أصوات الحروف العربية وإيحاءاتها الحسية والشعورية
حسن عباس
بيني وبين علماء اللغة .
على الرغم من أن علماء اللغة الذين قالوا إنَّ لغتنا مأخوذة مباشرة عن الطبيعة، وأصّلوا على ذلك، أنّ معنى اللفظة مستفاض عن صورتها الصوتية، فإن أحدا منهم لم يربط يبن أصوات الحروف وبين الحواس الخمس والمشاعر الإنسانية.
ولئن كان بعضهم قد أسند إلى أصوات الحروف بعض الإيحاءات اللمسية والبصرية والصوتية، فإن أحدا منهم لم يسند إليها أيّ إيحاء بإحساس ذوقي أو شمي.وباستثناء الأرسوزي، فإن أحداً منهم لم يسند إليها أيّ إيحاء بمشاعر إنسانية. وهذا يعني كما سبق وألمحنا إلى ذلك، أن جميع الألفاظ الدالة على أحاسيس ذوقية وشمية ومشاعر إنسانية، إنما هي مصطلحات على معان. الأمر الذي يتناقض صراحة مع ما ذهبوا إليه من أن لغتنا مأخوذة عن الطبيعة ماديها وإنسانيها، وأنّ معاني الألفاظ هي محصلة موحيات أصوات حروفها.
لذلك، وقبل أن أتحدث عن الإيحاءات الحسية والشعورية في أصوات الحروف العربية، أرى من المفيد أن أتحدث أولا عن مسألة الاستيحاء، مادامت هذه المسألة هي مرتكز هذه الدراسة.
1-فما الاستيحاء؟
الاستيحاء هو عملية نفسية من اختصاص المشاعر الإنسانية. وعلى الرغم من أنني عقدت فصلاً خاصاً عن الشعور في هذه الدراسة، فإني أرى من المفيد أن أتطرق منذ الآن بشيء من الإيجاز إلى دور الشعور في عملية استيحاء المعاني والتعبير عنها، ولو ببعض الأمثلة.تمهيد لابد منه لمتابعة الحديث عن إيحاءات أصوات الحروف العربية وخصائصها الحسية والشعورية.
فلو شاهدنا مثلا صديقاً حميماً يصارع منافساً له، وأطلقنا النّفس على سجيتها، إذن لصدرت عنا بصورة عفوية مختلف الحركات والأصوات التي تعبّر عن انفعالاتنا الشعورية عبر مواقف الصديق في مراحل صراعه، وكأنّ الأمر أصبح بيننا نحن وبين ذلك المنافس. هذه العملية الشعورية يسميها علم النفس، التقمص الشعوري، أو المشاركة الوجدانية، حيث يسقط الإنسان فيها مشاعره على الآخرين. ولو أردنا أن نعرّف أجنبياً لانفهم لغته ولا يفهم لغتنا، بشيء معين من الأشياء، لاضطررنا إلى تقمص مادة ذلك الشيء والاتحاد بها، لنستخلص منها خصائصها الذاتية من ملمس، أو مذاق، أو رائحة ، أو شكل، أو صوت، لنعبّر عنها للأجنبي بالحركات والأصوات الملائمة كيلا يخطئ في تشخيص الشيء المراد وتحديده. فهكذا تقمّص العربي الفجر أشياء العالم الخارجي وأحداثه على الطبيعة، ليعرّف أبناء مجتمعه بها بشتى الحركات والأصوات التي تعبّر عن خصائصها الحسية، فلا يخطئون بعد ذلك في معرفة معاني تلك الأصوات والحركات. لتسقط الحركات الجسدية عبر مراحل تطور اللغة ويستعاض عنها بنبرات أصوات الحروف إيحاء، أو بحركات أعضاء جهاز النطق تمثيلاً أثناء التلفظ بتلك الأصوات. لابل إن عملية التقمص الشعوري هذه ، لابد أن يمارسها كل فنان وشاعر وأديب كيما يستوحي من مواضيع تأمله مختلف الأحاسيس والمشاعر الأصيلة التي تتضمنها، ليعبر عنها بصدق، سواء في تماثيل أو لوحات أو قصائد أو ألحان. وهكذا كان العربي بحكم نشأته اللغوية الفطرية هذه ، أبرع شعراء العالم وأدبائه في وصف الطبيعة. فكان لكل من السيف والرمح والناقة والفرس والكلب والذئب والأسد والريح والغيم، وما إلى ذلك من مظاهر الطبيعة، عشرات وربما مئات الأوصاف، قد تحولت لصدق دلالتها عليها إلى أسماء. وهذا مصداق لنظرية العلاّمة (ريبو)، القائلة بأن الصفة هي أول ما ظهر في اللغة الإنسانية، ثم تلتها أسماء المعاني، وأسماء الذوات، ثم ظهرت الأفعال (علم اللغة للدكتور وافي ص113).
وإذن لقد أصبح من الممكن الآن، أن نتصور أن العربي في مراحله اللغوية المبكرة' عندما شاهد جملاً مثلاً، قد أسقط عليه مشاعره (التقمص)، ليعبر عن أحاسيس الضخامة والارتفاع التي تركها في نفسه بالحركة المناسبة من يديه مع صوت معين فيه شيء من الضخامة والفلطحة، فكان له من ذلك صوت الجيم (الشامية لا القاهرية). لتسقط الحركات الجسدية مع تطور اللغة العربية، ويستعاض عنها بأصوات إضافية من الحروف.
وهكذا تقمّص العربي أوضاع الأشخاص والأشياء والحيوانات والأحداث الخارجية ليعبر عما أثارته في نفسه من أحاسيس ومشاعر إنسانية بأصوات الحروف الأبجدية. وهذا ما عناه ابن جني بعبارته الذكية (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث).
وإذن لقد اعتمد العربي شعوره للاهتداء إلى أصوات حروفه واستخلاص معانيها، استيحاء من العالم الخارجي بروح فنية خالصة، وليس بملكة (عقلية-هندسية).
2-ثم كيف أبدع العربي ألفاظه للتعبير عن معانيه؟.
بعد أن اهتدى العربي إلى أصوات حروفه ومعانيها، بقي على فطرته البدوية يتقمص الأشياء والأحداث لاستشفاف خصائصها الذاتية. وهكذا أخذ ينتقي الحروف التي تتلاءم إيحاءاتها الصوتية مع تلك الخصائص، ولكن وفق ترتيب معين يماثل تراكيب الأشياء، كما في كلمات (باب، بير، طبل) ، أو يماثل حركات الأشياء، كما في (رفرف، زلزل، لحس، بحث)، ليتحول المدرج الصوتي بذلك، من أول الحلق داخلاً حتى أخر الفم في الشفتين خارجاً إلى حلبة رقص. وهكذا يتحول الصوت ذاته إلى راقص ينتقل برشيق (أقدامه) على مخارج الحروف، إلى الأمام أو الوراء، إلى فوق أو تحت، وإلى اليمين أو ذات اليسار، ليصور الصوت بذلك الأشياء والأحداث بحركات إيمائية تمثيلية مسموعة غير منظورة. وهكذا تتحول اللفظة العربية إلى رقصة صوتية بارعة، لا توحي بمعناها الأصيل فحسب، وإنما تجسّده أيضاً، مما لا يقدر على ذلك راقص ولا ممثل أو فنان.
وهذا ما عناه ابن جني عندما أخذ يشرح قاعدته الذهبية: (تصاقب الألفاظ، لتصاقب المعاني).فالعربي بعد أن يختار الحروف التي تتوافق أصواتها مع الحدث الذي يريد التعبير عنه، يقوم بترتيبها في اللفظة على أساس أن يقدم الحرف الذي يضاهي (أي يماثل) أول الحدث، ويضع في وسطها ما يضاهي وسطه، ويؤخر ما يضاهي نهايته. وذلك (سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد).كما عرض ذلك في مثال (بحث) في كتابه (الخصائص ج 2ص 162-163).
كما أعتمد ابن جني هذه القاعدة في تعليل الفرق بين (قدّ) طولاً ، و(قطّ) عرضا بقوله: (ذلك أن الطاء أخصر للصوت وأسرع قطعاً له من الدال. فجعلوا الطاء المناجزة (أي ذات المخرج الصوتي القريب من مخرج القاف)للقطع عرضاً. أما الدال المماطلة (أي ذات المخرج الصوتي البعيد عن مخرج القاف)، فقد جعلوها لما طال من الأثر، وهو قطعه طولا). (المرجع السابق ص158).
3-ولكن كيف نستوحي نحن معاني الحروف من أصواتها؟.
إذا كان العربي الفنان قد لجأ فعلاً إلى تقمص أشياء العالم الخارجي وأحداثه على وجه ما شرحناه للاهتداء إلى أصوات حروفه ومعانيها بوسيط من مشاعره، فإنه لابد لنا نحن أن نهتدي بالمقابل إلى معاني هذه الحروف بالذات فيما لو تأملنا صدى أصواتها في مشاعرنا، ولكن شريطة أن يتمتع ذلك العربي بأصالة فنية إبداعية، وأن نتمتع نحن بأصالة فنية تذوقية موازية. ومعاجم اللغة العربية هي المحكّم في هذه القضية.
وتأمّل صدى أصوات الحروف في المشاعر، إنّما هو عملية استبطان صريحة.
وإذن ما الاستبطان؟.
الاستبطان، كما يقرر علم النفس ، هو انعكاس الشعور على الشعور، إنه إحساس بالإحساس وتأمل باطني لما يجول في الذهن، (مبادئ علم النفس للدكتور يوسف مراد ص14).
وهكذا فالاستبطان هو استخدام الشعور كملكة وعي لادراك هذه الحالات الشعورية والأحاسيس التي تعتمل في نفوسنا.
وإذن ، فإن استيحاء معاني الحروف من أصواتها، إنما يتم عن طريق الاستبطان، وذلك بانعكاس شعورنا على المشاعر والأحاسيس التي تثيرها أصوات الحروف في نفوسنا. وهذا ما عناه الأرسوزي بعبارته: (صدى أصوات الحروف في وجداننا).
فلو تأملنا صدى صوت (الجيم) في نفسنا مثلاً، أي لو استبطناه، لاوحى لنا بالضخامة كإحساس بصري، وبشيء من الطراوة والحرارة كإحساس لمسي. وهذا ينسجم مع مايوحيه منظر الجمل وملمسه، لابل ورائحته الدسمه أيضاً. وهكذا أطلق العربي بالفعل لفظة (الجيم الشامية)، على الجمل الهائج. ولقد بدأت بهذا الحرف أسماء كثير من الحيوانات (الجاموس، الجحش، الجدي، الجرو، الجيأل للضبع، الجؤزر لولد البقرة الوحشية....).
وهناك أصوات حروف أكثر تعقيداً وأصعب استبطاناً من حرف (الجيم) مثل الصاد- الضاد- العين-الغين-الهاء....كما سنرى .
علماء اللغة وخصائص الحروف العربية:
لقد تبين مما تقدم أن استيحاء معاني الحروف العربية بالرجوع إلى خصائص أصواتها عن طريق الاستبطان، فيه الكثير من المشقة والمخاطرة. ولعل هذا السبب هو الذي جعل علماء اللغة يتجنبون هذه العملية الصوتية النفسية كمنهج لهم، وإن كان لامفر لهم من معاناتها، ولو في صور من رهافة السمع والتذوق الأدبي الرفيع.
ولقد نشرت لي مجلة المعرفة السورية في عددها(407) لشهر آب 1997 دراسة مطولة بعنوان ( فطرية العربية على موائد علمائها). عرضت فيها خلاصة ماجاء به خمسة من القائلين بفطريتها وهم ابن جني، وأحمد فارس الشدياق، وعبد الحق فاضل، والعلايلي، والارسوزي) .
وقد بينت فيها بعضاً من ايجابيات وسلبيات ما توصلوا إليه حول فطرية العربية وخصائص حروفها.
لذلك وحذر الأطالة اكتفي هنا بالحديث الموجز عن مناهج ثلاثة منهم للكشف عن بعض الثغرات فيها، ممايشير إلى صعوبة التعامل مع خصائص الحروف العربية ومعانيها، ومن ثم لمقارنتها مع نهجي الخاص بهذا الصدد. وهؤلاء الثلاثة هم (ابن جني-عبد الله العلايلي-زكي الارسوزي).
اولاً-حول منهج ابن جني: في كتابه الخصائص.
لقد لجأ ابن جني إلى استخلاص معاني الحروف العربية من معاني الألفاظ، بدلاً من الاتجاه مباشرة إلى تأمل صدى أصواتها منفردة في وجدانه. ولقد استهدى في ذلك تارة بقاعدته الذكية: (لا ينكر تصاقب الألفاظ، لتصاقب المعاني). أي تقارب الأصوات لتقارب المعاني. كما استهدى تارة أخرى بقاعدته الأذكى (سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد).. ومع ذلك لم ينج مع هاتين القاعدتين المستحدثتين من عمليات الاستبطان من التناقض حيناً بمعرض الكشف عن خصائص الحرف الواحد، ولامن الخطأ حيناً آخر في تعيين خصائص بعض الحروف ومعانيها.
فلقد ضرب ابن جني لتحديد معاني الحروف وخصائصها، الأمثلة التالية:
(القاف) فيه صلابة، وفي (الخاء) رخاوة. هذا صحيح. إلا أنه يعود فيقول:
(الحاء) فيه رقة، وفي (الخاء) غلظة. فقيل للماء القليل نضح بمعنى رشح، ونضخ للماء الغزير، بمعنى اشتد فورانه في ينبوعه. فكيف يجتمع في حرف (الخاء) خاصيتا الرخاوة والغلظة، وهما متناقضتان؟.
كما قال ابن جني أيضاً:
الهمزة في (أزّ) ، أقوى من (الهاء) في (هزّ).
وهنا اكتفى ابن جني بالكشف عن خاصية القوة الانفجارية في صوت (الهمزة)، وعن خاصية الضعف في صوت (الهاء) . وفي الحقيقة، إن صوت الهمزة يوحي بالبروز والنتوء، أكثر مما يوحي بالقوة، كما سوف نرى في دراستها. ولفظة (أزّ) معناها لغة (تحرك واضطرب)، وهما صورتان مرئيتان . والقوة في (أزّ) تعود إلى فعالية )(الزاي) المشددة، ليقتصر دور الهمزة على إظهار فعالية الزاي في صورة مرئية تشاهد بالعين. كما أن لفظة (هزالشي هزا)، بمعنى حركه بشيء من الشدة، مدينة بما في معناها من شدة للزاي المشددة، أما الهاء فهي للاضطرابات. وإذن فالشدة في كلتا اللفظتين تعود أصلا إلى (الزاي) المشددة، بفارق من أن الهمزة للظهور والبروز والهاء للاضطرابات والانفعالات النفسية. على أن شخصية الهاء من حيث تأثيرها في معاني الألفاظ التي تتصدرها، إنما هي على خفوت صوتها، أقوى بكثير من شخصية الهمزة في هذا المضمار، على الرغم من جهارة صوتها وانفجاريته، كما سوف نرى في الحديث عن الهمزة والهاء.
كما إن قيام ابن جني بتحديد معاني الحروف عن طريق المقارنة بين معاني الألفاظ أخذا بقاعدته (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني)، على وجه ماسبق ذكره، قد أوقعه في أخطاء كثيرة، كما في قوله:
العين في (عسف)، أخت الهمزة في (أسف)، وأضعف منها.
وسنرى أن العين حرف شعوري، والهمزة حرف بصرى، فأين الإخاء بينهما؟.
كما قال: الباء في (علب) أخت الميم في (علم). والدال في (قرد) أخت التاء في (قرت) والزاي في (علز) أخت الصاد في (علص). والسين والحاء في (سحل) أختا الصاد والهاء في (صهل) . الخصائص -الجزء الأول-ص145-160).
كل ذلك بمعنى تقارب معاني الحروف لتقارب مخارجها الصوتية ، وإن تفاوتت في القوة والشدة. وسوف نرى وكأنه لا علاقة ولاقربى معنوية بين هذه الحروف الإخوة أحياناً كثيرة، إلا كتلك التي كانت بين قابيل وهابيل.
ولو أن ابن جني تأمل صدى أصوات الحروف في نفسه لمعرفة خصائصها، لما وقع في هذه الأخطاء لمجرد تلك المصادفات من تقارب المعاني لتقارب الألفاظ في بعض الأحيان.
ثانياً-حول منهج العلايلي في كتابه: تهذيب المقدمة اللغوية
لقد حدد العلايلي معاني حروف الجدول الهجائي(بما تسمح به النصوص) دون أن يعتمد صدى أصواتها في نفسه. ولذلك غابت عن معاني حروف جدوله بصورة عامة خصائص أصواتها الحسية والشعورية كما سنرى. ونحن لانتهم العلايلي بالعجز عن استبطان أصوات الحروف، فلقد قرر مثلاً، أن (اللام) معناه الملاصقة والمساس، وذلك بمعرض تحليله لمعنى لفظة (جبل).(ص47من المقدمة). وهذا صحيح . ولكنه يعود فيقرر في جدول معاني حروفه: (إن اللام يدل على الانطباع بالشيء بعد تكلفة) المقدمة (ص64).
فأين معنى الملاصقة والمساس المستوحى من صوت اللام، من معنى الانطباع بالشيء بعد تكلفة المستخلص مما (سمحت به النصوص)؟.
ولعل العلايلي قد رأى أن اعتماد النصوص المحفوظة في استخراج معاني الحروف هو أقل شططا ومخاطرة وأسلم عاقبة من استخراج معانيها عن طريق صدى أصواتها في النفس. ولكن نهجه هذا هو أقل دقة وأكثر شططا كما سنرى في دراسة الحروف.
ثالثاً-حول منهج الارسوزي:
وهكذا كان الارسوزي هو الوحيد الذي اعتمد قاعدة صدى الاصوات في الوجدان لاستيحاء معاني الحروف. ولكنه وقف جل اهتمامه على استيحاء معاني الالفاظ العربية من صدى جملها الصوتية في نفسه، فلم يولِ الحروف العربية إلا القليل من عنايته منصرفاً إلى المقاطع الثنائية، وذلك على العكس مما فعل العلايلي الذي بدأ بالحروف العربية، ومنها انتقل إلى المقاطع كما مر معنا، ولذلك قد اقتصر الارسوزي على تحديد خصائص أحد عشر حرفاً فقط، وباقتضاب شديد كما سنرى.
حول المنهج الذي ابتعته في استيحاء معاني الحروف العربية:
لقد سبق أن بينت أنّ الحروف العربية كأصوات فطرية مقتبسة من الطبيعة (المادية أو الانسانية)، لابد أن توحي بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية.
وإذن فإن منهجي يقوم على الاستبطان الشعوري لاستيحاء الخصائص الصوتية لكل حرف. خطوة أولى لابد منها للكشف عن معانيه. وهكذا يتلخص منهجي في مرحلتين اثنتين:
أ-المرحلة الأولى:
أقوم باستيحاء خصائص صوت كل حرف بتأملّ صداه في نفسي بعد تفخيمه، عودة به إلى طريقة النطق بصوته حين أبدعه العربي للتعبير عن معانيه. وذلك بأن أسلط عليه أحاسيس الحواس الخمس- ومختلف المشاعر الإنسانية، فأتحرى مختلف خصائصه الحسية، ثم الشعورية.
فإذا وجدت في صوته ما يوحي بإحساس لمسي، بحثت عن شتى لمسياته، من ليونة أو صلابة أو خشونة أو برودة أو حرارة..كما أنني أتبع هذا النهج بالذات لاستخلاص موحياته الذوقية والشمية والبصرية والسمعية والشعورية .
فإذا اقتصرت إيحاءات صوت حرف ما على اللمسي فقط، صنفته في فئة الحروف اللمسية، وإذا تجاوزت هذه الايحاءات حاسة اللمس فوقفت عند الحدود الذوقية أو الشمية أو البصرية أو السمعية ، صنفته في الطبقة العليا التي تنتهي عندها ايحاءاته صعوداً.
على أنني قد تخطيت هذه القاعدة مع بعض الحروف، فصنفت بعضها في الطبقة الأدنى وصنفت بعضها الآخر في الطبقة الأعلى لأسباب خاصة تتعلق بطبيعة الحرف أو ببعض خصائصه المتميزة، كما سيأتي .
وهكذا توصلت إلى توزيع الحروف العربية بين الحواس الخمس والمشاعر الانسانية، فكان لكل منها حرف أو أكثر عدا حاسة الشم التي لم تختص بحرف معين وإن كان ثمة أكثر من حرف يوحي صوته بأحاسيس شمية.
وإذن، فإن هذا المنهج يتميز عن سواه من المناهج بالكشف عن الرابطة الفطرية بين أصوات الحروف العربية وبين الحواس الخمس والمشاعر الإنسانية.
أما المنهج الموازي الذي اعتمدته أيضاً في استخراج معاني الحروف من طريقة النطق بها إيماء وتمثيلاً، فإني لم اهتد إليه إلا مصادفة بعد إنجاز هذه الدراسة للمرة الأولى. وذلك عندما أخذت في مراجعة معاني المصادر التي تبدأ بحرف (الفاء). فلقد تبين لي أن تلك المعاني تتجافى مع موحيات الضعف والوهن في صوت الفاء، خلافاً لما نهج عليه العربي في تحديد معاني حروفه وفقاً لصدى أصواتها في النفس. فانتبهت إلى ظاهرة التوافق بين معاني المصادر التي تبدأ بالفاء، من شق وفصل وتوسع ، وبين طريقة النطق بهذا الحرف، كما مر معنا في بحث الجذور الزراعية في الحروف العربية(الحرف العربي والشخصية العربية ص131 ومابعدها).وكما سيأتي لاحقاً في دراسة حرف (الفاء).
ب - المرحلة الثانية:
وبعد أن أحدد الخصائص الصوتية والإيمائية التمثيلية لكل حرف على وجه مامر معنا في المرحلة الأولى، أقوم باستخراج المصادر التي تبدأ بكل حرف مع معانيها، أقوياً كان الحرف أم ضعيفاً. أما الحروف التي في أصواتها رقة وشاعرية، فلقد نهجت على استخراج المصادر التي تنتهي بها أيضاً، حيث تكون هنا أوحى بمعانيها، كما عمدت إلى استخراج معاني المصادر التي تنتهي ببعض الحروف القوية وكذلك المصادر التي تتوسطها أحرف (ظ-ص-ض-خ-ح-هـ-ع) ، وذلك للتثبت من مدى قوة شخصياتها.
وبمقارنة معاني المصادر التي تبدأ بحرف ما مع معاني المصادر التي تنتهي به، تبين لي أن تأثير كثير من الحروف في معاني المصادر يختلف بحسب مواقعه منها، وذلك لتغير تمثيلها الإيمائي أو إيحائها الصوتي في الموقعين. مما يقطع بأن العربي لم يعط أصوات حروفه قيماً رمزية محددة، ولا معاني مطلقة أيضاً، وإنما ترك ذلك لإيحاءاتها الصوتية، ولطريقة النطق بها أنى كانت مواقعها من الكلمة. وهذا يتطلب حساسية سمع ورهافة في الشعور، ونباهة وانتباها دائبين.
وهنا لابد لي من وقفة قصيرة لتوضيح نهجي في انتقاء هذه المصادر.
لقد اقتصرت تقصياتي على الأفعال أو الأسماء العربية القحّة، مما ليس مولداً بعد عصر الرواية والتدوين، أو معرّباً عن لفظ اجنبي، أو دخيلاً دون تعريب أو عامياً أو اسماً لحشرة أو نبات ليس وصفا لفعل أو اسم . ولقد اخترت من هذه الأفعال والأسماء، ماقدّرت أنه هو الألصق جذوراً بالأرومة الأم. كما اخترت من مختلف معاني المصدر الذي وقع عليه الخيار المعنى الحسي لقربه من أصالة اللفظة العربية وفطريتها، مبتعداً ما أمكنني عن المعاني المجازية وإن كانت هي الشائعة الاستعمال حالياً. وذلك لأن غالبية أرومات الألفاظ العربية قد أبدعت في عهود سحيقة تعود إلى مرحلة الرعي، اقتباساً من أشياء وأحداث محسوسة، أو انفعالات هيجانية فطرية، كما سبق ولحظنا ذلك في بحث (الجذور الغابية والزراعية والرعوية في أصوات الحروف العربية) المرجع السابق ص125ومابعدها ).
وهذا المنهج في انتقاء المصادر هو المنهج الموضوعي الصحيح، لأنه هو الألصق بواقع نشأة اللغة العربية، فعندما كان العربي يحتاج إلى التعبير عن معان معنوية مجردة في مراحل ثقافية واجتماعية متطورة لاحقة، كان يجد نفسه مضطراً إلى البحث عن اللفظة المناسبة في جذور مابين يديه من المصادر، مما يتوافر فيها رابطة ما بين الوظيفة المحسوسة للفظة وبين الوظيفة الذهنية للمعنى المجرد المراد، كما في لفظة (عقل) البعير (ربطه بالعقال) على الطبيعة، وعقل الأشياء أدركها على حقيقتها (بذهنه).
وهكذا نرى أن الرابطة الذهنية بين المعنيين تتجلى في التماثل بين وظيفة العقال في ربط البعير في موضعه، وبين وظيفة العقل في ربط الأشياء بحقائقها. فالربط إذن هو العامل المشترك بين العقل المجرد والعقال المحسوس، وما أصدقه من حدس فلسفي. وكما في غفر الشيء(ستره) ، وغفر الذنب (محاه) ، واللغة العربية مليئة بهذه الشواهد من الأمثلة. فنادراً جداً مانجد معنى مجرداً ليس مستنبطاً من معنى حسي.
وهذه الطريقة التي اتبعها الإنسان العربي بمعرض التعبير عن معانيه الذهنية، تعود أصلاً إلى استحالة تقمص هذه المعاني لإبداع الصور الصوتية الملائمة لها، على مثال ماكان يفعل بصدد الأشياء والأحداث الخارجية المحسوسة .
وهذه الظاهرة اللغوية الحسية، ليست مقتصرة على العربية فحسب، وإنما هي مشتركة بين مختلف اللغات السامية(فقه اللغة للدكتور وافي ص13-14).
وما كان أشق عملية اختيار المصادر ومعانيها. فمن ألفين وتسعمئةٍ وستين مصدراً ومشتقاً تبدأ بحرف النون عثرت عليها في المعجم الوسيط مثلا، وقع اختياري على ثلاثمئة وثمانية وستين مصدراً فقط (فعلا أو اسما) اعتبرتها مصادر. ومن المعاني العديدة المتداخلة لكل مصدر، اخترت معنى واحداً، وفي قليل من الأحيان معنيين اثنين، كما أشرت إلى ذلك في المقدمة، وكما سيأتي في دراستها.
ثم بعد أن أستخرج المصادر التي تبدأ أو تنتهي بحرف ما على وجه مابينت آنفا، أقوم بتصنيفها في جداول خاصة تجمع بين معانيها رابطة حسية أو معنوية، وذلك للتثبت من أمور ثلاثة:
أ-مامدى تطابق الخصائص الصوتية والإيمائية للحروف مع معاني المصادر المستخرجة؟.
ب-ما نسبة هذا التطابق؟ وذلك لمعرفة مدى قوة شخصية كل حرف.
ج-مامدى التزام الحرف موضوع الدراسة بطبقته الحسية؟. وإذا تجاوزها في بعض المصادر فما الأسباب؟.وهكذا فإن مطابقة الخصائص الصوتية والإيمائية للحروف العربية على معاني جميع المصادر التي تبدأ أو تنتهي بها، إنما هي ميزة موضوعية لمنهجي هذا، لم يجشم أحد من الباحثين نفسه مثل هذا العناء.
وفي الحقيقة، إن استخراج جميع المصادر الجذور التي تبدأ بحرف ما أو تنتهي به، على وجه مابينت آنفا، ومن ثم تصنيفها في جداول تجمع بين معانيها رابطة حسية أو معنوية، إنما هو عمل في غاية الدقة والإجهاد والمخاطرة والمسؤولية، يحتاج إلى فريق متكامل من ذوي الاختصاص.
ماعلة انطباع اللفظة العربية بطابع الحرف القوى الذي تبدأ به، أو بطابع الحرف الرقيق الذي تنتهي به؟:
من البداهة أن يلاحظ العربي ذوالحساسية السمعية فائقة الرهافة في بيئة صحراوية غير ملوثة بالضجيج، أنّ الحرف القوي يأخذ صوته أقصى إيحاءاته في القوة والشدة والفعالية والغلظة، عند مايقع في أول اللفظة. إذ لابد للصوت أن يشد على أي حرف يقع في أولها أكثر مما يشد عليه في وسطها، ليشد عليه أقل مايكون الشد في نهايتها.
وهكذا ، فإن الحروف ذات الأصوات الرقيقة لابد أن تكون أكثر ايحاء بالرقة والأناقة والدماثة وما إليها عندما تقع في نهاية الألفاظ. فأصواتها تكون هنا أكثر خفوتا ورقة منها في أي موقع آخر. ولهذا السبب بالذات، لابد أن يختلف تأثير الحرف الواحد، رقيقاً كان أم قوياً في معاني الألفاظ، بحسب موقعه من اللفظة كما سيأتي .
وإذن فإن الحروف التي تقع في أواسط الألفاظ تكون غالباً أقل تأثيراً في معانيها. وهذا يتفق مع ماذهب إليه العلايلي، من أن الحرف الذي زيد على الثنائي للانتقال إلى الثلاثي هو الوسط في الأعم الأغلب. أما ابن جني فقد رأى أن الحرف الوسط هو الأقوى. وذلك لأن الفعل في رأيه، يتكرر بتكراره(قسّم. علّم. درّس..)(الخصائص ج2 ص155). وفات ابن جني أن القوة تتجلى بطبيعة الفعل الأول نفسه وليس في تكراره. ليبقى رأى العلايلي هو الأقرب إلى الصحة، وإن كان لنا رأى مخالف كماسيأتي .
ولكن هل تكفي هذه الحساسية السمعية لتعليل انطباع (50-92%) من الألفاظ بالخصائص الصوتية لحرف قوى ما تبدأ به ، أو لحرف رقيق آخر تنتهي به؟.
فكيف استطاع العربي أن يبدع هذه السلسلة الطويلة من المصادر التي تنطبع معانيها بطابع الحرف الأول أو الأخير، مع المحافظة على دور بقية الحروف في توضيح هذه المعاني وتلوناتها؟؟.
كيف تسنى للعربي أن يبدع هذه اللغة على هذه الشاكلة منذ آلاف الأعوام؟.
هنا لابد لنا من التسليم برأي علماء اللغة الذين قالوا بأن اللغة العربية بدأت بأصوات الحروف، ثم تدرجت إلى الثنائي فالثلاثي، فكثيرات الحروف.
وإذن أصبح من السهل أن نتصور أن العربي عندما أبدع صوت حرف قوي، للتعبير عن معاني القوة والفعالية والشدة (د.ق.ز...) في دور المقطع البسيط من حرف واحد، قد أضاف إليه حرفاً ثانياً يساعده في تلوين معناه في دور المقطعين من حرفين اثنين. ولما كانت معاني الشدة والفعالية هي المقصودة، فلقد كان من البدهي أن يضع الحرف الجديد في آخر المقطعين. كما أن العربي أبقى حرفه القوى هذا في مقدمة المقاطع عندما انتقل به إلى الثلاثي فالمزيدات.
وهكذا كان نهج العربي مع الحروف الرقيقة، ولكن بالإبقاء عليها في آخر اللفظة كيما تكون هناك أوحى بخصائص الرقة والليونة والأناقة وما إليها. ليضع الحروف الإضافية الجديدة قبلها عبر تطور اللغة العربية من الأحادي إلى الثنائي فالثلاثي فالمزيدات. وعلى الرغم من ذلك فقد شذّ عن هذه القاعدة ألفاظ كثيرة، لم تنطبع معانيها بخصائص الحروف القوية التي تبدأ بها، أو الرقيقة التي تنتهي بها. فلم ذلك؟.
إذا استثنينا الأخطاء في نقل الألفاظ العربية في مرحلة التدوين لتصحيف سمعي، (لاختلاف اللهجات العربية في لفظ بعض الحروف)،أو لتصحيف بصري، (لافتقار كتابة الألفاظ إلى التنقيط)، فإن هذا الشذوذ يرجع في الأعم الأغلب إلى تزاحم الحروف المشاركة في اللفظة على معانيها. فقد يجتمع في اللفظة الواحدة الحرف القوى مع الضعيف، والرقيق مع الخشن، والأنيق مع الفظ الغليظ وما إلى ذلك. ولئن كانت الغلبة في كثير من الأحيان للقوة والغلظة والخشونة، فإنه قد يطغى إشعاع حرف شاعري نبيل أنّى كان موقعه، على موحيات العتامة والفظاظة والفجاجة في بقية الحروف. وشأن هذا الشذوذ في دنيا اللغة، كشأنه في دنيا المجتمع العربي نفسه، آدباء وشعراء ورجالاً مصلحين.
حول تصانيف الحروف العربية وفقا لخصائصها الصوتية:
لقد صنّف علماء اللغة العربية أصوات الحروف في مجموعات كثيرة، تارة بحسب مخارجها وتارة بحسب كيفية النطق بها، وتارة ثالثة بحسب سهولة أو صعوبة النطق بها وما إلى ذلك. على أنني سأكتفي منها جميعا بأربعٍ : هي:
1-الأصوات الصامتة والصائتة:
الأصوات الصامتة هي جميع الحروف الهجائية، باستثناء الصائتة.
والأصوات الصائته هي (الألف، الواو، الياء..). ويقال لها تارة حروف اللين، وتارة أخرى الحروف الهوائية أو الجوفية، وهي حروف غابية النشأة كما أسلفنا
2-أصوات الحروف بحسب مخارجها:
لقد أدرك علماء اللغة العربية، ولاسيّما القدامى منهم، الأهمية العظمى لهذا التصنيف فعقدوا بشأنه البحوث الطويلة لاختلافهم في مخارج بعض الحروف.
وفي الحقيقة إن تحديد المخرج الصوتي لكل حرف بدقة هو وحده الذي يحافظ على أصالة أصوات الحروف العربية، فلا يختلف عما نطقت بها الأجيال العربية الأولى، ليحافظ بذلك كل حرف على صدى صوته البكر في نفس العربي الذي استوحى منه معانيه الأصلية، فيظل هذا الحرف يوحي لنا نحن بذات المعاني، فتحافظ اللغة العربية بذلك على فطرتها. وهكذا فإننا بالمقابل نستطيع اليوم أن نحسم الخلاف الذي وقع بين علماء اللغة حول مخارج أصوات بعض الحروف، لابل وأن نصحح النطق بكل حرف. وذلك بالعودة إلى تأثيره في معاني الألفاظ التي تبدأ أو تنتهي به، كما سوف نرى في أحرف الجيم والهاء والعين. وإذن فإن هذا التصنيف الذي يحافظ على أصالة أصوات الحروف العربية من شأنه أن يحافظ على أصالة اللفظ العربي، وعلى وحدة اللسان العربي، مهما تتعدد أقطاره وتتباعد، ومهما يمتد به الزمن ويتمادى.
ولقد اعتمدت في تصنيف مخارج أصوات الحروف مااتفقت عليه الأكثرية من قدامى اللغويين لقرب عهدهم بالنطق العربي الأصيل، وإن لم يكن هو الأصوب دائماً، كما سنرى ذلك بمعرض المقارنة بين معاني الحروف وخصائص أصواتها.
ولمعرفة مخرج صوت الحرف: يسكّن ويشدّد، فحيث ينقطع الصوت يكون مخرجه. وهذه المخارج هي:
1- الأحرف الحلقية: الهمزة الهاء. العين. الحاء . الغين. الخاء. (إلا أن الدكتور أنيس يعتبر الهمزة مزمارية وليست حلقية، لتشكل صوتها عند فتحة المزمار. كما أن الفراهيدي وابن سينا والعلايلي يقدمون العين على الهاء)
2-الأحرف اللهوية: القاف. الكاف (اللهاة، تقع بين الحلق والفم).
3-الأحرف الشجرية: الجيم . الشين. الياء غير المدّية (بين وسط اللسان وما يقابله من الحنك الأعلى).
4-الأحرف الزلقية: اللام. النون المظهرة. الراء (زلق اللسان طرفه).
5-الأحرف النطعية: الطاء . الدال. التاء. (النطع هو سقف غارالحنك الأعلى.).
6-الأحرف الأسلية: الصاد. السين. الزاي(مابين رأس اللسان وصفحتي الثنيتين العُلويتين ).
7-الأحرف اللثوية: الظاء. الذال. الثاء (لخروجها من قرب اللثة).
8-الأحرف الشفوية: الفاء . الباء. الميم. الواو غير المدية.
9-الأحرف الخيشومية: النون الساكنة . النون والميم المشددان.
10-الأحرف الجوفية أو الهوائية: الألف. الواو الساكنة المضموم ماقبلها. الياء الساكنة المكسور ماقبلها (الجوف هو فراغ الحلق والفم).
3- الجهر والهمس:
الحروف المجهورة على مايؤكده الدكتور ابراهيم أنيس نقلا عن علماء الأصوات المحدثين ، هي الحروف التي تتشكل أصواتها في الحنجرة باهتزاز وتريها الصوتيين اهتزازا منتظماً. ولمعرفة ذلك يلفظ الحرف مستقلاً عن غيره. وتوضع الأصبع فوق تفاحة آدم من الحنجرة، فإذا شعرنا باهتزاز الوترين كان الحرف مجهوراً، وإلا كان مهموساً. والأمر نفسه لووضعنا الكف على الجبهة.
وقد حصر الدكتور أنيس والدكتور بشير المجهورة في الحروف التالية:
(ب. ج.د.ذ.ر.ز.ض.ظ.ع.غ.ل.م.ن.).
أما الأصوات المهموسة فهي:
(ت.ث.ح.خ.س.ش.ص.ط.ف.ق. ك.هـ).
4- الشدة والرخاوة وما بينهما:
يقال لصوت حرف ما إنَّه شديد، إذا كان النفّس معه ينحبس عند مخرجه. وذلك بضغط الأعضاء التي تحدثه على بعضها. حتى إذا انفصلت فجأة، حدث الصوت كأنه انفجار، كما في انفراج الشفتين الفجائي في صوت الباء. ويسميها الدكتور بشير الحروف الانفجارية. وهي حسب رأيه:
(أ.ب.ت.د.ط.ك. ق).ويضيف الدكتور أنيس إليها حرف (ج) القاهرية.
والحروف الرخوة هي التي لاينحبس فيها النفّس. وهي مرتبة بحسب درجة رخاوتها: (س.ز.ص.ش.ذ.ث.ظ.ف.هـ. ح. خ) ويسميها الدكتور بشير الحروف الاحتكاكية. كما يضيف إليها حرفي (ع.غ)
وأما الحروف المتوسطة بين الشدة والرخاوة فهي:
(ر. ع. ل. م. ن.). (الأصوات اللغوية ص19-26).
على الرغم من أن إيحاءات أصوات الحروف تتأثر إلى حد ما بشدتها ورخاوتها، أو بجهرها وهمسها، فإن المبادئ النطقية التي اتخذها علماء اللغة والأصوات في تصانيفهم لتقرير ماإذا كان صوت ما شديداً أو رخواً، قد لاتتوافق عمليا مع إيحاءاتها السمعية. فصوت حرف (التاء) مثلاً، وهو من الحروف الانفجارية، هل هو أشد وقعاً على السمع من أحرف الذال أو الظاء أو الزاي، وهي من الحروف الرخوة؟. وأصوات هذه الحروف الثلاثة هل هي أكثر إيحاء بالرخاوة من أصوات حرفي اللام والراء؟.
التصنيف الذي اعتمدته تبعاً لإيحاءات أصوات الحروف الحسية والشعورية وطريقة النطق بها.
هذا التصنيف إنما هو نتيجة حتمية لمقولة (فطرية اللغة العربية) التي خلصت منها سابقاً، إلى أن أصوات الحروف العربية لابد ان توحي بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية .
وهكذا فإن الرهان على فطرية اللغة العربية ينقلب إلى الرهان على صحة هذا التصنيف الجديد.
ولابد لي هنا من التذكير مرة أخرى بصعوية استخلاص الخصائص الحسية أو الشعورية من أصوات الحروف. لذلك من المستحسن أن يردّد القارئ صوت الحرف موضوع الدراسة بشيء من التفخيم، المرة بعد المرة، وأن يتأمل صداه في نفسه وحبذا لو يسجل ذلك على شريط. ومن المفيد أن أنبه الآن أنه قد يكون لصوت الحرف الواحد ايحاءات حسية وشعورية مختلفة، نظراً لتعقد عملية النطق به واعتماد تشكل صوته على مساحة واسعة وفراغات متعددة في جهاز النطق. إلا أنني قد صنّفت الحروف تبعاً للخصائص الحسية أو الشعورية الغالبة فيها، أو وفقا لطبيعتها الصوتية الخاصة، أو حسب طريقة النطق بها، مشيراً إلى ذلك حينا وساكتا عنه حيناً أخر.
أ-الحروف اللمسية ت. ث. ذ. د. ك.م).
ب-الذوقية: (ر.ل)
ج-الشمية:.........
د-البصرية : (الألف المهموزة واللينة، ب.ج. س. ش. ط.ظ. غ.ف. و. ى)
هـ-السمعية: (ز.ق)
و-الشعورية غير الحلقية: (ص. ض. ن)
ز-الشعورية الحلقية : (خ. ح. هـ. ع)
يلاحظ في هذا التصنيف أنّ حاسة الشم لم تختص بأي حرف لتعبربه عن أحاسيسها، إلاّ أن هناك كثيراً من الحروف التي في أصواتها بعض الأحاسيس الشمية كما سيأتي
كما يلاحظ كثرة الحروف البصرية واللمسية والشعورية ، وقلة الحروف السمعية، ليصدق في ذلك قول المثل العامي(الإسكافي حافي، والحائك عريان)
وهذه الظاهرة ترجع في حقيقة الأمر، إلى أن أصوات الحروف قد أبدعها العربي للتعبير عن حاجاته المادية والمعنوية. ولما كانت هذه الحاجات المتصلة بالطبيعة (العالم الخارجي) وبالمشاعر الإنسانية (العالم الداخلي)، هي أوفربما لايقاس، مما يتصل منها بالأصوات، فقد كان من البداهة والعدالة ، أن تأخذ الحواس والمشاعر الإنسانية من أصوات الحروف على مقدار حاجتها.
على أن اقتصار الحروف السمعية على حرفي (الزاي والقاف) في هذا الجدول، لايعني بداهة وقف التعبير عن معاني الأصوات على هذين الحرفين، وإنما يعني فقط أن الإيحاءات الصوتية هي الغالبة على خصائصهما الحسية. فلقد استعان العربي بكثير من أصوات الحروف للتعبير عن الأصوات التي تحاكيها في الطبيعة ولاسيما أحرف (ص.ن.ع.ح.هـ) ولم تصنف سمعية لغلبة الخصائص الحسية أو الشعورية الأخرى على طبيعتها .