ابن الفارض الشاعر الصوفي المصري
حياته وآرائه ومذهبه الصوفي
٢٩ أيار (مايو) ٢٠١١بقلم طاهرة كرباسفروشها
طاهرة کرباسفروشها: خريجة جامعة آزاد الإسلامية في کرج
بإشراف الدکتور محمد هادي مرادي أستاذ مساعد بجامعة آزاد الإسلامية في کرج
والأستاذ المشرف المساعد الدکتور حسن شوندي أستاذ مساعد بجامعة آزاد الإسلامية في کرج
الملخص
کان ابن الفارض من الشعراء الصوفيين المصريين الذين قدموا في هذا المجال آثاراً قيمة، وبيّنوا فيها أصول الطريقة ومبادئها لطالبي أهلها. هذا المقال يحاول تعريف القارئ علی حياة وآراء ومذهب هذه الشخصية الصوفية المصرية. ويشتمل علی مبحثين ويتناول المبحث الأول حياة ابن الفارض وسيرته والمبحث الثاني يشتمل علی الحديث عن آرائه ومذهبه الصوفي.
الباحثة: طاهرة کرباسفروشها طالبة بجامعة آزاد الإسلامية في کرج في فرع اللغة العربية وآدابها. الکلمات الدليلية: ابن الفارض، الحب الإلهي، الحقيقة المحمدية، الوحدة الشهود والوحدة الوجود،
التمهيد:
البحث في الأدب العربي، وخاصة في الأدب الصوفي سوف يعرفنا على الشعراء الذين امتلأت حياتهم بالحب الإلهي. ومن بينهم يمکن الاستشهاد بعمر بن الفارض الذي بدأ بداية سلوکه الصوفية مع أبيه مع مساعدة شيخه ومرشده الشيخ بقال. ولهذا بدأ بإنشاد القصائد التي لايذوق حلو مذاقها إلا سالک طريق الحق والمعرفة.
يعد ابن الفارض المصري الملقب ب (سلطان العاشقين) من أکابر الشعراء الصوفية والعربية وأبرزهم بلا منازع، وله ديوان شعر بما في ذلک من عيون المعارف والحقائق الإلهية ومن قصائده التائية الکبری وهي من أفضل أناشيد المحبة الإلهية وفيها آراء حول الحب الإلهي ومراحله والحقيقة المحمدية أو قطب الأکبر ووحدة الأديان ووحدة الشهود ووحدة الوجود والجمال الإلهي المطلق.
المبحث الأول: حياة ابن الفارض وسيرته
اسمه ولقبه :
يتّفق المترجمون على أنّ اسمه «عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي» وكنيته «أبوحفص» و«أبوالقاسم» وينعت بشرف الدين ويعرف بابن الفارض. [1].لقد ذكر حول لقبه بابن الفارض : « الفارض : بفتح الفاء وبعد الألف راء مفتوحة وبعدها ضاد معجمة، وهو الذي يكتب الفروض للنساء على الرجال ». [2] « وأنّ أبا الشاعر كان يقوم بإثبات هذه الفروض فغلب عليه التلقيب بالفارض وعرف ابنه بابن الفارض ». [3]
مولده ووفاته:
اختلفت الآراء حول مولد ابن الفارض فقد قال ابن خلكان : « كانت ولادته في الرابع من ذي القعدة سنة ست وسبعين وخمسمائة ( 576 هـ ) بالقاهرة » [4]
ويرى ابن العماد بأنّه « ولد في ذي القعدة سنة ست وستين وخمسمائة ( 566 هـ ) » [5]. أما مصطفى حلمي الذي بحث كثيراً في هذا الموضوع فكانت وجهة نظره بهذه الصورة : « هذا كله من شأنه أن يسلمنا الى نتيجة نهائية، هي أننا نرجح التاريخ الأول وهو ما يذكره ابن خلكان، وذلك لأنّ ابن خلكان، بحكم معاصرته لابن الفارض يمكن أن يعدّ أوثق مصدر في هذه المسألة، وأكثر تحقيقاً لها من غيره ». [6]
وأما في تاريخ وفاته، قد اتّفق جميع المترجمون على أنّه توفي في الثاني من جمادی الأولى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ( 632 هـ ) ودفن بالقرافة بسفح جبل المقطم عند مجرى السيل تحت المسجد المعروف بالعارض الذي هو أعلى جبل المذكورة. [7]
أبوه :
فقد ذكر المترجمون عن والد ابن الفارض أنّه من أکابر علماء مصر و يلزم ولده ( الشيخ رضي الله عنه ) بالجلوس معه في مجالس الحکم و مدارس العلم. [8]
وقد كان زاهداً وورعاً، اتخذ زهده وورعه صورة عملية في آخر حياته حين نزل عن الحكم، ورفض منصب قاضي القضاة واعتزل الناس، وانقطع الى الله في قاعة الخطابة بالازهر. [9] فلذا نستطيع القول بأنّ والد ابن الفارض قد شارك في بيئته العلمية والأدبية، فقد أمضى ابن الفارض المرحلة الأولى من عمره تحت إشراف والده وتثقّف عنده كما تأثّر في حياته الفكرية والروحية تأثراً عميقاً بنسك وتقشّف والده ورفضه لمنصب قاضي القضاة من قبل الملك العزيز. حيث يقول مصطفى حلمي: «نلاحظ هنا أنّ هذه النزعة ألى الزهد في جاه المنصب لابدّ أن يكون لها أثرها في حياة ابن الفارض نفسه، وأن يكون أبوه هو الذي ألقى بذورها في قلبه، هذه البذور التي نمت وأينعت فكانت لها الثمرات التي أثّرت في أطوار حياة ابن الفارض لاسيما الطور الأول منها ». [10]
أصله وموطنه :
أجمع الذين ترجموا لابن الفارض على أنّه حموي الأصل، مصري المولد والدار والوفاة. [11]« ولد بمصر، ونشأ فيها، وترعرع في ظلّها، وأقام الشطر الأكبر من حياته بها، ودفن بأرضها، فهو مصري في مولده، مصري في نشأته وتربيته، مصري في حياته ومماته ». [12]
وقال عبدالرحمن جامي بأنّه من قبيلة بني سعد، قبيلة حليمة السعدية التي أرضعت رسول الله. [13] يذكر لنا الشيخ عليّ عن ولد شاعرنا بأنّه قال: «رأيت الشيخ رضي الله عنه نائماً وهو يقول: صدقت يا رسول الله (ص) واستيقظ من نومه وسألته عن سبب ذلك فقال: يا ولدي رأيت رسول الله في المنام وقال لي: يا عمر لمن تنتسب فقلت: يا رسول الله انتسب إلى بني سعد قبيلة حليمة السعدية فقال: لا بل أنت منّي ونسبك متصل بي». [14]
حياته:
لقد قسّم الباحثون والمترجمون حياة ابن الفارض الروحية والفكرية والصوفية الى ثلاثة أطوار: [15]
الطور الأول، أيام شبابه :
قد اهتمّ شاعرنا في هذه المرحلة من حياته بالزهد والتقشّف والعبادة والقناعة وتثقّف تحت إشراف والده وتفقه على المذهب الشافعي، ويشير الشيخ عليّ سبطه إلى زهده في شبابه قائلاً : « كنت في أول تجريدي، أستأذن والدي وأطلع الى وادي المستضعفين بالجبل الثاني من المقطم وآوي فيه وأقيم في هذه السياحة ليلاً ونهاراً ». [16]
ويصرّح ابن العماد بأنّه « نشأ تحت كنف أبيه في عفاف وصيانة، وعبادة وديانة، بل زهد وقناعة وورع أسدل عليه لباسه وقناعه، فلمّا شبّ وترعرع اشتغل بفقه الشافعية وأخذ الحديث عن ابن عساكر، ثم حبب إليه الخلاء وسلوك طريق الصوفية فتزهد وتجرد ». [17]
ومن الأمور التي يجب أن نعتني بها في فترة شبابه هي : إنّ الشاعر كان متأثراً بعصره فكرياً وروحياً وذلك العصر الذي انتقلت الخلافة من الفاطمية الشيعية الى الأيّوبية السنّيّة. فالنظام الدينيّ في مصر والشام، أصبح خاضعاً لمذهب أهل السنة. كما أقبل الناس على الزهد والتقشّف بسبب استبداد السلاطين والحكام وظلمهم وحروب الصليبيين والبلايا الطبيعية كالطاعون وانخفاض مياه النيل.
[18] وكذلك من الملاحظ أنّ فترة حياة الشاعر كانت قد تزامنت مع التيارات الصوفية المختلفة ومن أهمّها تياران: التيار المحافظ على التعاليم الدينية المأخوذة من الكتاب والسنة وتنفيذ الأحكام والعبادات، والتيار غير المحافظ على التعاليم الدينية وعدم التحفظ بأصولها ومبادئها.
ويشير مصطفى حلمي الى موقف الشاعر حول التيارين السابقين قائلاً بأنه « يمثل التيار الأول مع استثناء بعض أبيات الشاعر توهم في ظاهرها الخروج عن الشرع، ولكنها في حقيقتها ضرب من الشطح الذي يصدر فيه عن الواقع تحت سلطانه أقوال غريبة تبدو في ظاهرها مخالفة كل المخالفة لما جاء به الدين واحتوت عليه تعاليم الكتاب والسنة ». [19]
الطور الثاني : مغادرته إلى الحجاز بإشارة من أبي الحسن البقّال وبداية الفتح :
هناك رواية عن سبب مغادرته إلى الحجاز، نقلها الشيخ علي عن ابن الفارض: « دخلت المدرسة السيوفية،فوجدت رجلاً شيخاً بقّالاً يتوضّأ وضوء غير مرتّب...، فقلت له : يا شيخ أنت تتوضأ وضوءاً خارجاً عن الترتيب الشرعي، فنظر إليّ وقال : يا عمر أنت ما يفتح عليك في مصر، وإنما يفتح عليك بالحجاز في مكة ». [20]
يتعجب ابن الفارض ويقول : « يا سيدي وأين أنا وأين مكة ولا أجد ركباً ولا رفقة في غير أشهر الحج؟ فنظر إليّ وأشار بيده، وقال : هذه مكة أمامك فنظرت معه فرأيت مكة شرّفها الله فتركته وطلبتها فلم تبرح أمامي إلى أن دخلتها في ذلك الوقت وجاءني الفتح حين دخلتها فترادف ولم ينقطع ». [21]
وقد كان ابن الفارض منشغلاً بالعبادة في أرض الحجاز وبوادي مكة بمدّة خمسة عشر عاماً. [22]ويقول مصطفى حلمي في أهمية هذه الفترة من حياة ابن الفارض: « إنّ أهمية هذا الطور لا ترجع الى ما تمتاز به الحياة الصوفية لابن الفارض من الفتح والكشف فحسب، وإنما هي ترجع أيضاً، إلى ما نظمه الشاعر فيه من شعر تبدو عليه المسحة البدوية، وتتردّد في أبياته الصور الحجازية ». [23] ومنها القصيدة التي مطلعها:
أبـَرقٌ بـدا من جانب الغَور لامعُ
أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع
|أنارالغضا ضاءت وسلمى بذي الغضا
أم ابتسـمت عمّا حكته المدامع | [24] في هذه القصيدة، قد ذكر الشاعر الأماكن الحجازية ووصف محبوبته على عادة القدماء، وألبس زياً بدوياً جميلاً بها. [25]
الطور الثالث: العودة إلى القاهرة وانقطاع الفتح وانسداد باب الكشف عليه :
عاد ابن الفارض إلى القاهرة بإشارة الشيخ البقال وقال سبب عودته هكذا : « سمعت الشيخ البقال يناديني يا عمر تعال إلى القاهرة احضر وفاتي وصلِّ عليَّ ». [26] فلبّى ابن الفارض دعوته ورجع إلى القاهرة ورآه محتضراً لقد دفنه في القرافة تحت المسجد المعروف بالعارض احتراماً لنظر الشيخ البقال ». [27]
هذه الفترة تعتبر فترة انقطاعه عن الكشف والفتح الذي يشير إليها :
نقلتني عنها الحظوظ، فجُذّتْ
واراداتـي، ولـم تدُم أورادي
آه لـو يسـمح الزّمان بعـودٍ
فعسى أن تعود لي أعيـادي
[28]
« رجع إلى مصر في عام ( 628 هـ ) ولكن كان حزيناً بسبب تلك الديار المقدّسة دائماً ». [29]
عند عودته الى مصر كان الأيوبيون يُسوِّدون عليها مهتّمين بتخليد ذكرهم فيها ببناء المدارس والمعاهد والمساجد وبتأسيس الخانقاوات لمواجهة طريقة الفاطميين. لذا كان عصر الشاعر مهداً مناسباً لتعاليم الصوفية. وصار الجوّ مناسباً لابن الفارض فتلألأ كنجمة في السماء الشعر الصوفي.
كانت حياته مصادفةً مع ولاية أربعة من الملوك، صلاح الدين، العزيز، العادل، والكامل وكلّهم يحترمون الشاعر - ابن الفارض - وكانوا يحضرون مجالسه الأدبية ويقول الشيخ علي مشيراً إلى رغبة السلاطين إليه وإلى الأدب : « كان الشيخ ( ره ) جالساً في الجامع الأزهر على باب قاعة الخطابة وعنده جماعة من الفقراء والأمراء وجماعة من مشايخ الأعاجم المجاورين بالجامع الأزهر وغيرهم .. وأيضاً كان السلطان الملك العادل ( ره ) أهل علم ويحاضرهم في مجلس مختص بهم وكان يميل إلى فن الأدب ». [30]
أسلوبه ومؤلفاته :
لا يعرف لابن الفارض آثاراً أدبية أو صوفية غير ديوانه وهو صغير الحجم وعدد أبياته ألف وثمانمائة وخمسين بيتاً ( 1850 ) ويعد تحفة أدبية وعلى صغر حجمه من أحسن الدواوين العربية من ناحية الموضوع والأسلوب ويدور على موضوع واحد فهو الشعر الصوفي في الحب والخمر. [31]
يكون شعره مرآة صادقة تنعكس على صفحتها أذواقه ومواجيده التي خضعت لها نفسه في سبيل الحب الالهي. ويعد بحق تراثاً روحياً خصباً خالداً ». [32]
لديوان ابن الفارض خصائصٌ فنّية وصوفية « ولعل أظهر ما يمتاز به شعر ابن الفارض من الناحية الفنية هو الإسراف في الصناعة اللفظية أو الإغراق في المحسّنات البديعية، على سبيل المثال :
سهم شهم القوم أشوى وسوى
سهم ألحا فلکم أحشای شی
[33]
وهذا طبيعيٌ لأنه كان يعيش في عصر يمتاز بكثرة الجناس والطباق والبديع وهو عصر التصنّع والتكلّف ويرى المقدسي بأنه « قد نشأ في عصر بلغت فيه الأناقة البديعية نثراً و نظماً أعلى درجاتها، فهو عصر القاضي الفاضل، والعماد الأصبهاني و بهاء الدين زهير وابن سناء الملك و.... قد عُرفت هذه الطبقة جميعها، بولعها الشديد بالصناعة اللفظية وتكلّف أنواع البديع ». [34] مع ذلك قد امتاز شعر ابن الفارض برقة اللفظ مع الجزالة والمتانة ودقة المعنى وعمق الفكرة والسلاسة والوضوح وبصدق الحسّ وسلامة الأسلوب وبعد الخيال وجمال الصورة. [35]
هذا من الناحية الفنية، أما من الناحية الصوفية : كان ديوان شاعرنا ثمرة صالحة، ذو نزعة صوفية واضحة لما امتازت به نفس الشاعر من « رقة الشعور ودقة الحس وسموّ العاطفة التي سيطرت على نفسه سيطرة قويّة .. فإذا هو يقضي حياته مقبلاً على محبوبه، كلفاً به مشوقاً إليه، مفنياً نفسه فيه، حتى ظفر من هذا كله بما قرت به عينه، واطمأن إليه قلبه، من اتصال بالذات العليا وكشف للحقيقة المطلقة التي هي عنده كل شيء في هذا الوجود وإليها يردّ كل موجود، ومن هنا كان ديوان شاعرنا أنشودة جميلة من أناشيد الحب، وهتافاً صادقاً رددته نفس الشاعر في رياض القلب ». [36]
المبحث الثاني: آرائه ومذهبه الصوفية
إنّ القسم الأكبر من آراء ابن الفارض في الحب الإلهي والوحدة والحقيقة المحمديّة، صرّحها بمذهبه في الحبّ حيث قال :
وعن مذهبي في الحب مالي مذهب
وإن ملتُ يوماً عنه فارقت ملّتي [37] يظهر ابن الفارض في هذا البيت حقيقة مذهبه الصوفي أنّه الحب الالهي الذي اتخذه موضوعاً لقصيدته الصوفية يعني " التائية الكبرى " . وقد استطاع ابن الفارض أن يلخص أطوار هذا الحب إلالهي عند جميع الذين تذوّقوه في تاريخ التصوف العربي من عهد رابعة العدوية إلى الوقت الذي نظم الشاعر هذه القصيدة.
ابن الفارض: شاعر الحب الإلهي
« المحبة ميل الجميل إلى الجمال بدلالة المشاهدة، كما ورد : " إنّ الله جميل ويحب الجمال"، والجمال الحقيقي صفة أزلية لله سبحانه مشاهد في ذاته أزلاً مشاهدة علمية، فأراد أن يراه في صفته مشاهدة عينية، فخلق العالم كمرآة شاهد فيه عين جماله عياناً، وقوله ( ص ) : كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن اُعرف فخلقت الخلق ». [38] « الواقع أنّ الحبّ بما يحويه من إلهامات وإشراقات وأحاسيس ومشاعر ومواجيد لا يمكن شرح أسراره وتحديد معناه، وتعريف محتواه بألفاظ وكلمات، لأنّ الكلام لا يستطيع الغور الى معرفة كنه الأسرار، وحقيقة المشاعر والخلجات، حتى ليصدق فيه القول القائل : " مَنْ ذاق عرفَ " ». [39]
ولكن بالضرورة يجب علينا أن نعرف " الحب " لغة واصطلاحاً .
الحبّ لغةً :
« الحُبُّ : نقيض البُغض. والحُبُّ : الودادُ والمَحبّة، وأَحَبَّهُ فهو مُحِبٌّ وهو محبوبٌ. والمَحَبَّةُ أيضاً: اسم للحُبِّ وتَحَبَّبَ إليه : تَوَدَّدَ. والحِبُّ: الحبيبُ، مثل خِدنٍ وخَدينٍ .. الحبيب يجيءُ تارةً بمعنى المُحِبّ ويَجيءُ تارةً بمعنى المَحبوب. وجمع الحِبِّ، أَحبابٌ وحِبّانٌ وحُبُوبٌ وحِبَبةٌ وحُبٌّ . والتَحَبُّبُ : إظهارُ الحبِّ ... وهم يَتَحابُّون : أي يُحِبُّ بعضهم بعضاً ». [40]
الحب والمحبة اصطلاحاً:« الحبّ هو خلوصه إلى القلب وصفاءه عن كدورات العوارض فلا غرض له ولا إرادة مع محبوبة ». [41]
« الحبّ على ثلاث مراتب : 1. حبٌّ طبيعي : وهو حب العوام وغايته الاتحاد في الروح الحيوانية، 2. حبٌّ روحاني نفسي : وغايته التّشبه بالمحبوب مع القيام بحق المحبوب ومعرفة قدره، 3. حبٌّ إلهيٌ : وهو حب الله للعبد وحب العبد ربه ». [42] « المحبّة وهي من أعلى مقامات العارفين وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين ومعها نهاية الفضل العظيم ». [43]
« للمحبّة ظاهر و باطن، ظاهرها اتباع رضا المحبوب، وباطنها أن يكون مفتوناً بالحبيب عن كل شيء ولا يبقى فيه بقية لغيره ولا لنفسه ». [44]
« علامة المحبة، كمال الأنس بمناجاة المحبوب وكمال التّنعّم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كل ما ينقض عليه الخلوة، ومتى غلب الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحب والأنس قلبه، حتى لا يفهم أمور الدنيا، ما لم تتكرر على سمعه مراراً، مثل العاشق الولهان ». [45]
تكلم شيوخ الصوفية في المحبة، قائلين بأنّ :
« المحبة محو المحب بصفاته وإثبات المحبوب بذاته، " حقيقة المحبة أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب " ، " المحبة نار في القلب تحرق ما سوى المحبوب " ، " المحبة دوام ذكر الحبيب على اختلاف أحوال المطلوب " ، " المحبة استيلاء ذكر المحبوب على جميع قلب المحب " ، " المحبة أن تمحو آثارك حتى لا يبقى منك شيء " ، " المحبة محو الإرادة واحتراق جميع الصفات " ». [46]
مراتب المحبّة : المحبة ذو مراتب و بدايتها " الموافقة " ثم " الميل " ثم " المؤانسة " ثم" المودّة" ثم " الهوى " ثم " الخِلّة " ثم " المحبّة " ثم " الشغف " ثم " التيم " ثم " الوله " ثم " العشق ". [47]
الحب الإلهي نشأته وتطوره :
إنّ المستشرقين يعتقدون بأن عنصر الحب الإلهي قد أخذ من الأمم الأخرى كالمسيحية وأفلاطونية الحديثة، ومن الذين يذهبون إلى هذا الرأي " فون كريمر "، " جولد تسبهر"، " نيكلسون " و" آسين بلاثيوس " وغيرهم. [48]
الواقع أن فلسفة الحب الالهي عند المسلمين إنما هي اسلامية المنشأ والتأثير. وقد اتّجهت الصوفية الى المحبة وأقاموا الدليل لها آيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية وفي القرآن الكريم أكثر من مئة آية فيها ذكر للمحبة وما يشتق منها كقوله : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " [ المائدة 54 ]. " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله " [ البقرة 165 ]. " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " [ البقرة 222 ]. " والله يحب المحسنين " [ آل عمران 134 ]. " والله يحب الصابرين " [ آل عمران 146 ]. " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " [ البقرة 190 ]. وهناك أحاديث نبوية كثيرة ومنها : « قال ( ص ) : أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي ». [49] « وقال ( ص ) : مَنْ أحب لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ». [50]
إنّ المحبين قد تباينوا بتباين مراتبهم ودرجاتهم وبعضهم أعلى من بعض، ومنهم « ابن الفارض سلطان العاشقين وإمام المحبين في الحب الإلهي بين شعراء العرب من أصحاب الذوق الصوفي والوجد الروحي، وقد شاع هذا الحب في ديوانه كلّه عامّة، وفي قصيدتيه الصوفيتين أي " التائية الكبرى " و" الميمية " بصفة خاصة ». [51]
قد اتّفق جميع الباحثين والدارسين بأن الرابعة العدوية أول من تَكَلَّم عن الحب الإلهي وأخرجت التصوف عن تأثره بعامل الخوف، وأخضعته لعامل الحب، كما يقول مصطفى حلمي :« لو استطردنا في ذكر تاريخ لفظة الحب، أو المحبة واستعمالهافي التصوف الإسلامي لرأينا أن رابعة كانت صاحبة الفضل على من جاءبعدها من صوفية المسلمين الذين اصطنعوا لفظة الحب في غير ما تردّد أو إبهام ». [52] كما يؤكده الدكتور علي نجيب عطوى قائلاً : « بأنها أول من أنشد المقطوعات في الحب الإلهي والحبيب الذي تتغنّى بحبه وتناجيه، هو الله عزّوجل، الذي تُقبِلُ عليه، وتخلو إليه، وتدأب على حبها له، فلا تبرح بابه مهما طال بها الانتظار، لأنه مؤنس لروحها ومنبّه لقلبها وأمل لحبها، لا تفعل ذلك خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته ولكن ابتغاء وجهه الكريم وحده ». [53] حيث تقول:
أُحبُّك حـبّين حبّ الهـوى
وحبّـاً لأنـّك أهـلٌ لـذاكا
فأما الـذي هو حبُّ الهـوى
فـشغلي بحبك عـمّن سواكا
وأمـا الـذي أنت أهـلٌ لـه
فكـشفُك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا، ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
. وفي هذه الأبيات تميّزت رابعة بين نوعين من الحب : حب الهوى، والحب الخالص، والأول حب ناقص لأنه حب أرضي محسوس، وهو الخطوة الأولى للحب الكامل الخالص غير المحسوس الموجه الى الله تعالى، والحبان مكمل بعضها لبعض ». [54]
هذا الحب الإلهي أصبح شائعاً جدّاً في أقوال الزّهاد والعباد وأخذ طريقه إلى قلوب المسلمين الذين كانوا يتلذذون به، ومن الصوفية الذين قالوا في الحب الإلهي بعد " رابعة العدوية " : " معروف الكرخي " و" ذو النون المصري " و" أبو يزيد البسطامي " الذي دعا لفكرة الفناء في الذات الإلهية. والاتحاد بين المحب والمحبوب. وفي هذه الفترة نجد كذلك " عبدالله الحارث بن أسد المحاسبي " الذي تحدث في رسالته عن أصل حب العبد للرب، وأن هذا الحب منَّة إلهية، أودع الله بذرتها في قلوب محبيه، وأيضاً " يحيى بن معاذ الرازي " الذي يستعمل لفظة " الحب " استعمالاً صريحاً ولذلك " الجنيد " الذي يرى في حب الله أُنس الفؤاد. ومن الذين خلّفوا آثاراً كثيرة في المحبة هو الحلاج وقد ترك لنا آثاراً منظومةً ومنثورة وكلها واضحة وصريحة في دلالته على أن الرجل قصد بها إلى حب الله. [55]
لقد تطور شعر الحب الإلهي في القرن السادس الهجري وبلغ إلى قمة مجده وازدهاره وذلك على يد شاعر الحب الإلهي وزعيمه في الأدب العربي " أبي حفص عمر بن الفارض". « فقد وقف ابن الفارض شعره وحبس قريحته على التغني بحبه لربه وعشقه إياه »، [56] حتى لُقِّب بسلطان العاشقين.
الحب الإلهي عند ابن الفارض وأطواره :
إذا تأملنا ديوان ابن الفارض نلاحظ أنّه كان مقتصراً على تصوير عاطفة الحب الإلهي التي كان يستعملها في التعبير علی ألفاظ الغزليين أو الخمريين، فاضطرب المفسرون في تأويله على مذهبه في الحب إلالهي، لذا ذهب الكثير من الآخذون بظاهر الألفاظ والمعاني الى أن ابن الفارض يتغنى غزلاً كغيره من الشعراء الذين يتغنون حب ليلى أو بثينة أو سعاد، أو الشعراء الذين يستعملون في صراحة كل ما يتصل بالخمر من " حان " و " دن " و " كأس" و " قدح " و " سكر " و " نشوة " و " ألحان " و " ندمان " وما شأن هذه الألفاظ . [57]
ولكن يتوسع الدكتور محمد مصطفى حلمي في كتابه عن ابن الفارض، فيتساءل عن أي نوع من الحب كان يتغناه ابن الفارض مع محبوبه وما هو أسلوبه في ذلك وما هو شأن هذه الألفاظ التي يعبر عنها ابن الفارض عن حبه، وعن خمره، هل يعبّر بها عن حب إنساني ويصف فيها خمراً مادياً أو إنه يتخذ من هذا كله رموزاً وكنايات يشير بها إلى حب إلهي وإلى خمر روحية. [58]
ثم قد اقترح محمد مصطفى حلمي فروضاً تدور حول حب ابن الفارض بأن ابن الفارض، « بحكم حياته الصوفية التي كان يحياها منذ بدأ سياحته بوادي المستضعفين بالمقطم، حتى وافته منيته، لابد أن يكون مثله كمثل كثير من الصوفية فيما يستعملون من رمز وما يؤثرون من كناية أو إشارة يعمدون فيها إلى إخفاء أسرارهم وستر حقائقهم عمن ليس من طريقهم وليس من شك في أن ابن الفارض كان قبل التجريد والسياحة إنساناً كغيره من الناس يخضع لما يخضعون له من مطالب الحس ورغبات النفس، ويتأثر بما يتأثرون به من جمال يتجلى في مختلف الصور الإنسانية والحيوانية والجمادية. وإذن فليس ما يمنع من أن يكون شاعرنا قد أحب حباً إنسانياً في أول عهده، ثم أقبل بعد ذلك على الله، وجرد عزمه في حبه له، وإعراضه عمّن سواه .. وليس ما يمنع فوق هذا كله من أن يكون الشاعر قد عبّر عن حبه الالهي في لغة الغزل الإنساني متأثراً في ذلك بالطريقة الصوفية في الرمز والالغاز ». [59] فيستنتج" حلمي " بأن الغزل في شعر هذا الشاعر يمكن أن يكون على نوعين :
- الغزل الإلهي الإنساني.
- الغزل الإلهي الخالص.
- ويقول : « إنما نحن نقف موقفاً من شأنه أن يجعل حكمنا على هذا القسم من شعر شاعرنا معلقاً، يؤوّل فيه الغزل تأويلين مختلفين، يذهب أحدهما إلى أن المحبوب أو المحبوبة ليس إلّا الذات الإلهية، أو الحقيقة العليا والآخر إلى أن هذا المحبوب أو المحبوبة ليس إلّا مخلوقاً أو مخلوقةً من البشر، وهكذا نرى أن في شعر ابن الفارض غزلاً يمكن أخذه على أنه إلهي بقدر ما هو إنساني، ويظهر أن الشطر الأكبر من ديوانه من هذا الغزل ذي الوجهين ». [60]
يستثني " حلمي " عن هذا الحكم القصيدتين الصوفيتين " التائية الكبرى " و" الخمرية "، من ديوان ابن الفارض قائلاً : بأن « الحب الذي تصوران حب إلهي خالص، وإذا صادفنا فيهما أبياتاً يمكن أن تفهم على أنها غزل انساني أو خمري، فمن اليسير أن نؤوّل هذه الأبيات تأويلاً صوفياً ونوجهها توجيهاً إلهياً لا سيّما أن أسلوب الرمز والإيماء واضح هنا، وكثرة القرائن ومقتضيات الأحوال، تُعين على فهم هاتين القصيدتين فهماً صوفياً وتفسير الحب الذي يهتف به الشاعر فيهما على أنه حب إلهي لا شبيه فيه ولا غبار عليه ». [61]
بهذا الصدد، يظهر لنا إن أشعار ابن الفارض في حبه الإلهي تندرج في قسمين أو نوعين من الحب ؛ أوّلهما : الحب الإلهي الإنساني وثانيهما : الحب الإلهي الخالص.
الأول ؛ الحب الإلهي الإنساني : وهذا ما نلاحظه في أكثر أشعاره التي كتبها عندما يخاطب فيها محبوبته او محبوبه، فمثلاً يقول :
ما رأت، مثلـك، عينــي حسناً
وكمثـلي، بك صبّاً، لـم تـري
نسـبٌ أقـرب، في شـرع الهوى
بيننــا، مِنْ نسبٍ مِن أبـوي [62] إذن، عند قراءتنا للبيت الأول نلمس نوع المخاطبة التي يستخدمها الشاعر في التعبير عن إعجابه بالمحبوبة وكأنها واقفة أمامه تتكلم معه « ولا يمكن أن يكون الخطاب فيه موجهاً إلى الله، لأن توجيهه في هذه الألفاظ، وعلى هذه الصورة، أمر لا يليق بالذات الإلهية وإنما وجه الخطاب فيه إلى المحبوب الإنساني ».
[63] ولكن إذا نظرنا إلى البيت الثاني، لا يدع مجالاً للشك أن ما يقوله لغير المحبوبة الآدمية التي معه، حيث يقول الشاعر أن النسب بينه وبين المحبوب، أقوى من نسبه مع أبويه، لهذا يصف هذا النوع في الحب، الأستاذ الدكتور حلمي، بالحب الإلهي الإنساني، لأن التعبير الظاهري في أشعار ابن الفارض هي تعابير موجهة إلی بشر مثله ولکن في الحقيقة تحمل في معانيها الباطنية خطاباً لايبتعد في توجيهه عن الله. فيقول : « ولكنك لو أعملت فكرك، وهيأت نفسك لشيء من التحليل والتأويل، لوصلت في النهاية إلى أن هذا الخطاب لا يبعد توجيهه إلى الله، وهذه المسألة يمكن حلّها حلّاً قد يكون قريباً إلى الحق، وموافقاً لطبيعة التصوف ». [64]
الثاني؛ الحب الإلهي الخالص: أما الغزل الإلهي الخالص الذي استعمله ابن الفارض في أشعاره فقد كان واضحاً في نوع مخاطبته أو طريقة التعبير عن حبه وعشقه الالهي وذلك من خلال استخدامه عُنصري الرمز والتلويح فنجده في البيت التالي يقول :
شربنا على ذكـر الحبيب مدامـة
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم [65] « فهذه المدامة التي وصفها ابن الفارض في خمريته، فهي روحية خالصة شربها وسكر بها من قبل أن يخلق الكرم أي من قبل أن تهبط روحه من عالم الأمر إلى عالم الحس وتتصل بالبدن ». [66] هذا الحب الإلهي الذي نراه في ابن الفارض لم يأت مرة واحدة، أي لم يكن على مستوى واحد في التعبير عن نوع الحب الذي استعمله لربه، بل مرّ بعدّة أطوار حملت تغييرات كثيرة في نفس ابن الفارض، حتى وصل في آخر طور الى الحالة المتآلية القصوى في طريقة تعلّقه وتغزّله بالذات الالهية. [67]
قد صوّر ابن الفارض أطوار حبه الإلهي في التائية الكبرى واكتشف عجائب الحب وحقائق المعرفة فيها، وهذه الأطوار هي التي نبينها في هذا المجال :
الطور الأول ؛ حب الهوى:
في هذا الطور يظهر لنا ابن الفارض حبه لله ناقصاً مشوباً بشوائب الحس وأشبه ما يكون بالحب البشري، أو ما ذكرته رابعة العدوية بحب الهوى في مقابل حب الله لذاته، كما أشرنا آنفاً.
وقد فسّر حلمي هذا الحب ويقول : « في هذا الطور ليس المحب متجهاً بحبه إلى محبوبته من حيث هي، ولكنه محب لنفسه متّجه بحبه إلى إشباع رغبات هذه النفس وتحقيق حظوظها من المحبوبة كميله إلى رؤيتها وسماع كلامها ». [68]
فيؤثر الحب في نفس المحب ويتحمل المشقة والألم لأجل رؤية المحبوب وسماع كلامه ولا يشكو ولكنه يرضى على جميع ما يصيبه من أهوال المحبة « ومن هنا كان الطور الأول لحب ابن الفارض مرآة واضحة ظهرت على الأثرة وحب النفس من ناحيةٍ والرضا من ناحية أخرى ». [69]
وفي هذا الطور يدرك ابن الفارض بأن الوصول الى المحبوبة الحقيقية والتحقق بشهود الذات لا يتحققان بالحياة النفسية، بل يتحققان بالموت، الموت الذي لا تبقى معه بقية من حظ أو مطمع في غرض، الموت الذي تخلص فيه النفس من كل العلائق. [70]
فهو قد أصبح راضياً عن هذا الموت في سبيل المحبة ويقول :
أجلْ أجلي أرضى انقضاه صبابةً
ولا وصل، إن صحّت، لحبك نسبتي [71] فالمحب يرضى عن موته وفنائه لأنه يرى فيه سعادته وحياته، فيقول :
وقد صرتُ أرجو ما يُخاف فأسعدي
به روح ميتٍ للحيـاة اســتعدّتِ [72] « فالفناء الذي يتحدث عنه ابن الفارض هنا ليس فناءً تاماً قد تحقق فيه بموته عن نفسه وروحه، ورجاءه دليل على أنه يتحقق به بعد ». [73] يعني في الطور الثاني الذي فيه تستعد النفس لقبول الفناء الكلي.
الطور الثاني ؛ مغادرة الهوى والوصول إلى الفناء التام والاهتمام بارادة المحبوبة : لكي نعلم الفناء عند ابن الفارض يجب علينا أن نتعرف علی أنواع الفناء، وللفناء أنواع ثلاثة؛ومنها: «الأول: الفناء عن وجود السوى : فهو فناء القائلين بوحدة الوجود. الثاني: الفناء عن شهود السوى : وهو الذي يشير إليه أكثر الصوفية المتأخرين ويعدّونه غاية.وليس مرادهم فناء ما سوى الله في الخارج بل فناءه عن شهودهم وحسهم، فحقيقته غيبة أحدهم عن سوى شهوده، بل غيبته أيضاً عن شهوده ونفسه، لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره وبموجوده عن وجوده وبمحبوبه عن حبه، وبمشهوده عن شهوده، وقد يغلب شهود القلب لمحبوبه ومذكوره حتى يغيب المحب به فيظن أنه اتحد به وامتزج، بل يظن أنه نفسه. الثالث: الفناء عن إرادة السوى : فهو فناء خواص الأولياء وأئمة المقربين، السالك فيه يفنى بمراد محبوبه منه عن مراده هو من محبوبه، فضلاً عن إرادة غيره، ويتحد مراده بمراد محبوبه، أعني المراد الديني الأمري لا المراد الكوني القدري، فصار المرادان واحداً، وليس في العقل اتحاد صحيح إلّا هذا ». [74]
فيتساءل " حلمي " فمن أيها كان فناء ابن الفارض؟ فأجاب : إذا تأملنا في أبيات ابن الفارض التي يشير فيها الى الفناء، نرى أن فناء ابن الفارض قد جمع بين الفناء عن " إرادة السوى " وبين الفناء عن " شهود السوى ". [75] حيث قال الشاعر:
« رفعتُ حجاب النفس عنها بكشفي النّقاب، فكانت عن سؤالي مجيبتي وكـنت جلا مـرآة ذاتـي من صدا صفـاتي، ومنـي أحـدقت بأشعّة وأشهـدتني إيّـاي، إذ لا سواي، في شهودي، موجودٌ، فيقضي بزحمة » [76]
ونرى أن الفناء هنا ليس إلّا فناء عن شهود السوى، خاصة في البيت الأخير، وأما فناء ابن الفارض عن إرادة السوى فذلك أمر واضح يدل عليه قسم كبير من أبيات التائية الكبرى ومنها:
«وصرت بها صبّاً، فلمّا تركتُ ما
أريـد ، أرادتنـي لهـا وأحبّتِ
|فصرتُ حبيبـاً ، بل محباً لنفسـه
وليس كقولٍ مرّ، نفسي حبيبتي» [77] يعني « كنت من قبل عاشقاً لها صباً بها مريداً وصالها، فلما تركت أرادتني وفنيت بها عن جميع المرادات وأحببتها لذاتها أرادتني المحبوبة لنفسها وأحبتني فصرت محبوباً بعدما كنت محباً ». [78]
ونرى أنه يشير هنا بما يفهم منه أنّ فناءه كان فناء عن " إرادة السوى "، وهذا الفناء الذي حصل لابن الفارض في الطور الثاني، هو الذي يؤدي إلى الاتحاد الذي أشار إليه " الجرجاني " قائلاً بأنه : « شهود الوجود الحق الواحد المطلق الذي الكل موجود به فيتحد به الكل من حيث كون كل شيء موجوداً به، معدوماً بنفسه لا من حيث إن وجوداً خاصاً اتحد به فأنه محال ». [79]
الطور الثالث ؛ الوصال :
في الطور الأول، قد فنى المحب عن حظوظه وعلائقه وفي الطور الثاني، فنى عن ذاته وعن كل شيء ويريد ألا يكون شيئاً، وفي الطور الثالث أصبح فانياً عن نفسه باقياً بمحبوبه. [80] " الفناء " و" البقاء " في هذا الطور يكونان للشخص في زمان واحد ولكن من نسبتين مختلفتين، ويشرح كاشاني هذا المعنى في رشح الزلال قائلاً بأنهما « متلازمان، فإنّ الفناء عن كذا من النسب الكونية، مستلزم للبقاء بكذا، من النسب الخفية، كفناء العبد عن فعله، مستلزم لبقائه بفعله تعالى، فيقال إذن: إنه قائم على كل شيء بفعل الحق لا بفعل نفسه، وفناؤه عن وصفه يستلزم بقاءه بوصفه تعالى، وكذلك فناؤءه عن ذاته بقاءه بذاته تعالى ". [81]
وهذا هو الذي يسمّيه الصوفية " صحو الجمع " أو " الصحو الثاني " وهو حالة الشهود التي يشعر فيها الصوفي اتحاد المخلوق بالخالق مع شعوره بالتميز بينهما.
في الطور الثاني، يغيب الصوفي عن جميع صفاته وآثاره، أما في هذا الطور « يعود إليه إدراكه بهذه الصفات التي تزداد وضوحاً لأنها تتحوّل إلى صفات روحية بحتة، ومعنى هذا أن أرقى أحوال الصوفية حالة ايجابية لا سلبية، لأنّ الصوفي يشعر فيها ببقائه لا بفنائه، ولكنه بقاء بالصفات الإلهية والأعمال الإلهيه لا بصفاته هو و أعماله. فهو يظهر بين الناس بهذه الصفات و الأعمال، ولكنه يحتفظ لنفسه بالصلة الشخصية التي تربطه بالحق، ويشعر أنه متحد به مع مخالفته تعالى للحوادث ». [82]
وهذا الطور لم يكن آخر ما انتهت إليه حياة ابن الفارض الروحية علی طريق المحبة الإلهية، بل أنه جاوزه وأطلق نفسه عن الوقوف مع الحب والفناء والاتحاد، لأن وقوفه معهم حجاب من شأنه أن يحجبه عن مشاهدة الذات العليا، لذا يقول :
فنا الحب ها قد بنت عنه بحكم من
يراه حجاباً فالهـوى دون رتبتـي
وجاوزت حد العشق فالحب كالقلى
وعن شأو معراج اتحادي رحلتي [83] وجملة القول، « إن ابن الفارض فيما وصل إليه في آخر أطوار حبه من اتحاد، ومما يتجاوز الاتحاد، وفيما انكشف له في هذه الأطوار من حقائق ومشاهدات، يصطنع منهجاً نفسياً خالصاً قوامه الذوق والوجد، ودعامته تطهير النفس ...، ولعلّ تاريخ الآداب الصوفية العربية لا يعرف شاعراً وقف حياته الروحية كلها على حب الله والتغني بجمال ذاته كما فعل ابن الفارض ». [84]
فيعدّ بحق سلطان العاشقين وإمام المحبين.
ابن الفارض بين وحدة الشهود ووحدة الوجود :
عاش ابن الفارض في عصر شاعت فيه الأفكار الفلسفية وتعاليم الفرق الاسلامية شيوعاً كبيراً وتضاربت الآراء حول " الحلول " و " الاتحاد " و " وحدة الوجود " فوجد الصوفية أنفسهم أمام تراثٍ فكري ضخم من " الأنظار العقليّة " و " الأذواق الروحيّة " و " العقائد الدينيّة " و کانو يتأثرون بها .
وقد كان ابن الفارض واحداً من هؤلاء الصوفية : فلا عجب أن استمد ابن الفارض من هذا التراث العقلي والروحي في مفرداته واصطلاحاته للتعبير عن مذهبه الخاص. [85] وهكذا « قد أوقع الكثيرون من شُراحه في لبس خلطوا به بين مذهبه وبين بعض المذاهب السابقة عليه أو المعاصرة له وخاصّة نظريّة " وحدة الوجود " التي قال بها ابن عربي وبسطها في كتابه " فصوص الحكم " ». [86]
ترجع نشأة فكرة " الوحدة " إلى التفكير الكلامي بُحت " فقد بدأ المسلمون ببحث معنى الوحدانية، وفسّروا الله الواحد الواجب الوجود، بمعنى أنّه ينفرد بالوجود الحقيقي وأنّ كلّ ما عداه عدم محض، لأنّ كلّ ما عداه ممكن الوجود، أي وجوده من غيره لا من ذاته، ثم فسّروا " واجب الوجود " بأنّه الفاعل الحقيقي والقادر الحقيقي، ثم توسعوا في معنى التوحيد فلم يقفوا عند نفي الشرك باللّه، بل نفوا وجود كل ما سوى الله، وأنكروا الكثرة وعدوها من فعل الخيال والوهم وهكذا انتهى بهم الأمر أن يقولوا بدلاً من لا إله إلا الله، لا موجود على الحقيقة إلّا الله ». [87] و " الوحدة " في طريق تطورها لدى المسلمين بعامّة والصوفية بخاصّة نزعت الى" الفناء " في الله ومحو الوجود المجازي في الوجود المطلق الحقيقي. ويمتاز القرنان السادس والسابع للهجرة بظهور صور كثيرة لمذهب الوحدة فاتّخذ هذا المذهب صورة متطرفة في بعض الأحيان، وصورة معتدلة في بعض الأحيان الأخرى، وهناك ظهر مذهب ابن عربي باسم " المدرسة الوجودية " وزعيم هذه المدرسة وتلاميذه كانوا يقولون بأن وجود الله هو عين وجود العالم. [88]
« فإن الاتحاد عندهم عبارة عن الوحدة الذاتية الحقيقية بين الحق والخلق، أو بين المطلق والمعيّن بحيث لا يكون لأحدهما وجود مستقل عن وجود الآخر ». [89]
المسألة التي تتبادر للذهن حول مذهب ابن الفارض في الوحدة، هي أنّها من قبيل وحدة الوجود التي أثبتها الفلاسفة الخلص والصوفية المتفلسفون بين الله والعالم، أو هي وحدة من نوع آخر، أجاب مصطفى حلمي عنها و قال : 0« إنّ هذا المذهب لم يكن اتحادياً بمعنى أن الاتحاد فيه عبارة عن وحدة الوجود بل كان واحدياً بمعنى أن اتحاد فيه مرادف للشهود الذي هو حضور الذات وانكشافها لعين السالك، وفرق ما بين وحدة الوجود ووحدة الشهود كفرق ما بين الحقيقة الواقعة في ذاتها مستقلة عن حسّ إلانسان وشعوره وعقله، وما بين الحقيقة من حيث إدراكها في حالة خاصّة وتحت تأثير شعور معين ». [90] « ووحدة الشهود هنا، " حال " أو تجربة يعانيها الصوفي لا عقيدة ولا علم ولا دعوى فلسفية يحاول برهنتها أو يطالب الغير بتصديقها ». [91]
ومن هنا يمكن القول بأنّ ابن الفارض كان في تصوفه أو في تواجده من القائلين " بوحدة الشهود " لا " وحدة الوجود " . « الوحدة التي شهدها في حال فنائه عن شهود السوى، بمعنى أنه فنى عن شهود ما سوي الله فناءً تاماً، فلم يشهد غير ذات واحدة فنيت فيها كل الذوات، هي ذات الله ». [92] « فكانت وحدة الشهود عند ابن الفارض عبارة عن الفناء عن شهود التكثر والتعدّد بين المشاهِد والمشاهَد ». [93] وهكذا « يشهد أن المحبّ عين المحبوب أو الرائي عين المرئي والمشاهد عين الشهود ». [94]
وإنّه في كل مواضع شهوده لم يخرج عن الحالة النفسيّة المصطبغة بصبغة الذوق الشخصي والوجد الروحي، فيحسن بنا أن نتعلم « أنّ الوحدة التي انتهى ابن الفارض الى اثباتها عن طريق ذوقه ووجده الروحي، إن كانت قريبة من بعض النواحي من وحدة الوجود، فإنّها في قرارها لم تكن من وحدة الوجود إلّا من حيث بعض الألفاظ والعبارات التي استقاها شاعرنا من معجم وحدة الوجود، ولم يجد خيراً منها يسعفه بالتعبير عمّا هو بصدد التعبير عنه من وحدته الشهودية أو شهوده الواحدي ». [95] فضلاً عن هذا أنه قد أشار الى مذهبه في الوحدة في بعض الأبيات بصراحة حيث قال :
كذا كنت حيناً قبل أن يكشـف الغطا
مـن اللـبس لا أنفـك عـن ثنويّة
أروح بفقــد بالشــهود مـؤلفـى
وأغـدو بوجـد بـالوجود مشـتتي
يفرقنـي لبـي التزامـاً بمحضـري
و يجمعني سلبي اصطلاما ما بغيبتي
إخال حضيضي الصحو والسكر معرجي
إليها ومحـوي منتهى قاب سدرتي [96] يبين لنا ابن الفارض في هذه الأبيات معنى الشهود والوجود، فالشهود عنده هو علّة فقده لوجوده الذاتي، واتحاده بذات محبوبته، على عكس الوجود، فإنه علّة وجده لذاته وتفرقته عن ذات محبوبته. وأيضاً فرق بين الوجود والشهود فيقول : إن العقل هو علّة التفرقة الحاصلة عند إدراك الوجود، كما أن الغيبة عن هذا العقل هي علّة الجمع.(حلمي،لاتا،ص:310) وكما نراه ينفي بوضوح عن نفسه فكرة الحلول قائلاً بأنّ:
وها دحيـة وافـي الأمين نبيّنـا
بصورتـه فـي بدء وحـي النبوءة
أجبريل قل لـي كان دحية إذ بـدا
لمهدي الهـدى فـي هيئـة بشرية
وفي علمـه عن حاضـريه مزية
بماهية المرئـي مـن غير مرية
يـرى ملكـاً يوحي إليـه وغيره
يرى رجـلاً يدعى لديـه بصحبة
ولـي من أتـم الـرؤيتين إشارة
تنـزه عـن رأي الحلول عقيدتي
وفي الذكر ذكر اللبس ليس بمنكر
ولم أعد عن حكمي كتاب وسنة [97] « لقد ضرب ابن الفارض مثلاً عن حقيقة مذهبه، وأنه ملائم لأحكام الكتاب والسنة مما يؤدي في النهاية إلى إظهار الفرق بينه وبين الحلول الذي ينافي هذه الأحكام، فشاعرنا يضرب المثل بظهور جبريل للنبي صلى الله عليه وآله في صورة دحية الكلبي، ويرى أنه ليس في ظهور جبريل بهذه الصورة حلول، ولكنه شيء آخر مستمد من القرآن والحديث اسمه " اللبس " ». [98]ويرفض ابن الفارض الحلول بجميع صورها ويقول :
ومن قائـل بالنسخ والمسخ واقـع
بـه أبـرأ وكـن عمـا يراه بعـزلة
ودعه ودعوى الفسخ والرسخ لائـق
به أبـدا لو صحّ في كـل دورة»
[99] الحقيقة المحمدية وموقف الشاعر منها:
الحقيقة المحمدية اصطلاحاً:
هي التعيّن الأول، الذي ظهرت منه النبوّة والرسالة والولاية، ونشأت عند جميع التعيّنات ولأجل ذلك كان نبيّنا محمد (ص) سيد الوجود، وأصل كل موجود وهو أول الأولين وخاتم النبييّن، المختصّ بالإسم الأعظم الذاتي الذي لا يكون إلّا له دون جميع الأنبياء، من حيث أنّه المرجع الأصلي، لجميع التعيّنات . [100]
كما يرى كاشاني : «هي الذات مع التعيّن الأول، فله الأسماء الحسنى كلها وهو الإسم الأعظم». [101] قد لعبت نظرية الحقيقة المحمدية والروح المحمدية دوراً كبيراً في التصوف، لاسيما في القرن السادس والسابع الهجري، وقد تكلّم عنها الكثيرون، منهم: ابن عربي ( 638 هـ) شهاب الدين السهروردي (563هـ) وابن السبعين وابن الفارض و .. الخ.
« أما الاعتقاد بأزلية الوجود المحمدي فقد ظهر في عصر مبكر، وقد أشير إليه في طائفة من الأحاديث مثل الحديث المشهور " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " أي قبل خلق جسد آدم وقد ذكر أتباع هذه النظرية أن أول شيء خلقه الله هو الروح المحمدية أو النور المحمدي الذي ظهر بصورة آدم ثم بصورة كل نبي بعده، حتى ظهر أخيراً في صورة النبي محمد نفسه أو أنه استمر يظهر بعد محمد في صورة عليّ وأهل بيته كما هو مذهب الشيعة. فالنور المحمدي عندهم هو الروح الالهية التي نفخ الله منه في آدم. والحقيقة المحمدية - لا الصورة المحمدية الجسدية- هي مبدأ الحياة و مركزها في العالم، فهي بهذا المعنى روح كلّ شيء وحياته، وهي من جهة أخرى الواسطة بين الله وعباده والمنبع الذي يفيض منه على العارفين معرفتهم بالله». [102]
وبهذا المعنى سمّوا محمداً " الانسان الكامل "، فإذا سألنا ماهو " الإنسان الكامل " أو مَن هو " الإنسان الكامل "، فليس في كتب الصوفية إجابة واحدة ويقول الجرجاني في تعريفاته عن الانسان الكامل: « الإنسان الكامل هو الجامع لجميع العوالم الالهيّة والكونيّة الكليّة والجزئيّة، وهو كتابٌ جامعٌ للكتب الإلهيّة والكونيّة. فمن حيث روحه وعقله، كتاب عقلي مسمىً بأمّ الكتاب. ومن حيث قلبه، كتاب اللوح المحفوظ. ومن حيث نفسه، كتاب المحو والإثبات، فهو الصحف المكرّمة المرفوعة المطهرة التي لا يَمُسّها ولا يدرك أسرارها إلّا المطهرون من الحجب الظلمانيّة. فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقائقه بعينها نسبة الروح الإنسانية إلى البدن وقواه ». [103]
« الإنسان الكامل هو محمد ( ص ). وهو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس، ويظهر في كنائس. فيسمّى به باعتبار لباس ولا يسمّى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد وكنيته أبو القاسم ووصفه عبدالله ولقبه شمس الدين. ثم له باعتبار ملابس أخرى أسام وله في كل زمانٍ اسمٌ ما يليقُ بلباسه في ذلك الزمان ». [104]
« أعلم أنّ مرتبة الإنسان الكامل من العالم مرتبة النفس الناطقة من الإنسان، فهو الكامل الذي لا أكمل منه، وهو محمد ( ص )، فهو الانسان الكامل الذي ساد العالم في الكمال : سيد الناس يوم القيامة، ومرتبة الكمل من الأناسي النازلين عن درجة هذا الكمال - الذي هو الغاية من العالم - منزلة القوى الروحانية من الانسان، وهم الأنبياء ( ص )، ومنزلة من نزل في الكمال عن درجة هؤلاء من العالم منزلة القوى الحسّيّة من الإنسان، وهم الورثة رضي الله عنهم ». [105] ولكن كيف يعبّر ابن الفارض عن هذه الحقيقة المحمدية أو " الإنسان الكامل " في أشعاره؟ الواقع أنه قد تحدّث عن الحقيقة المحمدية بلسان الجمع في التائية الكبرى ولم يصرّح بلفظ الحقيقة المحمدية صراحة. [106] ويقول :
« وقـد جـاءني مني رسولٌ، عليه ما
عَنتُّ، عزيزٌ بي، حريصٌ لرأفة
فحكمـي من نفسـي عليهـا قضـيته
ولـما تولّـت أمرهـا ما تولّت
ومن عهد عهدي، قبل عصر عناصري
إلـى دار بعثٍ، قبل إنذار بعثة
إلـيّ رسولاً كـنتُ منّـي مـرسـلاً
وذاتـي، بآياتي عليّ، استدَلّتِ » [107] « فهذا الرسول هو الروح الكّليّة التي أرسلتها الذات الأحدية الى النفس الكلية بآيات صفاتها وأسمائها وحقيقة النفس والروح وغيرها هي الذات النازلة إلى المراتب محتجبة بحجب التعيّنات، ووصف الرسول بالشفقة والحرص لأن الروح شفيقة على النفس حريصة بتربيتها لما بينها من التلازم والتعاشق الأزلي، وحكى بلسان الجمع عن هذا المقام فأخبر أنه رسول مرسل منه إليه، فالذات باعتبار التجرد والابتداء تكون مرسلاً، وباعتبار تلبسها بلباس النفس تكون مرسلاً إليها، فهي رسالة أزلية قبل الميثاق وقبل العناصر وتعلق الروح بالجسم ». [108] وأيضاً يقول :
« وأهلٌ تلقّى الروح باسمي، دعوا
إلى سبيلي، وحجّوا الملحدين بحجّتي
ولكلّهم، عن سبـق معنـاي، دائـرٌ
بـدائرتي، أو واردٌ من شريعتي
وإني، وإن كنت ابـن آدم، صـورةً
فلـي فيه معنىً شـاهدٌ بـأبوّتي
ونفسي على حجر التجلّي، برشـدها
تجلّت، وفي حجر التجلّـي تربّت
ولا تحسـبنّ الأمر عنّـي خارجـاً
فما ساد إلّا داخـلٌ في عبـودتي
ولولاي لم يوجد وجودٌ، ولـم يكـنْ
شهودٌ، ولم تعهـد عهـودٌ بذمّة » [109] في هذه الأبيات أشار ابن الفارض بلسان الجمع أي بلسان " الروح المحمدي "، إلی أنّ « جميع الأنبياء صادر عن روحي سابق عليهم، دائر في دائرة وجودي، و وارد لشيء من شريعتي. وذلك لأنّ جسومهم وأرواحهم من مجموع العالم، إنما صدر بالعقل الأول الذي هو الروح المحمدي ( ص ) بل عنه صدر لأنه عين الحق المنزل في أول المراتب الكونية المتعيّنة بأول التعينات الخلقية لا غير ». [110] وصرّح بأنّ الأنبياء طائفون بدائرة نبوة الروح الأعظم الذي هو ابن آدم من حيث الصورة وأبوه من حيث المعنى ويقول: « إنّ النبيين الذين أوضحوا الشرائع ومن تمسك بشرعهم من الأولياء قائمون على صراطي المستقيم لم يجاوزوا مواضع مشيتي، لأني برزت في كل منهم بوصف معين واسم خاص، فظهرت فيهم بجميع أوصافي وأسمائي فأنا الماشي على الصراط وهم يتبعون مواطئ سيري، وما صار أحد سيد القوم إلا من دخل في طاعتي وفي أتباعي، لأني قطب الوجود وأصل الشهود ومأخذ العهود ». [111]
الملاحظ هنا، إن منهج ابن الفارض لفكرة الحقيقة المحمدية، منهج ذوقي خالص يخضع فيه لسلطان الوجد وغلبة الحال بعيداً عن كل أثر للعقل وأدلته، ذلک العقل الذي اعتمدت عليه كل النظريات الفلسفية فيما وصلت إليه من نتائج. ومن هنا كانت مغايرة منهج الشاعر الصوفي للمنهج الفلسفي. [112]
النتيجة
توصلنا خلال هذه الدراسة إلی النتائج التالية التي نستخلصها فيما يلي:
الأول: كان شرف الدين عمر بن علي حموي المصري، ملقباً بابن الفارض و هو من مواليد سنة، ست وسبعين وخمسمائة ( 576 هـ ) بالقاهرة. وهومن أبرز شعراء الصوفي في مصروالعالم العربي و قد إختص شعره بالحب الإلهي، والحقيقة المحمدية، والوحدة الشهود.
الثاني: لانعرف لابن الفارض آثاراً أدبية أو صوفية غير ديوانه الذي جمعه سبطه "الشيخ علي"، سنة(733هـ). و من أهم القصائد التي قد وقعت في ديوان ابن الفارض، هي "التائية الکبری" و "الميمية الخمرية".
الثالث: عاش ابن الفارض في عصر شاعت فيه الأفكار الفلسفية وتعاليم الفرق الاسلامية، شيوعاً كبيراً وتضاربت الآراء حول " الحلول " و " الاتحاد " و " وحدة الوجود " فوجد الصوفيةأنفسهم أمام تراثٍ فكري ضخم من " الأنظار العقليّة " و " الأذواق الروحيّة " و " العقائد الدينيّة " وقد كان ابن الفارض واحداً من هؤلاء الصوفية فلا عجب أن استمد ابن الفارض من هذا التراث العقلي والروحي في مفرداته واصطلاحاته للتعبير عن مذهبه الخاص.
الرابع: کانت التائية الکبری ثمرة صادقة من ثمرات أذواقه و مواجيده، فهي ترجمة لحياته الروحية کتبها بنفس عن نفسه و وصف فيها سلوکه في طريق الحب الالهي
الخامس: إنّ القسم الأكبر من آراء ابن الفارض في الحب الإلهي، يصور ابن الفارض اطوار الحب الإلهية في التائية الکبری و اکتشف عجائب الحب وحقائق المعرفة فيها. و في الطور الأول، قد فنى المحب عن حظوظه وعلائقه وفي الطور الثاني، فنى عن ذاته وعن كل شيء ويريد ألا يكون شيئاً، وفي الطور الثالث أصبح فانياً عن نفسه باقياً بمحبوبه.
السادس: قد عاش ابن الفارض بين القرنين السادس والسابع للهجرة ويمتاز هذان القرنان بظهور صور كثيرة لمذهب الوحدة.المسألة التي يجدر بالذکر هي أن الوحدة عند ابن الفارض لم يکن اتحادياً بمعنى أن الاتحاد فيه عبارة عن وحدة الوجود بل كان واحدياً بمعنى أن اتحاد فيه مرادف للشهود الذي هو حضور الذات وانكشافها لعين السالك. ومن هنا يمكن القول بأنّ ابن الفارض كان في تصوفه أو في تواجده من القائلين " بوحدة الشهود " لا " وحدة الوجود " .
السابع: يعبّر ابن الفارض عن الحقيقة المحمدية أو " الإنسان الكامل " في أشعاره، فی الواقع أنه قد تحدّث عن الحقيقة المحمدية بلسان الجمع في التائية الكبرى ولم يصرّح بلفظ الحقيقة المحمدية صراحة. إن منهج ابن الفارض لفكرة الحقيقة المحمدية، منهج ذوقي خالص يخضع فيه لسلطان الوجد وغلبة الحال بعيداً عن كل أثر للعقل وأدلته.
Listen Read phonetically Dictionary - View detailed dictionary
المصادر والمراجع
- ابن تغرى بردى، جمال الدين أبي المحاسن يوسف : النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة،دارالکتب، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة،لاتا.
- ابن خلكان، أبي العباس بن أبي بكر: وفيات الأعيان، بيروت،1970م.
- ابن العماد، أبي الفلاح عبدالحي : شذرات الذهب في أخبار من ذهب، المکتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، لاتا.
- ابن الفارض، عمر بن علي : ديوان، تحقيق:د. درويش الجويدي، المکتبة العصرية، بيروت، 2008م.
- ابن كثير، اسماعيل بن عمر: البداية والنهاية، حققه مکتب تحقيق التراث، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1993م.
- ابن المنظور، جمال الدين محمد بن مكرم : لسان العرب، علق عليه ووضع فهارسه:علي شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولی،1988م.
- التهانوي، محمد علي : موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقديم وإشراف ومراجعة:د.رفيق العجم،المطبعة: توحيد، تهران، 1378 هـ.ش
- جامي، عبد الرحمن بن احمد : نفحات الأنس من حضرات القدس، تحقيق مهدي توحيدي پور،مطبعة: محمودي،طهران،1366 هـ.ش
- الجرجاني، ابو الحسن علي بن محمد : التعريفات، دار الکتب العلمية،بيروت، الطبعة الأولی،1983م.
- جودة نصر، عاطف : شعر عمر بن الفارض دراسة في فن الشعر الصوفي، دار الأندلس،بيروت، لاتا.
- حلمي، محمد مصطفى : ابن الفارض والحبّ الإلهي،دار المعارف، الطبعة الثانية، لاتا.
- حلمي، محمد مصطفى، الحب الإلهي في التصوف الإسلامي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، لاتا.
- الدحداح، رشيد بن غالب : شرح ديوان ابن الفارض، ديباجة الديوان، للشيخ علي سبط الشاعر، صححه: محمد عبد الکريم النمري، دار الکتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولی،2003م.
- درنيقة، محمد أحمد : معجم شعراء الحب الإلهي، دار ومکتبة : الهلال، بيروت، لبنان،2003م.
- صافي حسين، علي : الأدب الصوفي في مصر في القرن السابع الهجري، دار المعارف، القاهرة، 1971م.
- عبد الخالق، محمود : شعر ابن الفارض في ضوء النقد الأدبي الحديث، مکتبة الطليعة بأسيوط، القاهرة، 1980م.
- عجم، رفيق : موسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي، مکتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، الطبعة الأولی، 1999م.
- الغنيمي التفتازاني، أبوالوفا : مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة، القاهرة، 1979 م.
- القاشاني، عبدالرزاق: اصطلاحات الصوفية ويليه رشح الزلال في شرح الألفاظ بين أرباب الأذواق والأحول، المحقق: عاصم ابراهيم الکيالي، دارالکتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولی، 2005م.
- القيصري، داود بن محمود بن محمد : شرح القيصري على تائية ابن الفارض الكبرى، علق عليه: أحمد فريد المزيدي، دارالکتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولی، 2004م.
- الكاشاني، عبدالرزاق : كشف الوجوه الغرّ لمعاني نظم الدر، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، دارالکتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولی، 2005م.
- المقدسي، أنيس : أمراء الشعر العربي في العصر العباسي، من منشورات الدائرة العربية في جامعة بيروت، بيروت، الطبعة الثانية، 1936م.
- نجيب عطوي، علي: ابن الفارض شاعر الغزل والحب الإلهي، دارالکتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولی، 1994م.
- نيكلسون، آلن : في التصوّف الإسلامي وتاريخه، نقلها إلی العربية وعلق عليها أبوالعلا عفيفي، دار المعارف، الإسکندرية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1946م. 25-نيكلسون، آلن : الصوفية في الإسلام، ترجمه و علق عليه: نورالدين شريبة، مکتبة الخانجي، القاهرة، 1951م.
- همزة، عبداللطيف : الحركة الفكرية في مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي الأول، دار الفکر العربي، القاهرة، الطبعة الثامنة، 1968م.
ملاحظة
مستخرج من بحث لرسالة الماجستير
حواشي
[1] ابن خلکان،1970م، ج 3ص :454 ؛ابن کثير،1993م،ج13،ص:167
[2] ابن تغري بردي،لاتا،ج 6،ص:288
[3] ديباجة الديوان،2003،ص:3
[4] .ابن خلکان، ج 13،1970،ص:455
[5] ابن العماد،ج5،لاتا، ص:149
[6] حلمي،لاتا،صص:31و32
[7] ديباجة الديوان،ص:26 ،ابن خلکان،ج3،ص:455،ابن کثير،ج13،ص167،ابن تغري بردي،ج6،ص:288،ابن العماد،ج5،ص:153
[8] جامي،1366 هـ.ش،ص:539
[9] حلمي،لاتا،ص:34
[10] المصدر نفسه،ص:34
[11] ابن خلکان،ج3،ص:454،ابن کثير،ج13،ص:167،ابن تغري بردي،ج6،ص:288
[12] حلمي،لاتا،ص:36
[13] جامي،1366،هـ.ش،ص:539
[14] ديباجة الديوان،2003،ص:14
[15] المصدر نفسه،ص:12
[16] المصدر نفسه،ص:12
[17] ابن العماد،ج5،لاتا،ص:149
[18] حلمي،لاتا،صص:37و38
[19] المصدر نفسه،ص:42
[20] ديباجة الديوان، 2003م ص:12
[21] المصدر نفسه،ص:12
[22] المصدر نفسه،ص:13
[23] حلمي،لاتا،ص:48
[24] ديوان ابن الفارض،ص:225
[25] حلمي،لاتا،ص:49
[26] ديباجة الديوان،ص:13
[27] المصدر نفسه،ص:13
[28] ديوان ابن الفارض،ص:181
[29] حلمي،لاتا،ص:50
[30] ابن العماد،ج5،لاتا،ص150
[31] نيکلسون،1951م،ص:137
[32] حلمي،لاتا،ص:82
[33] المصدر نفسه،ص:84،83
[34] المقدسي،1936م،ص:381
[35] حلمي،لاتا،ص:84
[36] المصدر نفسه،ص:85و86
[37] ديوان ابن الفارض،ص:69
[38] الکاشاني،2005م،ص:25و26
[39] درنيقة،2003م،ص13
[40] ابن المنظور،1983م،ج3،ص:7-9
[41] العجم،1999م،ص:275
[42] المصدر نفسه،ص:275
[43] المصدر نفسه،ص:839
[44] المصدر نفسه،ص:841
[45] المصدر نفسه،ص:841
[46] المصدر نفسه،ص:843
[47] التهانوي،1378هـ.ش،ج1،ص:1484و1485
[48] الغنيمي التفتازاني،1979م،ص:27
[49] درنيقة،2003م،ص:34
[50] المصدر نفسه،ص:35
[51] حلمي،1986م،ص:14
[52] حلمي،لاتا،ص:142
[53] نجيب عطوي ،1994م،ص:57
[54] المصدر نفسه،ص:62
[55] حلمي،لاتا،صص:143و144
[56] صافي حسين،1971م،ص:227
[57] حلمي،لاتا،ص:149
[58] المصدر نفسه،ص:150
[59] المصدر نفسه،ص:150
[60] المصدر نفسه،ص:159،160
[61] المصدر نفسه،ص:151
[62] ديوان ابن الفارض،ص26
[63] حلمي،لاتا،ص:159
[64] المصدر نفسه،ص:159
[65] ديوان ابن الفارض،ص191
[66] حلمي،لاتا،ص:161
[67] حلمي،1986،ص:118،117
[68] حلمي،لاتا،ص:182
[69] المصدر نفسه،ص:182
[70] المصدر نفسه،ص:184
[71] ديوان ابن الفارض،ص74
[72] ديوان ابن الفارض،ص76
[73] حلمي،لاتا،ص:185
[74] العجم،1999م،ص:736-738
[75] حلمي،لاتا،ص:190
[76] ديوان ابن الفارض،ص129
[77] ديوان ابن الفارض،ص87
[78] القيصري،2004م،ص:53
[79] الجرجاني،1983،ص:89
[80] حلمي،لاتا،ص:195
[81] القاشاني،2005م،ص:212
[82] نيکلسون،1946م،صص:124،123
[83] ديوان ابن الفارض،ص99
[84] حلمي،لاتا،صص:218،217
[85] عبد اللطيف همزة،1968،ص:127
[86] عبد الخالق،1980م،ص:26
[87] المصدر نفسه،ص:27
[88] حلمي،لاتا،صص:283،282
[89] المصدر نفسه،ص:290
[90] المصدر نفسه،ص:329
[91] عبد الخالق،1980م،ص:28
[92] المصدر نفسه،ص: 29
[93] حلمي،لاتا،ص:322
[94] المصدر نفسه،ص290
[95] المصدر نفسه،ص350
[96] ديوان ابن الفارض،ص91،90
[97] ديوان ابن الفارض،ص97،98
[98] حلمي،لاتا،صص:315،314
[99] ديوان ابن الفارض،ص:145
[100] العجم،1999م،ص: 300
[101] القاشاني،2005م،ص:22
[102] نيکلسون،1946م،ص:150
[103] الجرجاني،1983،ص:21
[104] العجم،1999م،ص: 108
[105] المصدر نفسه،ص108
[106] حلمي،لاتا،ص:198
[107] ديوان ابن الفارض،ص:120
[108] جودة نصر،لاتا،صص:207،206
[109] ديوان ابن الفارض،ص:143،142
[110] القيصري،2004م،ص:166
[111] جودة نصر،لاتا،صص:208،207
[112] عبد الخالق،1980م،ص:40