واقبلوا احترامي ..
قصة : مهنا أبو سلطان ..!
كانت "إيثار النجار" أكثر موظفي قسم المبيعات في (المؤسسة الوطنية للتعدين) تأثراً وحزناً .. لوداع رئيس القسم الذي أحيل إلى التقاعد .. هذا الشخص الذي قضى عمره في خدمة القسم والموظفين والمواطنين على حدٍ سواء .. وكان مثالاً في حسن التعامل والسلوك الحضاري ..
دمعتان حارقتان شقتا طريقيهما على وجنتيها الباردتين .. فكانتا كقطرتي ندىً على زهرة جلنار .. خصوصاً أن هذا الشخص يُعتبر بالنسبة لها الأب الثاني .. بعد رحيل والدها .. إذ هو الذي كان له الدور الأكبر في تزويجها ، بل .. كان أحد الشهود على عقد زواجها من الموظف في نفس القسم "جاسر عصمت النجار" الذي أحبته بعد أن تعرف عليها في المؤسسة .. وعاشت معه قصة حبٍ قصيرة .. انتهت بالزواج.. وعادت بها الذاكرة إلى تلك الأيام الجميلة .. أيام اللقاء الأول في المؤسسة .. بينها وبين جاسر .. حين أقحمته الأيام في حياتها على حين غرةٍ من القلب .. وكيف كان جريئاً في حبه حين صارحها بذلك بعد أقل من شهرٍ على تسلمه عمله في المؤسسة ، وفي نفس القسم .. وكان صادقاً في مشاعره .. وأكثر ما أعجبها فيه نظرته الحضارية للمرأة .. وحريتها في نيل حقوقها من المجتمع كاملةً .. لكنه مع ذلك ، كانت لديه استثناءاتٌ من هذه المفاهيم الحضارية .. إذ كان يردد دوماً أن المرأة بشكلٍ عام أقل درجةً من الرجل ..
أصبح منصب رئيس القسم شاغراً .. وصار لزاماً على المدير العام للمؤسسة تعيين رئيسٍ جديدٍ للقسم .. وفق المعايير المعمول بها .. وكان القرار الصائب .. بتعيين " السيدة إيثار النجار" رئيسةً للقسم ، بصفتها الوحيدة التي تحمل شهادة الماجستير في الإدارة أولاً ، وتفردها في الأقدمية ثانياً ، وبحكم سمو أخلاقها .. وجمال تعاملها من جهةٍ ثالثة .. بينما كان الآخرون أقل منها درجةً أو درجاتٍ ، إن على صعيد سنوات الخدمة أو المؤهل العلمي .. فكان من الطبيعي اختيارها لهذا المنصب عن جدارةٍ واستحقاق ..!
ترقرقت دموع الفرح في عيني إيثار .. وكادت ترقص فرحاً كفراشةٍ داخل المكتب لولا الخجل .. وشاركها موظفو القسم الخمسة .. هذا الفرح .. وبدأوا يتقدمون الواحد تلو الآخر لمباركة هذا الاختيار الحكيم .
وحده جاسر لم يحرك ساكناً .. ظل في مقعده صامتاً كتمثال .. ساهماً لا يدري أحدٌ بماذا يفكر .. فتلاشت أمارات البهجة شيئاً فشيئاً من عيني إيثار .. وترجلت علامات الفرح من على ملامحها حين رأت زوجها .. حبيبها .. لم ينهض لتهنئتها بالمنصب الجديد .. وأحست بالحرج أمام الموظفين .. فقالت له مازحةً :
ـ جاسر .. حبيبي .. هل عقدت الفرحة لسانك .. وجمدتك في مكانك ..؟ هيا انهض لتشاركني فرحتي .. تأكد بدونك لا يكون في قلبي متسعٌ للفرح ..!
نهض متثاقلاً .. وصافحها ببرودٍ غريب .. قائلاً :
ـ مبروك ..!
في البيت كان صوت جاسر مجلجلاً أثناء شجارٍ كلاميٍ ساخنٍ مع زوجته حول أمر المنصب الجديد .. وبعد أن قام بتحطيم الكثير من الأواني الزجاجية والخشبية في أركان البيت .. على مرأىً ومسمعٍ من أبنائهما الذين كانوا يرتجفون خوفاً .. وترتعد فرائصهم جزعاً .. قال لها بصوتٍ أسمع الجيران :
ـ ما كان ينبغي أن تقبلي المنصب الجديد .. بل كان يجب أن تتنازلي عنه لي .. فأنا أحق منك .. هذه خيانة .. خيانة ..!
قالت بعد صمتٍ ثقيل .. ووجومٍ مستنكرٍ لما يجري ، وبعد قفزها عن كلمة الخيانة المُرة هذه :
ـ جاسر ماذا جرى لك ؟ حسبتك ستطير فرحاً من أجلي .. ثم إن منصب رئيس القسم استحقاقٌ لي وأنت تعلم ذلك جيداً .. زد على ذلك أنك حصلت على ترقيةٍ مثلي ، فأنت نائبي .. وقبل كل ذلك .. فأنا وأنت واحد ..
ـ لا ... قالها مدويةً .. إلا في هذه .. أأصبح أنا مرؤوسك وأنت زوجتي ؟؟
ـ وأين الخلل ؟؟ ألا أستحق ذلك ؟
ـ اسمعي .. أنت تعرفيني جيداً .. قاطعته بلطفٍ :
ـ جاسر .. حبيبي .. أين كلامك عن المساواة .. ووجوب أخذ المرأة فرصتها في المجتمع كالرجل تماماً ؟؟ بل أين .......
قاطعها بعصبية صائحاً :
ـ أنا لم أحد قيد أنملةٍ عن قناعاتي ومبادئي .. كم مرةً قلت لك .....
قاطعته هي هذه المرة :
ـ (أن المرأة في الإطار العام أدنى درجةً من الرجل) .. نعم قلت لي هذا أكثر من مرة .. ولكن هذا لم يقنعني يوماً ..
ـ اسمعي جيداً .. لا تكلميني أبداً.. ولا تعتبري نفسك زوجتي بعد اليوم .. ولن أطلقك كي ترتاحي .. سأعذبك .
أرادت أن تقول له شيئاً .. يهدئ من غضبه ويسرّه .. لكنه قبل أن تنفرج شفتاها .. تركها بحركةٍ عصبيةٍ .. ومضى خارج البيت .. وقد صفق الباب خلفه بشدة ، حتى كاد يخلعه ..
لم تسر أمور الحياة بعد ذلك في بيتهما عاديةً .. ولم تستطع أن تنبس بكلمةٍ واحدةٍ مع زوجها .. كلما أرادت أن تكلمه .. يبدأ بالصراخ في وجهها .. وتكسير أواني البيت المختلفة .. وكان أشدَ ما آلمها نعتُهُ إياها بالـ"خائنة" ..
في المؤسسة أصبح جاسر كالمجنون .. يروح ويغدو في زياراتٍ مكوكيةٍ من وإلى غرفة المدير العام على مدار أكثر من شهرين .. لإقناعه بالعدول عن هذا القرار .. لصالحه .. لكن ذلك لم يَجدْ أذُناً صاغيةً لدى المدير .. بل إن الأخير بيّن له أكثر من مرةٍ أن إيثار أول من يستحق هذا المنصب .. ولكن دون جدوى .. لم يُردْ جاسر أن يسمع أية كلمةٍ تصب في صالح إيثار .!
إلى أن جاء ذلك اليوم .. الذي كان فيه المدير في غاية التأثر .. حين نزل إلى قسم المبيعات .. معلناً أمام موظفي القسم جميعاً .. عدوله عن قراره .. ورفع درجة جاسر من نائب رئيس القسم إلى رئيس القسم .. وتخفيض درجة إيثار من رئيس القسم إلى نائب الرئيس .. وسط استهجانٍ ودهشةٍ عظيميْن من الموظفين ..
حينها تنفس جاسر الصعداء .. وابتسم ابتسامةً خبيثة .. ثم قال موجهاً كلامه للمدير وللجميع في القسم :
ـ وأول قرارٍ سأتخذه .. هو تخفيض درجة هذه المرأة التي لم تحفظ العِشرة ،ولن تكون حتى نائباً لرئيس القسم .
حينها صاح به المدير بغضبٍ واضح :
ـ لا .. لا ينبغي لك أبداً ..
ـ ولم ؟ لا أريد هذه الماكرة هنا.. وأظن هذا من صلاحياتي يا سيادة المدير .
ـ اسمع .. لولا هذه التي تسميها " ماكرة " ما أصبحتَ رئيساً للقسم . لأنك الشخص الذي يليها في استحقاق المنصب ولستَ الأول .
ـ هاها .. كلكم تتعاطفون معها .. إذن كيف تم العدول عن القرار سيدي ؟
ـ أنا لا أقول هذا تعاطفاً وإن كان ينبغي أن نتعاطف معها .. ولكنها الحقيقة ..
ـ سيادة المدير .. عفواً .. أنا غير مقتنعٍ بهذا الكلام .. فهو نابعٌ من تأثركم الواضح ..
حينها قال المدير بصرامةٍ وحزمٍ ظاهرين :
ـ قلت لك هذه هي الحقيقة ..
ـ سيدي .. هل هناك من دليلٍ على ما تقول إن جاز لي السؤال ؟
ـ طبعاً .. قالها المدير جازماً .. ومد يده إلى جيب "جاكيته " الداخلي وأخرج ورقةً .. وقال : اسمع يا جاسر ..
ثم بدأ يقرأها على مسامعهم جميعاً :
السيد مدير عام المؤسسة الوطنية للتعدين الموقر
أنا الموقعة أدناه : إيثار عبد الكريم النجار ..
تحيةً طيبةً وبعد :
مرةً أخرى .. أو لعلها المرة الأخيرة بعد العشرين .. أتوسل لسيادتكم ، تخفيض درجتي الوظيفية من رئيس قسم المبيعات إلى نائب رئيس القسم .. ورفع درجة زوجي "جاسر النجار" من درجة نائب رئيس القسم إلى رئيس القسم ، بدلاً مني .. وإنني إذ أتنازل عن المنصب بمحض إرادتي لزوجي الذي يليني بأحقية هذا المنصب .. فإني بذلك أنقذ حياتنا الزوجية من الانهيار .. وأحافظ على مستقبل أبنائنا الذي أصبح في مهب الريح ..
وفي حال لم تتم الاستجابة لرجائي هذا كما في المرات السابقة ، فأرجو اعتبار هذه الوثيقة بمثابة تقديم استقالتي من المؤسسة .
واقبلوا احترامي ..!