ألا يستطيع العرب شراء القدس العربية؟..
/ الياس سحاب
يبدو أننا وقعنا منذ عقود طويلة، وما زلنا نقع حتى اليوم، في سلسلة من الفخاخ المواكبة للمشروع الصهيوني ـ الاستعماري الهادف الى الاستيلاء على فلسطين التاريخية، ومحوها من الجغرافيا والتاريخ، على حد سواء، عبر أكثر من أسلوب، من الأساليب المألوفة والمتبعة في التاريخ الطويل والدموي للاستعمار الأوروبي في القرون السابقة.
من أشد هذه الفخاخ خبثا، فخ اختراع أسماء جغرافية جديدة تحل بالتدريج محل الأسماء التاريخية الراسخة، على طريقة تعبير «الشرق الأوسط»، الذي حل في الثقافة العربية المعاصرة محل عبارة «الوطن العربي» أو «المنطقة العربية» أو «العالم العربي».
من هذه الألاعيب الاستعمارية الناجحة على المدى الطويل (للأسف الشديد) التي التقطها الشاعر والكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي، اختراع تعبير «الضفة الغربية»، والترويج له ليساهم بالتدرج في المساعدة الحثيثة والخبيثة على إلغاء اسم فلسطين، حتى في الأدبيات العربية، واللغة السياسية العربية. يقول مريد البرغوثي، عن حق، إنك عندما تطلق على غرب فلسطين ومناطقها الساحلية المحاذية للبحر الأبيض المتوسط اسم «اسرائيل»، ثم تطلق على القسم الشرقي الداخلي من فلسطين، اسما جديدا غير شائع قبل ولادة دولة إسرائيل، اسم الضفة الغربية، فقد ألغيت عمليا اسم فلسطين التاريخي، ووزعته بين غرب اسمه «اسرائيل»، وشرق اسمه «الضفة الغربية».
من هذه الفخاخ التي وقعنا فيها أيضا فخ تسمية القسم القديم من القدس، بالقدس العربية، في اعتراف غير مباشر بأن الأحياء الجديدة من القدس التي بنيت في النصف الاول من القرن العشرين، ليست عربية، أي يهودية بالاستنتاج المنطقي.
يقودنا ذلك الى الحقيـقة الــثابتة والمدعــمة بكل أنواع الوثائق العربية والبــريطانية، ان اليهود لم يكونوا يملكون أكثر من ستة بالمئة من أرض فلسطين، عندما منحهم قرار التقسيم 56 بالمئة من مساحتها الإجمالية، وعندما استولوا بالعدوان العسكري على ما يزيد عن 75 بالمئة من هذه المساحة في حرب 1948، وقبل أن يستكملوا احتلال كامل مساحة فلسطين التاريخية في حرب 1967.
ولكن لنعد بالتخصيص الى موضوع القدس. التي كانت عربية بكاملها حتى ما قبل 1948، بشرقها وغربها، بأحيائها القديمة والجديدة، بدليل أنه برغم الهجرة اليهوديـة المكثفة التي كانت تتعمد الإقامة في القدس، في ظل العقود الثلاثة للانتداب البريطاني، فإن يهود القدس لم يكونوا في العام 1948 يتجاوزون ربــع السكان، أما العرب فكانوا يشكلون ثلاثة أرباع سكان القدس، القديمة والجديدة، الشرقية والغربية، وهذه التسمية الأخيرة لم تصبح ســارية المفـعول إلا بعد العام 1948، بفعل التضافر بين قرار التقسيم من جهة، والاحتلال العسكري من جهة ثانية.
ومن أشهر ما حدث في مجال التزوير التاريخي المتدرج للقدس العربية الموحدة تاريخيا، انه عندما قدمت الدولة الإسرائيلية أرضا في «القدس الغربية» للدولة الأميركية، حتى تشجعها على أن تقيم عليها مباني سفارتها في القدس، تقدم المفكر الفلسطيني المقيم في الولايات المتحدة وليد الخالدي من الدوائر الأميركية المتخصصة بكل الوثائق التي تثبت أن هذه الارض، التي تقع في ما أصبح يسمى «القدس الغربية»، إنما هي ملك أسرة الخالدي المقدسية العريقة.
تجدر الإشارة هنا الى أن القدس، كانت هدفا ثمينا ومفضلا لاستملاك الأراضي في المخطط الصهيوني منذ بدايات القرن العشرين. حتى أن أثرياء اليهود المنتشرين في جميع أرجاء العالم، من أمثال روتشيلد ومونتفيوري وسواهم، كانوا يخصصون أموالا طائلة، إما لشراء المستوطنات الزراعية، التي تسمح بتجميع المقاتلين من المهاجرين اليهود في مواقع مناسبة، أو لشراء مساحات شاسعة من أراضي القدس، لجهة إحيائها الجديدة، بعيدا عن الأحياء القديمة، المكتظة بالسكان العرب.
ولقد اتخذ هذا النمط من الاحتلال الاستيطاني لمنطقة القدس بالذات وتيرة أسرع بعد وقوع القدس بكاملها تحت نير الاحتلال الصهيوني على اثر حرب 1967، لشراء ما بقي من المواقع الجغرافية التي تسمح باستكمال عملية التهويد الكامل للقدس، تمهيدا لتحويلها بالفعل (لا بالقول فقط) عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل.
السؤال الملح هنا: ماذا فعل العرب للقدس في مقابل الفعل الاسرائيلي؟
قبل عام على رحيل جمال عبد الناصر، عندما قام اسرائيلي بإحراق منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى في القدس، صدر الأمر اليومي للقوات المسلحة المصرية، بتوقيع القائد الأعلى جمال عبد الناصر، واضعا مسؤولية القدس وأماكنها المقدسة على عاتق القوات المسلحة المصرية.
لكن الأمور بعد ذلك اتخذت اتجاها معاكسا في الجانب العربي، بينما ظلت الاستراتيجية الصهيونية ـ الاستعمارية (وما زالت) ثابتة على حالها، تكمل مشوارها لابتلاع الأرض، وفي المقدمة القدس.
طبعا، شكل العرب منذ عقود طويلة لجنة القدس، على أعلى المستويات، لكن لا هذه اللجنة، ولا أي جهة عربية أخرى فعلت شيئا للقدس، التي وصل الحال بسكانها المتناقصين من العرب في العام 2009، الى الطرد من بيوتهم القليلة الباقية، بيتا بيتا، في استكمال لأواخر مراحل التهويد الكامل.
سياسيا، ما زال العرب ينتظرون الفتات الذي يمكن أن تلقي به أميركا، رئيسا بعد رئيس، لكن حتى لو تركنا السياسيين يصرون على مواصلة تجاربهم الفاشلة منذ أربعة عقود، فإننا نتساءل: ألا يخطر ببال الأثرياء العرب، الذين يهتم بعضهم في هذه الأيام بشراء أندية كرة القدم الانكليزية، واحدا بعد الآخر، بمليارات الدولارات، أن يخصصوا قسما من هذه المليارات العربية للقدس، كما فعل أثرياء اليهود منذ بدايات القرن المنصرم وما زالوا يفعلون، للحفاظ على أرض القدس العربية على الأقل،