الدكتور جيلالي بوبكر
الحاجة إلى التغيير جوهر الإصلاح والتجديد لدى إقبال
ترتبط فكرة الإصلاح والتجديد عند "محمد إقبال" برؤية فلسفية واضحة ونسق فكري متكامل الأجزاء، فهو يطرح مسألة التجديد والتغيير ويعالجها لا في ميدان معيّن من ميادين البحث بل في جميع مجالات التفلسف وفي بحث جميع المشكلات مثل مشكلة المعرفة والرياضة الروحية وقضية الله والوجود والنفس والإنسان وغيرها من المشكلات العملية والفلسفية، فمحاولته جاءت لملء الفراغ بين التفكير النظري والعقيدة الدينية، كما تؤكد على ضرورة تجديد التفكير الديني من خلال ضمان التوافق والإنسجام بين التراث الفلسفي والفكر النظري الغربي والعقيدة الإسلامية، لا من أجل إقامة الحجة على قوّة الفكر الغربي وسلامته ونجاحه بل لما فيه من انسجام وتطابق مع الرؤية القرآنية للكون من جهة ولاكتشاف القيّم الذاتية للإسلام التي من شأنها أن تجعل الفكر الإسلامي يتحدد ويتطور بما يخدم الإنسان في حياته المادية والروحية من خلال استفادته من الجديد في الحضارة الغربية الحديثة.
انتبه "محمد إقبال" في نهجه الإصلاحي إلى أمرين مهمّين: أما الأول فهو ظروف المسلم المعاصر التي تتميز بالركود الفكري والانحطاط الاجتماعي والضعف والتخلف في وقت يملك فيه المسلمون عقيدة التوحيد وشريعة سمحى. كل من العقيدة والشريعة في الإسلام جعلت المسلمين الأوائل أصحاب حضارة ورقي وازدهار. أما الأمر الثاني فهو كون الأوربي المعاصر شيّد حضارة راقية منتجاتها المادية الجديدة والبرّاقة وهي تغزوا العالم الإسلامي حاملة فكر في أسسه ومقوّماته مع مقومات وأسس الإسلام. فالغالب هو أوربا وما أنتجته من حضارة وفكر وعلم والمغلوب هو المسلم المعاصر وما يحمله من فكر وضعف وانحطاط. وحسب "ابن خلدون": المغلوب دوما مولع بتقليد الغالب حتى في نمط اللّباس والجلوس وغيرها من المظاهر، هذه الوضعية هي التي أنتجت فكرة الإصلاح عند "محمد إقبال" الذي يصف الوضع الذي آل إليه المسلم المعاصر وآلت إليه أحواله بقولـه: »إن المسلم القويّ الذي أنشأته الصحراء وأحكمته رياحها الهوجاء أضعفته رياح "العجم" فصار فيها كالناي نحولا ونواحا!! وإن الذي كان يذبح اللّيث كالشاة تهاب وطئ النملة رجلاه!! والذي كان تكبيره يذيب الأحجار انقلب وجلا من صغير الأطيار!! والذي هزأ عزمه بشم الجبال، غل يديه ورجليه بأوهام "الاكتئاب" والذي كان ضربه في رقاب الأعداء، صار يضرب صدره في اللأواء!! والذي نقشت قدمه على الأرض ثورة، كسرت رجلاه عكوفا في الخلوة!! والذي كان يمضي على الدهر حكمه، ويقف الملوك على بابه، رضي من السعي بالقنوع، ولذّ له الاستجداء والخشوع«.70
هو الوضع الذي دفع الفيلسوف "محمد إقبال" إلى التفكير في إصلاح بنية الفكر الإسلامي وتعديلها وتجديدها بمنهج يقوم على النقد وإعادة البناء في ظروف صارت السيادة فيها للحضارة الغربية وما أنجبته هذه الحضارة من فكر وضعي وعلم تجريبي ومنتجات مادية برّاقة دخلت كلها العالم الإسلامي وإستهوت عقول ونفوس العديد من المسلمين وأثّرت الحضارة الغربية ومنتجاتها الفكرية والمادية في شخصية وفكر "محمد إقبال"، بحيث يقول في ذلك "ولفردك سميث":»أن ثلاثة أشياء تركت أثرا عظيما في نفسه بالنسبة إلى أوروبا، الحيوية والنشاط في الحياة الأوروبية، فالإمكانيات الضخمة المتوافرة، ثم الأثر الإنساني الذي تركه المجتمع الرأسمالي في نفس الإنسان الأوروبي«.71 وكان الأثر اللاّإنساني الذي أفرزته الرأسمالية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تأثيره الكبير على الفيلسوف "محمد إقبال" ويقول في ذلك "الأستاذ ماجد فخري":»وقد قوّى الإعتبار الأخير إيمانه بتفوق الإسلام كمثال خلقي وروحي، فوقف حياته على الدفاع عن هذا المثال وعلى تطويره، وكانت المحاضرات الست التي ألقاها في "مدراس" "سنة 1928-"1929. إسهامه الكبير في مهمة إيقاظ أبناء دينه في الهند وإعادة النظر في الإسلام بمفاهيم معاصرة وحيّة، مستمدة بالدرجة الأولى من حصيلة الفكر الأوروبي في القرن التاسع وأوائل القرن العشرين«.72
أمام الوضع المتردي الذي آل إليه المسلم المعاصر وأمام حضارة أوروبا التي فقدت وحدتها وتماسكها يرى الفيلسوف "محمد إقبال" أن التجديد أصبح أكثر من ضرورة على الرغم ما يحتويه الفكر الإسلامي من سعة وعمق وترسُخ في العالم الإسلامي، ينبغي على هذا العالم »أن يُقدم في شجاعة على إتمام التجديد الذي ينتظره، على أن لهذا التجديد ناحية أعظم شأنا من مجرد الملائمة مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها، فإن "الحرب العالمية الكبرى الأولى" بما خلّفته نهضة تركيا، التي وصفها حديثا كاتب فرنسي بأنها عنصر الاستقرار في عالم الإسلام، والتجربة الاقتصادية الجديدة التي تُجرّب على مقربة من آسيا الإسلامية يجب أن تفتح أعيننا على ما ينطوي عليه الإسلام من معنى وعلى مصيره، إنّ الإنسانية تحتاج اليوم إلى ثلاثة أمور: تأويل الكون تأويلاً روحياً، وتحرير روح الفرد ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي«.73
إذا كان الإسلام يتمتع بمثالية لا ترفض الواقعية بل تطلبها وتعيش معها، فإن أوروبا في العصر الحديث قد عرفت نظما فكرية وفلسفية مثالية، »لكن التجربة بيّنت أن الحقيقة التي يكشفها العقل المحض لا قدرة لها على إشعال جذوة الإيمان القوي الصادق، تلك الجذوة التي يستطيع الدين وحده أن يُشعلها، وهذا هو السبب في أن التفكير المجرد لم يؤثر في الناس إلا قليلا في حين أن الدين استطاع دائما أن ينهض بالأفراد ويبدل الجماعات بقضها وقضيضها وينقلهم من حال إلى حال«.74
ينتقد الفيلسوف "محمد إقبال" مثالية وعقلانية أروبا في قوله:»إن مثالية أوروبا لم تكن أبدا من العوامل الحيّة المؤثرة في وجودها، ولهذا أنتجت ذاتا ضالة أخذت تبحث عن نفسها بين ديموقراطيات لا تعرف التسامح وكل همّها استغلال الفقير لصالح الغني، وصدقوني أن أوروبا اليوم هي أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسان«.75 فإذا كان هذا حال مثالية أوروبا والتي لم تنتج سوى الفساد والإستغلال والظلال فإن المسلم »له هذه الأراء النهائية القائمة على أساس من تنزيل يتحدث إلى الناس من أعماق الحياة والوجود، وما تعني به هذه الأراء من أمور خارجية في الظاهر يترك أثره في أعماق النفوس، والأساس الروحي عند المسلم هو يستطيع أقلّها استنارة أن يسترخص الحياة في سبيله وبما أن القاعدة الأساسية تقول إنّ محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه ينبغي أن تكون من أكثر شعوب الأرض في الحرية الروحانية والرعيل الأول من المسلمين الذين تخلّصوا من الرّق الروحي في آسيا الجاهلية لم يكونوا، بحيث يستطيعون إدراك المعنى الصحيح لهذه القاعدة الأساسية، فعلى المسلم اليوم أن يُقدّر موقفه، وأن يُعيد بناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ النهائية وأن يستنبط من أهداف الإسلام التي لم تتكشف بعد إلا تكشفا جزئيا، تلك الديموقراطية الروحية التي هي منتهى غاية الإسلام ومقصده«.76
أمام مثالية أوروبا الضالّة واعتدال الإسلام الجامع بين الواقعية والمثالية والمحافظة على التوازن الإنساني الروحي المادي: وأمام النهضة الأوروبية الحديثة وتطور العلم التجريبي وسيطرة الفلسفة الوضعية وطغيان النزعة المادية فالإنسانية في نظر :محمد إقبال" »تحتاج اليوم إلى ثلاث أمور: تأويل الكون تأويلاً روحيا، وتحرير روح الفرد، ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي«.77 ذلك ما كان يهدف إليه الفيلسوف "محمد إقبال" من وراء خطته في الإصلاح والتجديد بصفة خاصة ومن وراء فلسفته بصفة عامة لمواجهة أزمة العالم الإسلامي المعاصر ومحنة الإنسانية المعاصرة، »فلا أسلوب التصوف في العصور الوسطى، ولا القومية، ولا الاشتراكية بقادرة على أن تُشفي علل الإنسانية البائسة ولا ريب في أن اللّحظة الحاضرة تمثل أزمة خطيرة في تاريخ الثقافة العصرية، وقد أصبح العالم اليوم مفتقرا إلى تجديد بسيكولوجي، والدين الذي هو أسمى مظاهره ليس عقيدة فحسب أو شعيرة من الشعائر، هو وحده القادر على إعداد الإنسان العصري إعدادا خلقيا يؤهله لتحمل التبعية العظمى التي لا بد من أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث وأن يرد إليه تلك النزعة من الإيمان التي تجعله قادرا على الفوز بشخصيته في الحياة الدنيا، والاحتفاظ بهما في دار البقاء، إن السمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ولمستقبله من أين جاء وإلى أين المصير، هو وحده الذي يكفل له آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية بما انطوت عليه من صراع بين القيّم الدينية والقيّم السياسية، والدين كما بيّنت من قبل من حيث هو سعي المرء سعيا مقصودا للوصول إلى الغاية النهائية للقيّم، فيمكنه بذلك أن يعيد تفسير قوى شخصيته هو حقيقة لا يمكن إنكارها«.78
إنّ نظرية "محمد إقبال" في الإصلاح والتجديد تقوم أساسا على عمليتين أساسيتين في الأسلوب الإصلاحي التجديدي وهما عملية الهدم وعملية إعادة البناء، أما عملية الهدم فتقوم على النقد، نقد الوضع العام للإنسانية وللعالم الإسلامي ونقد الوضع الفكري القديم والحديث الذي شهدته الإنسانية بصفة عامة والعالم الإسلامي بصفة خاصة، وأما عملية إعادة البناء فتقوم على دفع المسلم إلى إدراك ذاته ومحيطه ورسالته في التاريخ، وفهم العالم ومعرفة الله، وأن يتحرك في التاريخ فيغير حياته وفق ما تمليه التطورات والمستجدات في عصره، وعلى أسس روحية تكفل له توازن الحياة والإعتدال في السلوك.
ما دام التغيير أو التجديد أمراً ضرورياً ولا بد منه، فيكون هذا التغيير ويكون هذا التجديد في فهم الإنسان لوجوده الإنساني ولذاته وللعالم وللذات المطلقة وللإسلام وللعلاقة بين هذه الأمور ككل، لذا ينصب بحثنا بعد هذه المقدمة على فلسفة الإصلاح والتجديد عند "محمد إقبال" حول الإنسان والتاريخ وحول الذات الإنسانية وبنائها، وحول قصة الخلق وحول الوجود وتغيّره وحول المنهج الإسلامي وكماله ودوره.













70– محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث، ص425.نقلا عن الدكتور عبد الوهاب عزام محمد، إقبال سيره وفلسفته وشعره ص1000 (من منظومته (أسرار خودي).

71– نقلا عن ماجد فخري: تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص478.

72– ماجد فخري: تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص478.

73– محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص206.208.

74– المرجع نفسه: ص207.

75– محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص207.

76– المرجع السابق: ص207 208.

77– المرجع السابق: ص 207-208.

78– المرجع السابق: ص217.