الشياطين تخدع أحيانا
1
تخف حدة الألم اللعين …
أتحسس الضمادة ، أتأوه، أتخيل هذا الدوار المعربد في جمجمتي طبول قبيلة شيطانية .أحاول – جاهدا- استحضار ماحدث..
يسألني المريض الراقد على السرير المجاور مداعبا عن الأستاذ فيصل النوري الذي كنت أهذي باسمه أثناء غيبوبتي .
2
سوء طالع أن تجد نفسك ضمن تلاميذ ) الأولى ثمانية(، الشهير بقسم الشياطين ، أستغرب أن يجتمع كل الطلاب المشاغبين في فصل واحد .. عاد جدا ألا ننتبه للأساتذة أثناء شرح الدرس ، لكن ما كان يحدث في مادتي التاريخ والجغرافيا … كان غريبا .
3
بعد تاريخ اليوم والمادة، يكتب الأستاذ فيصل - بخطه الجميل المتناسق – جملة أثارت فضولنا .. نتصفح مقرراتنا المدرسية مندهشين : ما علاقة درس مادة الجغرافيا عن الاتحاد السوفياتي بمادة لا وجود لها في مقرر هذه السنة الدراسية ؟؟
يستوي محمود واقفا ، يرسم بأ صابعه حركة دائرية نفهم منها أن الأستاذ مختل عقليا نوعا ما .. يعلق أحدهم متهكما : الله ! يا حنيني الله ! سالت من بويا عمر !!
يغرق الأستاذ فيصل في شرح أحداث، وتواريخ حدود قديمة وجديدة لفلسطين كمن يردد تراتيل ، ولا أحد يعبأ به . يتعالى صوت أحد التلاميذ المخضرمين :
-يا أستاذ ارحمنا .. لقد حفظنا تاريخ بلدك ، كما نحفظ الأغاني الشبابية !
يتوجه عمروأنس صوب السبورة ، يقفان إلى جانب الأستاذ ، يسأل أحدهما الآخر :
- من قتل طارق بن زياد ؟
يجيبه في نبرة استعطاف :
- والله لست انا يا معلم !
يوجه عمر سؤالا إلى فريد ، زعيم المشاغبين الأشد وسامة ومرحا .. و كان يختار الجلوس في الصف المواجه لباب القسم ، قبالة تلميذات القسم الآخر ، يبدو في حالة هيام ، يرسم إشارة لإحدى الطالبات أن قلبه يبكي .. ينتبه أستاذهن ، فيصفق الباب … في ضيق.
يسأله أنس عن تضاريس الاتحاد السوفياتي ، فيرسم بيديه تضاريس جسد امرأة :
- هنا جبال ، هنا سهول ، وهنا منحدرات…
4
ثارت ثائرة الأستاذ فيصل حين قرأ على لوح السبورة بخط بارز كبير كلمة :
لاجئ .
في حضرته عنفنا مدير المؤسسة ، غادرنا الفصل مبتهجين
.. في الساحة انتظرنا حتى ينتهي لقاؤه الانفرادي بزعمائنا أو أئمتنا الأربعة كما نشاكسهم …
5
المدير :
’’أبنائي الأعزاء، لكم أن تشاغبوا كما شئتم !لكن أرجوكم .. لا نريد أزمات دبلوماسية مع أشقائنا الفلسطينيين . كلنا نعرف أنه يتهم الوطن العربي بالعمالة و….و… لكن لا أحد يهتم . وأستاذ الفلسفة الذي تضامن معه تم إيقافه .. وكتبت بعض الأقلام عنه أنه يكتب عن النضال- مقالات وقصائد - على طاولات الحانات …. ’’
6
هذا الوجه أعرفه ..
همست لنفسي ،حين لمحته وسط تلك القاذورات، أضع يدي على قلبي ..
تلك
ملامحه
التي
لا تعرف الابتسام ، ونظراته الغارقة في الشجن.. من يصدق أن ينتهي به الأمر مخبولا يطارد أعداء وهميين بالحجارة، بجلباب رث متسخ ، جسد واهن ، وشعر أغبر؟؟
لم أصدق أنه الأستاذ فيصل لولا ترديده في نرفزة ’’ :طيب خلص’’ كلازمة تعود أن يرددها. ينحني على حجر، ويخاطب شخصا لا مرئيا :
- لكن الحجارة جاءت من هذا الصف .. !!
7
تلك صارت لعبتنا الأثيرة لحرق أعصابه..
يرمي أحدنا حجرا صغيرا ممزقا سكون الفصل ، فيشرع في إجراء تحريات مضحكة عن مصدرها ، وكل زعيم يحكم الصف الجالس فيه اتقاء أية خيانة .
ويتفق الجميع على عدم رؤية الفاعل ..
يلوذ بالصمت ، يتجه إلى مكتبه ، ويشرع في كتابة تقارير لا تبالي بها الإدارة …
8
مازحته مداعبا :
- عباس من طوح بتلك الحجارة التي كادت أن تحطم النافذة !!
كماكان يردد أئمتنا الاربعة ،فنغرق في الضحك .. لأنه لا يوجد بيننا أي
تلميذ اسمه عباس .. التمع بريق غريب في عينيه، دون أن أدري
لمحت حجارة
تتجه
نحوي
ربما وقعت مغشيا علي
للتو
، وسط تلك القاذورات …
لم أعد
أتذكر
ما حدث بعدها ..
9
أجدني
محاطا بممرضات ، تقول
لي
إحداهن هاشة :
- أنت مثل القطط بسبعة أرواح .
أحس برغبة جارفة إلى البكاء .. بين يدي الأستاذ فيصل النوري .
و
أنا
أكتشف
–بعد فوات الآوان – أن الشياطين يمكن أن ……..
الجديدة – 18 – 02-2007