لماذا نطالب بحل دائرة المخبرات العامة؟!
وكيف نتصور الأمن في الأردن بدون هذه الدائرة؟!
أسامة عكنان
عمان - الأردن
في كل دول العالم، يتم إنشاء الدوائر والمؤسسات الحكومية، أو حلها أو دمجها في غيرها، بالاستناد إلى عناصر موضوعية تعكس احتياجات الدولة والمجتمع في ضوء طبيعة الوضعين الداخلي والخارجي، وفق الإستراتيجيات التي تقوم عليها سياسة هذه الدولة، لتقديم الخدمة للمواطنين بشكل مباشر، أو لتقديمها لهم بشكل غير مباشر، عبر تقديمها للدولة ككل من خلال حكومتها..
وما ينطبق في ضوء هذا المعنى على "دائرة الأحوال المدنية"، و"مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام"، و"دائرة الأراضي"، و"دائرة ضريبة الدخل"، و"مؤسسة التدريب المهني"، و"مؤسسة الضمان الاجتماعي"، و"هيئة المرئي والمسموع"، و"مديرية المطبوعات والنشر"، و"دائرة المكتبة الوطنية".. إلخ، ينطبق على كل المؤسسات الوطنية الأخرى، ومنها المؤسسات الأمنية، وعلى رأسها "دائرة المخابرات العامة"، ولا فرق..
وإذن فلندخل مباشرة إلى الموضوع الأمني..
إن هناك وجهين لحماية الأمن الذي هو "أمن الدولة" و"أمن المواطن"، هما..
1 - حماية الأمن من التهديدات الداخلية..
وهي التهديدات التي تتأتى من داخل حدود الدولة، والتي يسببها مواطنون في المجتمع، سواء بشكل فردي أو بشكل جماعي..
2 - حماية الأمن من التهديدات الخارجية..
وهي التهديدات التي تتأتى من خارج حدود الدولة، والتي يسببها أجانب معادون للدولة، سواء بشكل فردي أو بشكل جماعي..
أما أنواع التهديدات التي تتطلب مؤسسات وإجراءات أمنية تحمي الدولة والمواطن منها، بصرف النظر عن كونها داخلية أو خارجية، فهي..
1 – تهديدات تمس حياة المواطن "الفرد" أو المواطنين "المجموعة"، من حيث السلامة الجسدية أو سلامة المال والممتلكات.. وتتولى حماية الأمن من التهديدات المتأتية من هذه الجوانب، مؤسساتٌ أمنية ذات طبيعة جنائية، هي جزء من جهاز "الأمن العام" التابع في العادة لوزارة الداخلية، من مثل "جهاز الأمن الوقائي"، "جهاز الأمن الجنائي"، "جهاز مكافحة المخدرات".. إلخ..
2 – تهديدات تمس أمن الدولة ككل، من حيث المساس باستقرارها الداخلي بأعمال تندرج تحت توصيف "الإرهاب" أو "الجريمة المنظمة".. وتتولى حماية الأمن من التهديدات المتأتية من هذه الجوانب، مؤسسات أمنية ذات طبيعة جنائية.. لأن أعمال الإرهاب والجريمة المنظمة هي في نهاية الأمر أعمال جنائية وإن اختلفت طبيعتها..
وإذن فالتهديدات المصنفة في في البندين السابقين "1" و"2"، هي تهديدات ذات طبيعة جنائية، يجب أن تتولى حماية الدولة والمواطن منها مؤسسات أمنية لا تخرج طبيعتها عن التوصيفات الجنائية..
فمؤسسة أمنية مثل "سكوتلانديارد" في بريطانيا، تتولى حماية الدولة والمجتمع البريطانيين من كافة هذه التهديدات، ومثل ذلك يفعل "مكتب التحقيقات الفدرالي" في الولايات المتحدة.. ومثلهما تفعل كافة المؤسسات الأمنية الجنائية في الدول المدنية الديمقراطية.. وهو ما يفترض أن يقوم به "جهاز الأمن العام" في دولة مثل الأردن.. دونما حاجة إلى أي مؤسسة أمنية أخرى مستقلة وقائمة بذاتها..
3 – تهديدات تمس أمن الدولة ككل، من حيث المساس بسلامتها الإقليمية، عبر الاعتداء المسلح على حدودها، وهي أعمال تندرج تحت توصيف "الغزو الخارجي".. وتتولى حماية الأمن من التهديدات المتأتية من هذا الجانب، مؤسسة وحيدة هي "الجيش" بمختلف تشكيلاته المسلحة..
4 - يرتبط بهذا النوع من التهديدات، ذلك المتأتي عبر بوابة "التجسس" و"الاختراق الأمني الخارجي" الذي يقوم به العدو الخارجي، لرفد اعتداءاته المسلحة، أو لتقليص القدرة الدفاعية لدى الجيش المدافع عن السلامة الإقليمية للدولة.. وهو البند التهديدي الذي تتصدى للحماية منه، مؤسسات تعرف عادة بـمؤسسات "مكافحة التجسس"..
وفي غالبية الدول تكون هذه المؤسسات إما مستقلة وقائمة بذاتها ومتخصصة في هذا البند الحمائي، وفي قلة منها تكون تابعة للقوات المسلحة التي تعتبر أن هذا النشاط الإستخباري جزءاً لا يتجزأ من مهام الاستطلاع والمعلومات في القوات المسلحة..
ففي دولة مثل مصر عرف هذا الجهاز باسم "المخابرات الحربية"..
وتقوم به إسرائيل عبر كلٍّ من مؤسستي "الشين بيت" للمتابعات الداخلية، و"الموساد للمتابعات الخارجية"..
أما في الولايات المتحدة مثلا، فإن وكالة المخابرات المركزية "سي. آي. إي" هي التي تتولى كافة هذه المهام الحمائية..
وفي روسيا الاتحادية ما تزال الـ "كي. غي. بي" هي المؤسسة التي تتولى هذه الأمور..
وإننا كي نحدد ما الذي يجب أن يكون عليه وضع ومصير مؤسسة أمنية مثل "دائرة المخابرات العامة" في الأردن عندما يصبح دولة مدنية ديمقراطية، يجب أن نقوم بتحليل وافٍ للمتطلبات الأمنية للدولة الأردنية، ولظروف نشأة المخابرات العامة، وللدور الذي لعبته عبر تاريخها الطويل، وهل يتناسب هذا الدور مع شروط وظروف نشأتها ومع متطلبات الأردن الأمنية، أم لا.. بالإضافة إلى توضيح ما الذي يمكن لجهاز توسع وتضخم لأسباب أمنية محددة، أن ينجزه بشكله المتضخم ذاك في دولة ستنتفي فيها حتما كل الظروف الأمنية التي أدت إلى توسع ذلك الجهاز..
ما هي المتطلبات الأمنية للدولة الأردنية؟!
إن الأردن شأنه في ذلك شأن كافة دول العالم، سيحتاج دائما إلى مؤسسات أمنية تؤمِّن الحماية للدولة وللمواطنين من التهديدات الأربعة سالفة الذكر.. فأما الحماية من التهديدات الثلاثة الأولى فقد تمَّت وفسوف تتم عبر كلٍّ من مختلف أجهزة "الأمن العام" التي تضم كافة الفروع المتخصصة كلٌّ في مجاله، والجيش عبر كافة تشكيلاته المسلحة الحالية، أو تلك التي يمكن إنشاؤها في المستقبل في ضوء متطلبات الدفاع الوطني.. وهي حماية لن تحتاج إلى أي مؤسسة أمنية أو دفاعية غير "الأمن العام" و"الجيش".. أي أننا حتى الآن لم نكن ولن نكون بحاجة إطلاقا لمؤسسة عملاقة ومتضخمة لتأمين حماية الدولة والشعب من تلك الأنواع من التهديدات، مثل "دائرة المخابرات العامة"، التي سنكتشف في سياق هذا التحليل أنها ما نشأت ولا تأسست أصلا لذلك، حتى يقال بأن ضرورتها تستند إليه..
ظروف وملابسات نشأة المخابرات العامة قانونيا وسياسيا..
دعونا نتوقف عند التهديدات التي أشار إليها البند الرابع، والتي تندرج تحت عنوان "التجسس والاختراق الأمني الخارجي"، لنتعرف على الدور الذي اضطلعت به دائرة المخابرات العامة أو ذلك الذي يمكنها أن تضطلع به في دولة أردنية مدنية ديمقراطية.. ونبدأ حديثنا في هذا الأمر بالعروج قليلا على نشأة وتأسيس جهاز المخابرات العامة..
تأسست دائرة المخابرات العامة استنادا إلى "قانون المخابرات العامة لعام 1964"، وقد تم النص في بعض مواد هذا القانون على ما يلي..
المادة "3"
تتألف دائرة المخابرات العامة من:
أ- دائرة المباحث العامة.
ب- مكتب التحقيقات السياسية.
ج- عدد من الضباط وضباط الصف والأفراد والأعضاء حسب الحاجة.
ويلغى ارتباط الفرعين المنصوص عليهما في البندين "أ" و "ب" من هذه المادة بالقوات المسلحة ومديرية الأمن العام.
المادة "5"
مع مراعاة الارتباط المنصوص عليه في المادة الثانية من هذا القانون يعتبر كافة أعضاء المخابرات العامة من ضباط وضباط صف وأفراد من عداد القوات المسلحة الأردنية.
المادة "6"
تسرى على كافة موظفي وأعضاء المخابرات الأردنية:
أ- أحكام قانون القوات المسلحة من حيث الحقوق والواجبات والمحظورات والرتب العسكرية والرواتب والتجنيد والتعيين والتصنيف والترفيع والنقل والإجازات والضبط والربط العسكري والمحاكمة والاستقالة وإنهاء الخدمة والتقاعد والمسؤولية عن الأموال العامة التي في عهدتهم أو التي تقع في حوزتهم، على أن تعتبر خدمات الأعضاء من الدرجة العاشرة فما فوق خاضعة لقانون التقاعد العسكري وما يطرأ عليه من تعديلات ولو قضى ذلك القانون بخلاف ذلك.
ب- أحكام قانون العقوبات العسكرى رقم "43" لسنة 1952 شريطة أن يكون أعضاء المجالس العسكرية المنصوص عليها في هذا القانون من الضباط المجازين في الحقوق. ولهذه الاغراض جميعا يقوم رئيس الوزراء بممارسة صلاحيات وزير الدفاع ويقوم المدير العام للمخابرات بممارسة صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة المنصوص عليها في القانونين المذكورين.
المادة "8"
تقوم دائرة المخابرات العامة بالمهام والعمليات الاستخبارية في سبيل أمن المملكة الأردنية الهاشمية وسلامتها وبالأعمال والمهام التي يكلفها بها رئيس الوزراء بأوامر خطية، وتحمل هذه الأعمال والمهام طابع السرية، وعلى قوات الأمن أن تساعد هذه الدائرة في أدائها لمهامها.
من خلال قراءتنا السريعة للمواد السالفة، نستطيع التأسيس لرؤيتنا حول دائرة المخابرات العامة..
فهذ الدائرة تأسست أولا من خلال استلام مهمات قسمين أمنيين كانا موجودين وتابعين لمؤسات أمنية أخرى قائمة وموجودة، هما "دائرة المباحث الجنائية" التابعة للأمن العام، و"مكتب التحقيقات السياسية" التابع للقوات المسلحة.. وبالتالي فلن يكون لتأسيس هذه المنشأة الأمنية الجديدة أي معنى أو داعٍ، إلا إذا تمت إضافة بعض المهمات إلى القسمين المذكورين، لم يعد من الملائم أن يقوما بها وهما تابعان لملاك كل من "الأمن العام" و"القوات المسلحة"، أو إذا أضيف إلى هذين القسمين قسم آخر يجسِّد المبرر الحقيقي من وراء إنشاء المؤسسة ككل، أو إذا أضيف الأمران معا..
ولعل هذا هو ما أجاب عليه الفرع "ج" من المادة "3" نفسها عندما نص على المكون الثالث للمخابرات في العبارة التالية: "عدد من الضباط وضباط الصف والأفراد والأعضاء حسب الحاجة"..
ولأننا نعرف جيدا المهمات التي يمكن لـ "دائرة المباحث الجنائية"، ولـ "مكتب التحقيقات السياسية" أن يقوما به.. فإننا نعطي لأنفسنا كامل الحق في افتراض أن المهمة الجديدة الإضافية التي نشأت المخابرات لتتضلع بها، كامنة في الفرع "ج" من المادة "3"..
أي أن هؤلاء "الضباط وضباط الصف والأفراد والأعضاء"، الذين ستتكون منهم المخابرات حسب الحاجة، هم الذين سيجسدون دورها المرتقب.. فما هو هذا الدور؟!
هناك في تصورنا إجابتين على هذا التساؤل..
الأولى قانونية تشير إليها المادة "8" التي أوردناها سابقا..
الثانية سياسية تجيب عليها ظروف نشأة دائرة المخابرات في عام 1964..
فمن الناحية القانونية نستطيع القول بأن مهمة هؤلاء "الضباط وضباط الصف والأعضاء والأفراد" الذين سينضمون إلى الدائرة عند الحاجة، سوف يقومون بناء على المادة "8" بـ "المهام والعمليات الاستخبارية في سبيل أمن المملكة الأردنية الهاشمية وسلامتها، وبالأعمال والمهام التي يكلفها بها رئيس الوزراء بأوامر خطية"..
أي أن المخابرات نشأت وتأسست بموجب قانون إنشائها لتقوم بمهمة "استخبارية صرف تتعلق بأمن المملكة"..
ولا تنطبق صفة "معلومة استخبارية تتعلق بالأمن" في العرف الأمني والعسكري إلا على ما يتعلق بالبند الثالث من بنود "التهديدات" والمتعلق بـ "الجوسسة والاختراق الأمني الأجنبي المعادي"..
أي أن المخابرات نشأت لغرض مواجهة تهديد خارجي يمثله عدو واضح يتطلب الاستعلام عنه استخباريا، سواء فيما يتعلق بنشاطه العسكري أو غير العسكري، أو بتجسسه على نشاطنا العسكري وغير العسكري.. وأي مهمة للمخابرات خارج هذا الإطار هو تجاوز للقانون الذي أعطى للدائرة نفسها مشروعيتها القانونية.. وبما أن تهديد أمن المملكة لا يتأتي من شعب المملكة ذاته، فلا شك إذن في أن مهمة الأعمال الاستخبارية لا يمكنها أن تكون موجهة نحو الشعب بأي حال.. فهذا ما لا تقوم به أي دولة تحترم شعبها ومعارضته وحقوقه..
أما من الناحية السياسية فنستطيع القول بأن مهمة هؤلاء الضباط وضباط الصف والأعضاء والأفراد، لن تكون سوى الاستعداد لمواجهة تداعيات أمرين كبيرين ظهر أولها في عام 1964، فيما ظهرت إرهاصات الثاني في العام نفسه.. ألا وهما ظهور منظمة التحرير الفلسطينية وما يمكنها أن تخلقه على الأرض من تداعيات حركية وسياسية، كان النظام يستعد لمواجهتها.. والتأكد من ظهور المقاومة على الساحة بعد لقاءات المؤسسين الأوائل بكل من "ماو" و"بومدين" و"عبد الناصر" في مرحلة الاستعدادات الأخيرة للانطلاق في عامي 1963 و1964..
كان النظام الأردني في تلك الفترة يستعد لمواجهة زلزال كبير قادم على الساحة الأردنية، زلزال شعبي يهدد الوظيفية التي نشأ وترعرع ومرد عليها، زلزال الثورة التي ستعيد إنقاذ الأردن من تداعيات مؤامرة عام 1957، والتي ستضع مصير النظام الوظيفي على المحك التاريخي.. وكان بحاجة إلى مؤسسة أمنية مختلفة عن كل من "دائرة المباحث العامة" وعن "مكتب التحقيقات السياسية"، سواء من حيث المهمة والوظيفة، أو من حيث الموقع الإداري..
فلا الجيش ولا الأمن العام هما الأماكن المناسبة لملاحقة شعب يثور ضد الاحتلال أمنيا.. وفي الوقت ذاته، ولأن هذين القسمين غير كافيين ولا مؤهلين لمتابعة الأمور في سياقها المتوقع، لأن "دائرة المباحث العامة" من الواضح أنها متخصصة في "الأمن الجنائي" عموما، ولأن "مكتب التحقيقات السياسية" نشأ في الجيش في ظروف انقلاب عام 1957، لمواجهة تداعياته داخل المؤسسة العسكرية فقط، ما يعني أنه مكتب سيكون عاجزا عن القيام بعمل تعقبي خارج تلك المؤسسة..
.. نقول.. بسبب كل ذلك فقد كان من الضروري أن تنشأ مؤسسة جديدة، يتم التغطية على مهمتها الأمنية الحقيقية بالمادة "8" السابقة، لإعطاء مبرر قانوني لإنشائها، على أن تكون قادرة على القيام بالمهمة المرتقبة.. وهو ما لم يكن ممكنا بدون الإشارة القانونية إلى الفرع "ج" من المادة "3"..
وهذا الذي كان.. فنشأت وتأسست "دائرة المخابرات العامة" بغطاء قانوني لتتجسس على العدو الصهيوني وكل أعوانه من المتآمرين على أمن الدولة الأردنية، فيما هي نشأت في واقع الأمر لتعد العدة لما راح يظهر من إرهاصات المرحلة عام 1964..
دور المخابرات منذ نشأتها..
بداية وقبل الحديث عن أي دور للمخابرات العامة خارج حدود التأطير القانوني الذي أشارت له المادة "8" من قانون المخابرات لعام 1964، دعونا نستحضر شخصية بالغة الأهمية في هذا السياق، سيساعدنا استحضارها على فهم الكثير من الأمور. هذا الرجل هو "عدنان أبو عودة" الذي كان شخصية تثير الجدل والريبة والتساؤل، وتبعث على الحيرة والارتباك. فهو قد وصل إلى أعلى المناصب فى الأردن، حيث أصبح رئيساً للديوان الملكى في الفترة "91 – 1992"، بعد أن كان وزيراً للبلاط في الأعوام "84 – 1988"، وأكثر وزراء إعلام الأردن شغلا لهذه الحقيبة الوزارية، حيث شغلها مدة عشر سنوات متفرقة فى عهد حكومات أربع هي حكومات الأعوام "70 – 1972"، و"73 – 1974"، و"76 – 1979"، و"80 – 1984". كما أنه شغل منصب مندوب الأردن الدائم لدى الأمم المتحدة في الفترة "92 – 1995"، وعضوية المجلس الوطنى الاستشاري في الفترة "82 – 1984". فضلا عن أنه كان عضوا في مجلس الأعيان لفترة طويلة. والأهم من هذا كله أنه عمل مستشاراً سياسياً للملك "حسين بن طلال"، وكان كاتباً لنصوص معظم خطبه.
"وهو لم يحصل على هذه المكانة بالترقى التقليدى داخل "النظام"، وإنما وصل إليها عبر طرق متشعبة وبالغة الغرابة، حيث بدأ اهتماماته السياسية فى صدر شبابه بالانتماء إلى "حزب التحرير"، ثم سرعان ما هجر صفوف الإسلاميين وانضم إلى "الحزب الشيوعي" عام 1955 ليتركه عام 1958. وبعد هذا التاريخ "النضالى" فى صفوف المعارضة الإسلامية والشيوعية، حدثت الانعطافة الكبرى والانتقال من مشاغبة المعارضة إلى دهاليز المخابرات. وأصبح محللاً بالمخابرات الأردنية.. هكذا مرة واحدة. وجاء هذا التحول الميلودرامى على يد "محمد رسول الكيلانى" الذى كان مدرساً زميلاً له فى مدينة "السلط" الأردنية قبل أن يصبح مديراً للمخابرات. وبالفعل نجح "محمد رسول الكيلانى" فى تجنيد "عدنان أبو عودة" الذى انتقل من وظيفة مدرس إلى قلب المؤسسة المخابراتية الأردنية، ليصبح ضابطاً محللاً فى فترة عصيبة قبيل "أيلول الأسود"، لتبدأ رحلته مع صنع الأحداث فى الأردن والشرق الأوسط". (من موقع "الحوار المتمدن"، العدد 1984، حوار بعنوان "أخطر شخصية سياسية أردنية يتحدث، عدنان أبو عودة، رئيس الديوان الملكى"، أجرى الحوار "سعد هجرس"، بتاريخ "22/7/2007"، على الرابط التالي: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=103051).
ولأننا لا نستطيع المرورَ على محطات حياة "عدنان أبو عودة" سالفة الذكر مرورَ الكرام، متعاملين معها بتلك السذاجة التي تَعْتَبِرُ الانتقال من صفوف "حزب التحرير" إلى صفوف النقيض المعتقدي له، ألا وهو "الحزب الشيوعي"، بمثابة نقلة أيديولوجية صرف، غيرت قناعات الرجل من الإيمان المتشدد، إلى ما يمكنه أن يكون إلحادا متطرفا، في فترة وجيزة. لينتقل بعد ذلك إلى نقيض الاثنين معا، وهو "جهاز مخبرات النظام" الذي يعارضانه ويعاديانه في فترةٍ حرجةٍ كالخمسينيات، تاركا صفوف الحزب بعد أشهرٍ فقط من إفشال محاولة الانقلاب ضد نظام الملك حسين، ببساطة لا تقل عن تلك التي نقلته من "التحرير" إلى "الشيوعي"..
نقول.. لأننا لا نستطيع التعامل مع محطات حياة هذا الرجل بسذاجة، فإننا سنقفز على البراءة التي حاول إظهارها بعرضه التلقائي للأمر في الحديث عن سيرته، وكأنه يتحدث عن التقلب في علاقته بجيرانه أو ببعض أقاربه، منتقلين إلى النقطة الأهم في هذا السرد. فأن يتحول الإسلامي المتشدد والشيوعي الملحد إلى ضابط مخابرات محلل في فترة وجيزة وفي مرحلة عصيبة، أمر يطرح أكثر من سؤال، يجيب عليها "عدنان أبو عودة" نفسه، فيعفينا من مغبة الظنون والتخرُّصات. فهو يقول في معرض حديثه عن بدء علاقته بالملك حسين:
"أنا أولاً كنت فى المخابرات كمحلل وليس كضابط عمليات، بمعنى أن المسؤول الرسمى كان يعطينى التقارير وأنا أقوم بدراستها وفكها وتحليلها، ثم أكشف منها اتجاهات معينة وأكتب تقارير حول ذلك. وقد لفت منهجى فى التحليل انتباهَ الملك، لأنه لم يكن يتلقى تقارير من النوعية التى أكتبها. فهو كان يتلقى تقارير أقرب إلى تقارير الشرطة. ولأول مرة بدأ يرى تقارير بها اقتصاد وعلم نفس وأمور أخرى. ولذلك فقد سأل الملك حسين عن الذى يقوم بكتابة هذه التقارير، وقيل له أنه أنا الذى أقوم بكتابتها. فطلب أن يتعرف بى شخصياً وكنت فى ذلك الحين ضابطاً برتبة نقيب. وكانت هذه هى بداية التعارف". (المرجع السابق نفسه).
أبو عودة النقيب المنتقى والمختار في المخابرات العامة منذ بداياتها الأولى، يعترف بما لا يدع مجالا للشك من خلال توصيفه لمهمته المميزة، أن دور المخابرات لم يكن إطلاقا هو ذلك الذي تحدثت عنه المادة "8" من قانون إنشائها، وذلك منذ وقت مبكر.. إذن فهذه الدائرة نشأت منذ نشأت على التحايل والتضليل والتمويه والتلاعب والخداع والاختباء وراء القانون للقفز على القانون ذاته وللتلاعب به..
في هذا السياق نفسه يقول "عبد الفتاح طوقان" أحد كبار المحللين السياسيين لتاريخ العلاقة الأردنية الفلسطينية: "إن عدنان أبو عودة تحمَّل عبءَ الدفاع عن الأردن وإدارة إعلامه فى عهد "حرب أيلول لتصفية الفدائيين"، و"اتفاقيات الفلسطينيين السرية مع "الإسرائيليين"، ثم في عهد "التمهيد للسلام الأردني مع إسرائيل". فقد كان "أبو عودة" يحمل الأفكار للملك الحسين، وكان الملك يجلس مع أبو عودة يحدثه عن أفكاره، فيقوم أبو عودة بصياغتها ومن ثم كتابتها. لقد كان الرجل يمثل خط الدفاع الأول والأخير للملك "حسين بن طلال" إعلاميا وسياسياً" (المرجع السابق نفسه).
إذن فـ "عدنان أبو عودة" هو الذي تولى وضع الخطط السياسية الكفيلة بالدفاع عن الأردن، وإدارة إعلامه من كواليس المخابرات لتصفية الثورة في أيلول، باعتباره ضابطا محترفا متميزا في المخابرات العامة منذ بواكير عهده بها.
ولم تبدُ عليه أيُّ علاماتِ حرجٍ عندما اعترف قائلا: "كنت أمثل المخابرات فى الحكومة العسكرية"(9)، مشيرا إلى الحكومة العسكرية التي شكلها "الملك حسين" عشية مجزرة أيلول. ليجعلنا نتساءل عما يمكن لجهاز أمني حددت مهمته المادة "8" بالشكل الذي شرحناه فيما مضى، أن يقدمه لمشروع نظام بتصفية ثورة شعب، وبالتواجد في قلب حكومة عُيِّنت لتنفيذ هذه المهمة، إذا لم تكن تلك المادة – نقصد المادة "8" – مجرد ذر للرماد في العيون، ومجرد خدعة استهدفت التغطية على الهدف الحقيقي من وراء إنشاء هذه المؤسسة الأمنية؟!!!
دعونا نواصل..
فبمتابعتنا للتطرف الذي وصلت إليه وظيفية النظام بعد أيلول 1970، وهو التطرف الذي جعل العلاقات بين النظام والكيان الصهيوني أبعد ما تكون عن أيِّ حساسية تدفع أي جهاز أمني أردني إلى التجسس على ذلك الكيان، أو حتى إلى العمل على حماية الدولة من تجسس ذلك العدو واختراقاته بالقدر المتناسب مع حجم العداء الذي يمثله ذلك الكيان بالنسبة للشعب الأردني، وهو ما يعلمه الجميع.. حتى أن "الموساد" و"السي. آي. إي" و"الماسونية" ومشتقاتها عاثت وما تزال تعيث في البلاد فسادا منذ عقود، دون أن نسمع أن خلية تجسس واحدة لهذا الطرف أو ذاك، تم إلقاء القبض عليها أو تفكيكها في الأردن..
.. نقول.. بمتابعتنا لهذه الظروف، نستطيع التأكيد على أن كل التوسع والتضخُّم الذي حدث في هذه الدائرة الأمنية كان ينصب باتجاه استحداث أقسام، وتشغيل مستخدمين، وزيادة نفقات، تصب جميعها بعيدا عن مضمون البند الرابع من بنود التهديدات وهو مكافحة "التجسس والاختراق الأمني الأجنبي المعادي".. وبالتالي فما هو العنصر الذي ضخم هذه الدائرة وجعلها أكبر مؤسسات الدولة، وليس الأمنية فقط، هيمنة ونفوذا وتأثيرا وإنفاقا؟!
إن الأمر تقف وراءة السياسة وليس القانون..
فالمادة "8" من قانون المخابرات لعام 1964، لم تُطَبَّق ولا هي نُفِّذَت ولا تمَّ العمل أو الالتزام بها منذ اليوم الأول لنشأة المخابرات، لسبب بسيط، هو انعدام أيِّ مبررات للعمل بها، لأنها تتطلب نوعا من اللاوظيفية، وقدرا من الاستقلالية لدى النظام، يخلقان مبررات التناحر بينه وبين دولة الكيان الصهيوني، وهو ما لم يحدث على الإطلاق..
إن فحوى سياسية المبررات التي تقف وراء التضخم والتمدد والهيمنة والانفلات والتحكم الذي حظيت بها المخابرات منذ أيلول وحتى الآن، هو أن المخابرات كانت معنية بمواجهة حالة سياسية داخلية فرضتها التحولات في المد أو الانحسار القومي من جهة، وفي المد أو الانحسار في مواجهة إسرائيل من جهة أخرى..
إن دائرة المخابرات العامة بوصفها مؤسسة تمثل الأمن السياسي للنظام الوظيفي منذ نشأتها، وبشكل استفحل وترسخ وتكرس بعد أيلول في توسع وهيمنة مضطردتين لم يتوقفا، ستتحول قطعا إلى مؤسسة تمثل دُمَّلا في الجسد الوطني بعد استعادة الشعب الأردني لحريته وديمقراطيته ولدولته المدنية التي نسعى إليها جميعا..
وإننا أمام هذا الدُّمَل أمام خيارات مفروضة علينا، تقوم جميعها على واقعة أن معظم الجسم الإداري والوظيفي لهذه المؤسسة لن تكون هناك إليه أيِّ حاجة حقيقية من جهة أولى، فضلا عن أن ما تمكننا الحاجة إليه، لن يحتاج إلى مؤسسة أمنية قائمة اسمها المخابرات العامة، مادام بالإمكان ضمه ودمجه من حيث مهماته الأمنية في كل من المهمات المشار إليها في البنود "1" و"2" و"3"، حيث الأمن العام والقوات المسلحة..
وبما أن المخابرات لم تمارس ما نصت عليه المادة "8" بشكل يمكنها من أن تقوم به في المرحلة القادمة استنادا إلى بقائها بهيئتها الحالية، فإن كل المبررات المحتملة للمحافظة على هذه المؤسسة الأمنية قائمة وموجودة تسقط وتذوي..
وإذن فكل ما علينا القيام به – بعيدا عن أيِّ عواطف أو انفعالات أو ردود فعل شخصية ذات طابع ثأري أو انتقامي – هو النظر فيما إذا كانت المهمات التي يتطلبها البند الرابع من بنود الأمن، أي "مكافحة التجسس والاختراق الأمني الأجنبي المعادي"، تحتاج منا إلى حل المخابرات حلا كاملا وضم هذه المهمة إلى الجيش، أو إعادة هيكلة هذه المؤسسة لتقتصر مهمتها على ذلك البند الحمائي، وبالتالي تقليص حجمها إلى ما يتناسب مع هذا الدور.. اي وفي كل الأحوال فإن الإبقاء على هذه المؤسسة كما هي هو عبء وظيفي ومالي ونفسي وأخلاقي لا معنى له، فضلا عن أنه عبء غير جائز في دولة تحاول أن تعيد هيكلة نفسها بشكل كامل، يحارب الفساد والتغول الأمني والتوظيف غير المنتج..
والخلاصة التي يجب أن نعلنها في هذا المقام، هي أن الخوفَ على مستقبل أمن الأردن بدون جهاز المخابرات العامة، يكون له معنى، لو أن هذا الجهاز كان يحمي أمن الدولة الأردنية فعلا، أو لو أن مهماته كانت مهمات لحماية أمن الدولة الأردنية كما أشارت إلى ذلك المادة "8" حقيقةً..
ولكن كل ما ذكرناه في التحليل السابق أثبت عكس ذلك تماما.. فأمن الدولة الأردنية الداخلي اضطلعت به أجهزة الأمن العام وما تزال.. وأمن الدولة الخارجي الذي يفترض أن يضطلع به الجيش بكافة تشكيلاته المسلحه، لم يكن مهددا على وجه الحقيقة وبشكل جدي منذ أربعين عاما، حتى نختبر كفاءة ذلك الجيش في حماية الدولة من هكذا تهديدات..
أما جهاز المخابرات فقد تأسس ليحميَ النظام الوظيفي من شعبه الذي كان يتفاعل مع محيطه القومي وداخله الوطني بشكل يتعارض مع وظيفية النظام..
وإذن فأي حاجة تبقى لجهازٍ من هذا النوع، بعد أن يتغير النظام الوظيفي، لتصبح السلطة هي سلطة الشعب، وليغدو القرار هو قراره؟!!!! أي بعد أن تنتفي حاجة النظام إلى من يحميه من شعبه، بعد أن يصبح النظام هو الشعب ذاته؟!!!