الإنسانية؟
كذبة نسجت حولها أباطيل لتمسخ العقيدة وتحل العرى الوثيقة وتحول البشر إلى حيوانات لا كرامة لها ولا دين. إنما احترم الإسلام الإنسانية دون أن يسميها، ورفع شعار الحقوق عاليا في قول المولى عز وجل: "ولقد كرمنا بني آدم"... ورفع شعار حق الحياة في قوله تعالى: "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق"... ورفع شعار حقوق المرأة واحترام كيانها في قوله: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء". وفي قوله: "ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن". ورفع شعار حقوق الطفل بقوله: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق". وقوله: "وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت". فأين يذهب عالمنا المجنون اليوم تاركا وراءه الأصل معتنقا نظريات صدرت معظمها عن أدمغة غمرتها أودية الخمور، وغطاها إدمان المخذرات حين اعتقدت واهمة أنها تنظّر لحضارة الإنسان ورفاهيته؟ وإن عدنا إلى التاريخ، وجدنا أن كل النظريات التي تمخضت عنها البحوث في العلوم الإنسانية ما كانت سوى مسلكا انجرف فيه العقل البشري وراء وهم جديد مرت دهشته ولحظة الانبهار به كالبرق الخاطف ثم أعقبه ظلام دامس حول لغز أعقد وأشد غموضا مما كان عليه في السابق. وهكذا باءت كل محاولات إسعاد البشر بالفشل الذريع ما لم تكن تلك المحاولات لإثراء الجانب الروحي وإغناء جانب القيم والأخلاق الحميدة بالتجارب المفيدة التي تعزز الصدق والإخلاص والإقدام والجد والإيمان بالمسؤولية... وبقراءة الأدب الأوربي نستشف صور المأساة البشرية التي شكلتها المفاهيم المصنوعة لعرقلة الحرية ونفي خاصية التوبة عن الإنسان. تلك الخاصية التي يشيد بها دين الرحمة والسلام... ونعرف من النصوص المكتوبة في العصر الحديث أن ظهور موجة الإلحاد دفع بالإنسان لسوداوية الفكر وإلى اليأس والانتحار حتى بين أحرص الناس على حياة.
وما أن بدأت الحضارة المادية تجتاح الدنيا حتى انساق وراء بريقها الزائف كل ضعاف النفوس فاستحوذت على العقول وأعمت العيون والبصائر وعكرت صفو الأرواح وعفنت الضمائر. فاعتبر الكذب والنفاق شطارة، وبان الصدق كعربون للغباء والسذاجة، وسميت القناعة ضعفا، والتضحية في سبيل الحرية إرهابا، والشجاعة أضحت مرادفة للتهور، واتهم التدين بالتخلف، واعتبر التفسخ والانحلال الخلقي علامة للتحضر... وانقلبت المفاهيم رأسا على عقب في عالمنا المجنون؛ حيث لقب أعتى دموي في التاريخ بــ"رجل السلام"، وبيعت المقدسات بالكراسي، وزخارف القصور، واستؤجرت الأقلام لطمس الحقائق، وحيكت الدسائس للفتنة بين الإخوة، ووقف الشر على قمة جبل النار يرمي بشررها سهول الخير والحب والسلام، ليهلك فيها الحرث والنسل. ونُصّب إبليس على مجلس القضاء في العالم، وغدت له الكلمة الفصل بين من آمنوا به وقبلوه حكما بين الأمم، وغدا الحكام حلفاء لألد أعداء الحرية، وغدونا متخلفين لما يعتلج في صدورنا من غيظ على ما فقدناه من قيم؛ متخلفين لأننا رفضنا التحول إلى آلات مسخرة تحركها خيوط بيد الأبالسة وعبد الطاغوت من دعاة الإنسانية. فليستقص أولائك المتحضرون الرأي العام في المجتمع الغربي عما يحسه الآباء ويكابدونه من ألم وهم يرون أبناءهم يتحولون إلى حيوانات بمجرد بلوغهم سن الرشد الذي حددته القوانين الخرقاء؛ إذ يغرقون في وحل الخطايا دون سبيل للرجعة، ويقطعون الرحم، ويمشون وراء شهواتهم دون رادع، ويصمون الآذان في وجه كل ناصح أو مرشد؛ تتقاذفهم أمواج المخذرات من أفكار العبث والقنوط. فلا يقبلون نقاشا أبدا في دين ولا في سياسة باعتبار هذين الحقلين من اختصاص من يقودونهم للهلاك! وهكذا يعيشون المأساة باستسلام كأنهم قطعان يسير بها صوت الرعاة على حد ما عبر به جبران... أين الإنسانية في حرب الشر المستطير بضراوة الأسلحة الفتاكة وهي تغلف الجبن والنذالة، ضد الخير والبراءة في عيون الأطفال والنساء والعزل؟