال أنه سوف يذهب في فترته الرئاسية حتى نهايتها. ومع ذلك كان «حبل الود» الذي استمر أكثر من ربع قرن قد انقطع.
استقالة ديغول
بتاريخ 27 أبريل 1969 فشل الاستفتاء الذي طرحه الجنرال ديغول على الفرنسيين في نيل ثقة الأغلبية فاستقال مباشرة، ولم يتردد جورج بومبيدو في إعلان ترشيحه بعد يوم واحد من استقالة الجنرال. جرت الانتخابات الرئاسية في الأول من يونيو، وحصل بومبيدو على أعلى نسبة من عدد أصوات المقترعين في الدورة الأولى بواقع 5. 44 بالمئة مقابل 23 بالمئة نالها آلان بوهر رئيس مجلس الشيوخ ونائب رئيس الجمهورية بالنيابة.
وفاز بومبيدو في الدورة الثانية ـ الانتخابات الرئاسية في فرنسا تجري حسب قوانين الجمهورية الخامسة النافذة على دورتين يفصل بينهما أسبوعان ويتنافس في الثانية الحاصلان على أعلى نسبة من عدد أصوات المقترعين في الدورة الأولى ـ بنسبة تزيد عن 58 بالمئة من الأصوات. وهكذا أصبح جورج بومبيدو هو «النزيل» الجديد في قصر الاليزيه.
وينقل المؤلف عن جورج بومبيدو قوله آنذاك: «سوف لن أوقع بالطبع باسم الجنرال ديغول» ثم أضاف: «لقد ثبّت دستورنا بوضوح مبدأ أرجحية رئيس الدولة. بل وحول هذه النقطة بالتحديد تكمن المعارضة الأساسية مع الجمهوريتين الثالثة والرابعة.
إن رئيس الدولة الذي تعطيه الأمة ثقتها مباشرة عبر الاقتراع العام يغدو، وينبغي أن يكون، الرئيس المطلق للسلطة التنفيذية. وعليه هو، مع حكومته، تحديد النهج السياسي الذي سوف يتّبعه وعليه أيضا تنفيذه. ومن سمة القيادة أن القرارات يتم اتخاذها من قبل شخص واحد فقط وإلا فإن الفوضى تعم».
على أساس الموقع المتفرّد لرئيس الدولة في السلطة حرص جورج بومبيدو على أن يبقى خبر مرضه سرّا. ولو شاع مثل ذلك الخبر فإن ذلك كان سيعني انتقال السلطة الحقيقية نحو رئيس الوزراء. أي بتعبير آخر كان شيوع خبر مرضه يعني التشكيك بسلطته.
وعندما وصل بومبيدو إلى قصر الاليزيه قال جملة «غريبة»، حسب تعبير المؤلف، لميشيل جوبير الذي عيّنه أمينا عاما للرئاسة، جاء فيها: «إذا لاحظت خلال السنوات القادمة أي توجه مني نحو الرغبة في تجديد انتخابي رئيسا للمرة الثانية، فإنني أعتمد عليك تماما كي تذكّرني بما أقوله لك اليوم وأن تذكّرني بذلك بطريقة حاسمة وحازمة جدا».
فإلى أي شيء آخر غير «مرضه» كان بومبيدو يشير بذلك الطلب يتساءل المؤلف ثم يضيف أن بومبيدو كان يعرف منذ تلك اللحظة أن تطور مرضه قد يسمح له بممارسة مهامه الرئاسية لفترة من الزمن ولكن بالتأكيد لن يسمح له بسبع سنوات رئاسية ثانية.
وكان بومبيدو قد حاول إجراء تعديل في دستور الجمهورية الخامسة بحيث تصبح المدة الرئاسية لخمس سنوات وليس لسبع. لكن مثل ذلك التعديل لم يحظ بالأغلبية البرلمانية المطلوبة لإقراره. لكن كان لرغبة التعديل دلالتها.
وهذا ما عبّر عنه ميشيل جوبير لاحقا بالقول: «أعتقد أن السبب هو أنه كان يأمل بالبقاء خمس سنوات على رأس الدولة. وعندها كان يمكن أن يطبّق التعديل على نفسه إذا لم تساعده صحته للبقاء حتى نهاية ولايته الأولى المقررة بسبع سنوات».
ويشير المؤلف أن جورج بومبيدو كان يؤكد باستمرار للمحيطين به في الاليزيه وأثناء الاجتماعات الرسمية في القصر على سلطة رئيس الدولة «حسب الدستور» وإنه «الحارس الضامن» لتطبيقه.
وإنه لم يكن يريد بذلك التأكيد على سلطته أمام الجميع فحسب، وإنما أيضا الإشارة لرئيس الوزراء الذي عيّنه جاك شابان دالماس أن الجمهورية الرابعة ـ التي كان دستورها يعطي صلاحيات كبيرة لرئيس الحكومة ـ قد انتهت. وكان بومبيدو يكرر أمام زائريه: «السلطة هنا، في قصر الاليزيه».
ويروي المؤلف أن جورج بومبيدو استدعى رئيس وزرائه جاك شابان دالماس إلى قصر الاليزيه بعد أن سمع حديثه المتكرر عن «المجتمع الجديد» وضرورة القطيعة مع «المجتمع القديم» وقال له: «جاك هل تريد زرع بذور الشقاق داخل الأغلبية؟ وهل تعتقد أنه ليس لدينا من الهموم ما يكفينا»؟ فأجابه شابان دالماس: «إذا لم نقم بالانفتاح باتجاه المعارضة فسوف ينتهي الأمر بالاشتراكيين إلى توقيع برنامج مشترك مع الشيوعيين قبل الانتخابات التشريعية لعام 1973».
فعلّق بومبيدو: «هذا أمر مثير للضحك. فلدينا الوقت الكافي كي نراهم وهم يتقدّمون وثانيا أرى أنه من الصعوبة بمكان إمكانية أن يتوصل غي موليه، أو حتى فرانسوا ميتيران ـ من قادة الحزب الاشتراكي آنذاك ـ إلى توقيع أكثر من مجرد اتفاق انتخابي مع الحزب الشيوعي». عندها قال شابان غاضبا: «اسمع جورج إذا كنت ترى أن خطّينا السياسيين متباعدين كثيرا فإنني مستعد كي أقدّم لك استقالتي على الفور».
انتهى الجدال عن ذلك الحد. لكن بومبيدو عاد بعد شهر واحد وقال ذات مرة عندما كان مع «آلان بريفيت» وزير التربية السابق في قصر الاليزيه: «ألم تلاحظ أن شابان دالماس يتحدث كثيرا في خطابه عن المجتمع ولم يتحدث مرة واحدة عن الأمة أو عن سلطة الدولة. هذا وفرنسا هي أمة قبل أن تكون مجتمعا. ولم تكن هناك أبدا صفحات بيضاء».
ثم أضاف: «مع رفع أفكار الانفتاح هذه لا تفعل سوى إثارة تيارات الرياح ونحضّر عزلنا من حيث نحن. ثم إن إرادة جذب الأعداء وتخييب آمال الأصدقاء لا تؤدي إلى النصر أبدا. وعندما يتم تطبيق سياسة الخصوم على حساب سياسة الناخبين الذين أولونا ثقتهم،
فإننا سوف نضيع هؤلاء (...). إن شابان يتمتع بأغلبية أربعة أخماس البرلمان، وهذا ما لم نره أبدا في ظل أية جمهورية. إنه يريد أن يدير ظهره للأربعة أخماس هذه ويعير انتباهه للخمس الباقي. وهذا أيضا ما لم نره أبدا في السابق».
الظل الصامت
استمر الرجلان، بومبيدو وشابان دالماس، في الحكم معاً، أولا بسبب التقارب الكبير في خياراتهما المالية والاقتصادية، وثانيا لأن رئيس الدولة كان يريد أن يقدّم البراهين على وجود حالة من الاستقرار على مستوى مؤسسات الدولة، هذا دون نسيان واقع أن «الظل الصامت» للجنرال ديغول، الذي انسحب للإقامة في بلدته الصغيرة «كولومبي»، الواقعة على بعد حوالي مائتي كيلومتر عن باريس، كان لا يزال «يخيم» فوق الاليزيه.
وفي عشية 10 نوفمبر 1970 انطفأ نور الحياة في جسد الجنرال شارل ديغول. وقد عرف جورج بومبيدو الخبر في الاليزيه من رئيس أركان حربه الخاص في اليوم التالي. أحسّ بجرح آخر إذ لم يخبره أحد من أسرة الجنرال بوفاته رغم أنه كان يحمل الوصية السياسية الخاصة لمؤسس الجمهورية الخامسة.
لكن ذلك لم يمنعه من أن يتوجه للفرنسيين عبر التلفزيون قائلا: «الجنرال ديغول مات، وفرنسا أرملة. فلنعد فرنسا بأننا لن نكون غير جديرين بالدروس التي تعلمناها. وليبق ديغول حيا إلى الأبد في الروح الوطنية».
ذهب بومبيدو برفقة شابان دالماس إلى كولومبي لينحني أمام نعش ذلك الذي كان رئيسه وبطله. وكانوا قد أغلقوا النعش حسب رغبة السيدة ديغول، زوجة الجنرال، ولم يسمحوا لبومبيدو أن يلقي نظرة على جثمان الجنرال فوق سرير الموت.
بعد عدة أشهر من وفاة الجنرال صدر الجزء الثاني من «مذكراته» وفي بداية الفصل الثاني و«الأخير»، إذ أن الموت لم يترك لصاحبها المجال إلا لاستكمال فصلين من الفصول السبعة التي كانت مقررة أصلا، تحدث ديغول عن جورج بومبيدو كلاما قاسيا اعتبره هذا الأخير بمثابة «إعدام» له.
لقد روى الجنرال كيف أخرج من الظل يوم 14 أبريل 1962 ذلك الذي عيّنه رئيسا للوزراء. ونقرأ مما كتبه: «هكذا وجد نفسه هذا السياسي الغر -بومبيدو- والمجهول بالنسبة للرأي العام حتى سنوات الخمسينات مكلّفا بمهمة كبرى ويحتل مكانة مركزية في قلب الحياة العامة والأضواء».
عندما وصل جورج بومبيدو إلى الاليزيه أعلن أن هدفه هو أن «يجعل من فرنسا بلدا صناعيا حقيقيا وأن يعطي للاقتصاد الفرنسي بعدا عالميا». وقد عرفت رئاسته أوج ازدهارها عام 1971ووطّد بومبيدو من علاقاته مع رئيس الوزراء البريطاني ادوارد هيث في أفق بناء «اتحاد الدول الأوروبية» المستقلّ عن القوتين العظميين السائدتين آنذاك، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (السابق).
وكان بومبيدو هو الذي امتلك «بعد الرؤية» آنذاك وطرح مسائل إيجاد السلطة الأوروبية المشتركة والبرلمان الأوروبي والعملة الأوروبية الموحّدة. كان نجاح بومبيدو كبيرا إلى درجة أنه نسي تماما مرضه. لكن المرض لم ينسه. ففي نهاية تلك السنة 1971 ظهرت عليه ملامح التعب والإعياء.
ليس المرض فقط وإنما أُضيفت إليه خلافاته مع جاك شابان دالماس التي ظهرت على السطح وانتهت بإقالة الحكومة في يوليو من عام 1972 وتولّي «بيير ميسمير» رئاسة الحكومة الجديدة التي كان جاك شيراك فيها وزيرا للعلاقة مع البرلمان ثم وزيرا للزراعة بعد الانتخابات التشريعية لعام 1973 بينما تولّى ميشيل جوبير، مهندس السياسة الفرنسية إزاء العرب، منصب وزير الخارجية. وكان الرئيس قد طلب منه العمل على تأكيد الاستقلال السياسي لفرنسا.
لقاء مع نيكسون
ينقل المؤلف أن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، بحضور وزير خارجيته هنري كيسنجر، قال في 1973 لجورج بومبيدو: «إذا انتهج كل طرف سياسة متزمتة ـ شوفينية- دون أن يأخذ باعتباره رؤية شاملة للعالم فإن المجموعة الأطلسية سوف تنهار وسوف يتلقفنا الاتحاد السوفييتي بلدا بعد الآخر وبالتالي سوف تصبح القطبية الثنائية السوفييتية-الأميركية مصدرا للتهديد».
فقال بومبيدو: «يتم الحديث كثيرا عن مواجهة اقتصادية قادمة بين الولايات المتحدة وأوروبا. بالتأكيد سوف تقوم بيننا منافسة وهذا أمر جيد. بالمقابل إذا أدّى ذلك إلى مواجهة ولم يتم التوصل إلى اتفاق حول المسائل النقدية والتجارية فإن ذلك قد لا يؤدي إلى تخريب علاقاتنا الاقتصادية فحسب وإنما أيضا الحلف الأطلسي نفسه».
كان لكل من الرئيسين الأميركي والفرنسي همّه الكبير. نيكسون كانت تلاحقه فضيحة «ووترجيت» وبومبيدو كان «يلاحقه» مرضه. وكان مرض الرئيس الفرنسي ، رغم التكذيب المتكرر، قد أصبح شبه علني.
وقد كشف هنري كيسنجر لميشيل جوبير، وزير خارجية فرنسا، في وقت لاحق أن جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية قد استطاع الحصول على عينة من «مياه» المرحاض الذي يستخدمه الرئيس بومبيدو في قصر الاليزيه وعرفت حقيقة مرضه الذي جرى إخفاؤه حتى آنذاك.
وقد علّق جوبير على ذلك الوضع بالقول: «كان هناك من جهة التصريحات شبه الرسمية الصادرة عن حكومة فرنسا، ومن جهة أخرى التحليلات السرية التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية». وينقل المؤلف عن صحفي أمريكي قوله آنذاك لزميل فرنسي: «رئيسكم سوف يموت قريبا».
زار بومبيدو في الأشهر الأخيرة من حياته الصين في ظل ماوتسي تونج في 12 سبتمبر 1973. وعندما وصل إلى بكين قال له ماو «لقد انتهى الأمر فالأمراض تهدّني». ثم سأله: «هل توفي نابليون بمرض السرطان أم بسبب قرحة»؟ أجاب بومبيدو: «إذا كان الأمر يتعلق بقرحة فإنها كانت قرحة خبيثة. إن أنصار نابليون قالوا بعد موته إن الانجليز سمموه».
وكانت آخر زيارة له إلى الخارج هي إلى موسكو للقاء ليونيد بريجنيف، ويشير المؤلف اعتمادا على أقوال ميشيل جوبير الى أن الرئيس الفرنسي وجد يومذاك صعوبة كبيرة في النزول من الطائرة.
وكانت آخر جملة قالها يومذاك للصحفيين الذين التقى بهم بخصوص زيارته القادمة للاتحاد السوفييتي: «لم أحدد موعدها بدقة. وكما تعرفون أن هذا متعلق بالظروف». كانت هذه الجملة «الحزينة» هي بمثابة الإعلان عن قرب نهايته.
وفي 27 مارس 1974 قال بومبيدو لوزرائه المجتمعين حوله في قصر الاليزيه في نهاية الاجتماع الرسمي: «علي أن أتطرق الآن أمامكم لموضوع لم أتحدث عنه أبدا. وهو أنني أمرّ الآن بلحظات صعبة جدا. أنا بحاجة للراحة». ثم أضاف مازحا: «لدي الأمل الأكيد بأنني سوف أنكّد أيضا عيش الجميع».
بعد ستة أيام فقط توفي جورج بومبيدو. فتحوا خزانته الخاصة في الاليزيه بحضور ابنه ومستشاره السياسي، لكنهم لم يجدوا وصية ولا أية مذكرات. فقط كلود بومبيدو زوجته قالت فيما بعد: «إنني أمقت الاليزيه (...) منذ وفاة زوجي لم أدخله ولن أدخله أبدا كائنا من يكون الرئيس. إنه منزل التعاسة بالنسبة لي».
عرض ومناقشة: محمد مخلوف