نور الجندلي وأقمارها البغدادية
نظرة في أثر الميول
بقلم الناقد المصري : محمود توفيق حسين
***
رواية "أقمار بغدادية" لكاتبتِها نور الجندلي[1] هي حكايةٌ يَرويها بطلُها طارق البغداديُّ، الابنُ البكْر لأسرةٍ عراقيةٍ بسيطةٍ نزحتْ من بغداد إلى دمشق، تتكوَّن من أبٍ وأمٍّ متعلِّمَين ومكافحَين يَنتمِيان للطَّبقة الوسطى، وثلاثةِ أبناءٍ هم: طارق البكر الَّذي في سبيله لدُخول الجامعة، وهو الرَّاوي، وابنان، أحدهما وُلِد منغوليًّا، والآخر لا ينام إلاَّ قليلاً، ضحيَّتان للحرب على العراق، أو عبئان.
ولغة النَّصِّ هي لغة طارق المناسبة وليست لغةَ نور الجندلي؛ إذ لم يكن همُّ الكاتبة هو الصّياغة بما في الكلِمة من دلالةٍ على الصَّنعة والضَّبط، إنَّما كان همُّها استِنطاقَ هذا الشَّابِّ البسيط المتخيَّل، الهارب من الموت والهزيمة والمجهول إلى المجهول وحده، شابٌّ يتناول (مضارعه)، فلا هو مهْووس بالتَّاريخ ولا هو يُطارد المستقْبل، إنَّه يتعايش ويطوِّر وسائله إلى البقاء.
ولكلِّ نصٍّ علاقةٌ خاصَّةٌ بالمؤلِّف قد يمكن فكُّ شفرتها من خلال الأدوات النقديَّة وقد لا يمكن ذلك، هذا حتَّى بصرف النَّظر عن مساحتي التَّخطيط والتلقائيَّة في النصِّ - أي نصّ - اللَّتَين تتنازعان على إدارة الأحْداث، ولستُ هنا بصدَد مناقشة التَّخطيط والتِّلْقائيَّة في نصِّ "أقمار بغدادية"، وليستِ القضيَّة الَّتي يُثيرها النَّصُّ في ذِهني تتعلَّق بالغموض والإبهام، فالرِّواية واضحةٌ حدّ الشفافية في شخوصها ومساراتها، والتِّلقائيَّة والوضوح لا ينفِيان هذه العلاقة الخاصَّة بين المؤلِّف ونصِّه، ولا يعملان ضدَّها؛ إذ غالبًا ما تكون العلاقة الخاصَّة هي انعكاسٌ لنزعات الكاتب وميولِه غير الخاضعة للتَّخْطيط.
وقد تكون دمشق نفسُها هي الأساس في حلِّ الشفرة، حبُّ دمشق هو ميلٌ واضحٌ وملِحٌّ لدى الكاتبة السوريَّة، يجعل من دمشق مسرحًا مثاليًّا لتحْريك شخوصها المثاليِّين والعاديّين والفوضويين بشكلٍ طبيعيٍّ، إنَّها تستطيع أن تصنع الملائكة والشَّياطين والبين بين على تراب دمشق، والمفكَّر فيه أو المخطَّط هو بغداد كبيئةٍ ملهمةٍ ومصدِّرةٍ للحدث، حدث النّزوح، وتعاطُفها وانتِصارها للنَّازحين من بغداد يمكن النَّظر إليه من إحدى النَّواحي كشكلٍ متسامٍ من أشكال تعْبيرها عن افتِتانِها بدمشق.
والرّواية تنتمي لأدَب المنفى، والجديدُ فيها هو أن يتكلَّم المضيف عن المنفيِّ، يحاول أن يستنطِقَه ويتفهَّم مخاوفه ونفورَه وانكِفاءه، وكذلك حيل التكيُّف لديه.
ومحاولات الكتابة عن المنفيِّ تحديدًا من قِبَل المضيف هي محاولاتٌ قليلةٌ إذا ما قورنت بطبيعة الحال بكتابة المنفيِّ عن نفسه، وهي كذلك أقلُّ نجاحًا منها؛ إذ تمثِّل الكتابة عن المنفيِّ من قبَل المضيف تحدّيًا بشكلٍ أو بآخر للذَّات؛ إذ إنَّ بعض الذين يربِّتون على أكتاف الآخرين غالبًا ما تتولَّد لديهم حالاتٌ نفسيَّةٌ تعمل في الاتجاه المعاكس للذَّوبان والقبول والانخراط، أنا أعطف عليْك ولكنِّي سأُحافظ على ألاَّ أكون أنت.
ولذا؛ فيُلحظ في بعض النصوص الإبداعيَّة التي تعاملتْ مع الآخر المنفيِّ أو المهاجر، وتَماهتْ فيه وفي متاهاته النفسيَّة ونُسقه الاجتماعيَّة الرثَّة، يُلحظ أنَّها تحوي معادلاً وطنيًّا للحفاظ على الهويَّة والتَّأكيد على الضيافة المشروطة، وقد تغلَّبت الكاتبة على هذه المعضلة تغلُّبًا واضحًا، معضلة القبول المحدود والمستريب والدفاعيِّ، بقوَّة الثوابت الدينيَّة عندها، وبالبساطة الإنسانيَّة، بل بدا لي الأمر وكأنَّ المعضلة لم تكن موجودةً أمامها أثْناء الكتابة، ممَّا ارتقَى بنصِّها على ما قد يُصيب بعض النصوص المكتوبة في فضاءاتٍ أخرى عن الأجنبيِّ الفقير، التي بها شفقةٌ مخلوطةٌ بشيءٍ - ولو قليلاً - من الاشْمئْزاز، وهي موجودةٌ حتَّى في نصوص يساريَّة الطَّابع تتعامل مع الأجنبيِّ في الفضاء الأوربيِّ، وهذا يحقِّق انتصارًا أخلاقيًّا للسرْد الإسلامي على السَّرد الغربيِّ، أتمنَّى لو أكَّدتْ عليه نصوصٌ أخرى تبرز المفاهيم الإسلاميَّة الأصيلة عن بلاد الله الواسعة المفتوحة لعباد الله؛ ليضربوا فيها بحثًا عن الكسب والأمن والكرامة، وأتمنَّى دعم هذا بانتصار فنّيٍّ؛ إذ إنَّ أفضل طريقةٍ لتأكيد وصول الرَّسائل الأدبيَّة الأخلاقيَّة هو أن تُبعث في ظرف فنّيٍّ يليق بها، حتَّى يمكن أن تكون رسائل الأدب الإسلاميِّ هي رسائل بـ(علم الوصول).
والجديد أيضًا في هذا النَّصِّ عن المنفىِّ هو الغياب التامُّ للطَّرح الجنسيِّ، الَّذي يكاد يكون ملمحًا أساسيًّا وخبزًا لعوالم النَّفي في الأطروحات الإبداعيَّة شرقًا وغربًا، إن أحسنَّا الظَّنَّ قلنا: إنَّ بعض الأدباء يعكس به هذا الاهتِراء الشَّديد الحادث في البِنية الاجتماعيَّة للمنفيِّين ومنظومة قيمهم، وغياب شروط الخصوصيَّة في مآوِيهم العشوائيَّة، لا شيءَ من هذا على الإطلاق في نصِّ نور الجندلي.
بشَّرتْ نور الجندلي بنصِّها هذا بأدب منْفى نظيفٍ لا حاجة فيه للجِنْس والابتِذال، ولعلَّها لم تقصِد أن تؤسّس لذلك، إنَّما هي ميولها إلى الحياة النَّظيفة والكتابة العفيفة القائِمة على تجاهُل الرَّذيلة، طالما لم يكن هناك حاجةٌ سرديَّةٌ وفنيَّةٌ للاقتراب منها ومن جيوبها، نور الجندلي في أدبِها القصصي عامَّةً لا تلج العوالم السفليَّة، وإذا اقتضت الحاجة فإنَّها تمرُّ من جانبها وليس فيها، وبخُطى أسلوبيَّةٍ سريعةٍ.
والجديد والغريب في هذا النَّصّ هو أنَّنا لم نتعرَّف على عراقيّين داخل سوريا باستِثْناء هذه الأسرة العراقيَّة الوحيدة، الَّتي لم يبحث أيٌّ من أعضائها عن مركزٍ من مراكز تجمُّع العراقيّين ومقاهيهم، كما يحدث من بني الوطن الواحد في الغُربة، خصوصًا المنفيِّين، وهي نقطةٌ مثيرةٌ للتأمُّل وتستحقُّ الدراسة، فهل خطَّطتْ نور الجندلي لذلك وتعمَّدته؟ أم أنَّ ميلها الطبيعيَّ المتمثِّل في حبِّها الشَّديد لدمشق جعلها تقبل بكلِّ أريَحيَّةٍ بعراقيِّين في دمشق ولا تقبل بمجتمعٍ عراقيٍّ في دمشق، وقدَّمتْ لبطلها طارق منتدى عراقيًّا على الشبكة العنكبوتيَّة يمتصُّ طاقته الانتِمائيَّة؟ أم أنَّ ميلها الطبيعي للأُسرة كوحدةٍ بشريَّةٍ تامَّةٍ وملخِّصةٍ للمجتمعات الإنسانيَّة، والنموذج الأكثر راحةً للعلاقات الإنسانيَّة؟ أو أنَّ أديبتَنا كما يقال بالعاميَّة: (بيتوتيَّة)؛ ممَّا جعل اختِيارها للأسرة العراقيَّة كافيًا للتَّعبير عن المجتمع العراقي بالمنْفى ولا يتعلَّق الأمر من قريبٍ أو بعيدٍ بالهاجس الوطنيِّ أو الخطط السرديَّة المتعمَّدة؟
والرواية - إذًا - تنتمي لأدب المنفى أو أدب اللجوء، ولا تنتمي لأدب المقاومة أو أدب النّزوح، وثمَّة نصوصٌ أدبيَّةٌ قد اتسعتْ قماشتُها لتشمل المقاومة والنّزوح واللّجوء معًا وبغير اضطرابٍ، لكن هذا الاشتمال ليس شرطًا من شروط الكتابة الصَّادقة والمؤثِّرة عن المنفيّين، لكن في المجمل، وبالنَّظر إلى أرفُف مكتبة الرّواية العربيَّة، فإنَّ تلك المكتبة تفتقر إلى حدٍّ كبيرٍ إلى أدب النّزوح، ويمكن أن يُقال: إنَّ هناك نقصًا ما في أدب اللّجوء، رغم أنَّ الخارطة العربيَّة مرَّ عليها النّزوح وتحرَّك منها وإليها اللّجوء، حتَّى من قبل عام النَّكبة، وشاهدتْ حالاتٍ أخرى حديثةً نسبيًّا للنّزوح واللّجوء لم تأخذ حقَّها في التَّأثير في الضَّمير العربي.
وقد يبرِّر قلَّة الإبداع المعبِّر عن النّزوح، إذا ما قارنَّا الأدب العربيَّ بآدابٍ أخرى استفزَّت أقلام مُبْدِعيها حالات النّزوح بثرائها النفسيِّ وتداعِياتها الإنسانيَّة، قد يبرِّره كون النّزوح حالةً مفصليَّةً بين الحرب واللّجوء، أو بين التصحُّر واللّجوء، تحتاج إلى شيءٍ من التَّوثيق الَّذي يدعم المبدع، وتحتاج إلى نوعيَّةٍ معيَّنةٍ من القرَّاء لها اهتمامٌ خاصٌّ بالملفَّات الإنسانيَّة، ولعلَّ القارئ العربيَّ يُولي اهتمامًا خاصًّا بالأرض أو البيئة الثَّابتة كمسرحٍ لأحداث الرّواية تُزاحم الأبطال في الحضور وفي صناعة الإيحاءات والأجواء، ولا يهضم كالقارئ الغربيِّ مثلاً أن تكون الأرضُ التي اعتاد بطولتها مجرَّد معبرٍ يحثُّ الأبطال الخُطَا لقطعه.
ملحوظةٌ: أنا أتكلَّم عن الذَّائقة العربيَّة بشكلٍ عامٍّ، وأتكلَّم عن فنِّ الرِّواية الحديث، فسيرة بني هلال وتغْريبتهم الشَّهيرة كفيلةٌ بنسْف وجهة نظري على الأقلِّ من ناحية التلقِّي، فلها نصيبٌ من الشعبيَّة في أوساط البسطاء خارج المنافسة، لكنَّ سيرة بني هلال لا تنتمي لفنِّ الرّواية الحديث، ومن ناحيةٍ أُخرى، فنزوح بني هلال ليس حالة انتقالٍ في الجغرافيا بقدر ما هو نمط حياةٍ.
في نصِّ "أقمار بغدادية" تمَّ التَّعبير عن النّزوح بعبارةٍ واحدةٍ: "أنا الَّذي أحصيتُ خطواتي من بغداد إلى الشَّام، فرأيت في كل خطوة دعوةً للحياة، ودعوةً للموت أيضًا".
هذا هو، وقد كانت عبارةً قويَّةً تحتاج إلى شيءٍ من التَّأييد الَّذي تقدِّمه الصورة المسترجعة، حينما يعود البطل إلى الصُّور التي علقتْ بذاكرتِه للشَّمس واللَّيل والعراء والرّطوبة واللهاث والقلق من الأصوات البعيدة على الطَّريق بين بغداد ودمشق، وتمَّ التَّعبير عن المقاومة بفقرةٍ مخطَّطةٍ لتأْكيد وطنيَّة تشْكيل المقاومة وللتَّعريف بأهْدافِها والدِّفاع عن سمعتها: "المقاومة تشكَّلت من أبناء العِراق المخلصين لمقاومة الاحتِلال الغاشم، هدفها تطْهير البلاد من دنسهم، وهدفُها أيضًا حماية الأبرياء لا قتلهم، وهي مستمرَّة حتَّى النَّصر المبين بإذن الله .. لكن ما تقوم به بعض الحركات المشْبوهة من قتْل للأبرياء وتفجيرات، وترْويع للنِّساء والأطْفال، فالمقاومة بعيدة عنْه كلّ البعد، لكن ما يحدث يستهدف أن تتزعْزع صورتها في عيون النَّاس، وأن تشوَّه صورتها، ولكن أنَّى لهم ذلك؟! فالعِراقيّون يدركون حتمًا مَن معهم ومَن هو ضدّهم".
وظنّي في كون الكاتبة قد اختارتْ بشكلٍ تلقائيٍّ أن يكون نصُّها عن حالة اللّجوء هو هذا الحبَّ الَّذي تكنُّه للمدينة الملجأ: دمشق، فكي يتَّسع النَّصّ لدمشق، كان عليه أن يضيق بالمقاومة الداخليَّة والنّزوح، ومع هذا، فقد صنعت توازُنًا ما في نصِّها الروائي بين مدينة الفرار ومدينة القرار، بغداد ودمشق، وتساوقَ هذا بشكْلٍ أو بآخر مع إشارتِها للبطل صلاح الدين الأيوبي: "أنا جندي مكسورٌ سيفه، قد أتى من مسقط رأْس صلاح الدّين الأيوبي، ليستقرَّ به المقام قرب مدفنه"، فقد خرج صلاح الدين الأيّوبي من العراق ودُفِن بدمشق.
ولقد أفلحت الكاتِبة في خلق حالة من الاستغراب بين البطل (طارق) ودمشق المدينة الملجأ، توارتْ خلف بطلها البغداديِّ، ولم تتكلَّم نيابةً عنه إلاَّ قليلاً، ولقد كانت الشُّرفة هي تعبيرٌ عن مطلِّ طارق على دمشق؛ لذا لم يذُبْ في دمشق منذ اللَّحظة الأولى تحت تأثير حالة الخوف التي تَنتاب الغريب، الشُّرفة ليست للمتعايشين بشكلٍ كاملٍ، هكذا أفهم الأمر.
"على شُرفة بيتنا الهادئ في دمشق، وقفتُ أرقبُ رحيل نهارٍ جديد".
"وفي جانب الصَّالة باب مفتوح على شرفة صغيرة جميلة، تظهر بعض شوارع دمشق بحيويَّتها وباعتها ودفئها".
"خائفٌ أنا من السقوط، من الخوف بحدّ ذاته، بغدادي يجوب شوارع دمشق بخطوات قلقة، هاربًا من المجهول".
"واقفٌ أنا على شرفة الفجر بأمل، أراقب دمشق تتألَّق بأنوارها".
وقد تحاشت الكاتبة الدمشقيَّة المضيفة بشكلٍ أو بآخَر استخدام تعبير الغربة، عبَّرتْ عن الغربة بدون استِخدام اللفظ، المرَّة الوحيدة التي استخدمتْ فيها هذا اللَّفظ كان من باب التَّعبير عن تلاشي الشعور بالغربة: "وفي اليوم التَّالي أتْحفتْنا أخرى بطبق من الفتَّة الشَّهيَّة أرسلتْه مع ابنتِها الصَّغيرة، وقد لقَّنتْها كلمات لطيفة لائقة لترحِّب بنا، وسريعًا توطَّدت العلاقة بيْننا وبينهم سريعًا، وتلاشى جدار الغربة القاسي عن وجه أمّي".
عن الموت والحياة، يمكننا أن نقول: إنَّ نور الجندلي ليس لديها هذا الرعب الوجوديُّ من الموت، هي تنظر في هذا النَّصّ للموت باعتِباره معادلاً للطُّمَأنينة والأمن، بل وللحريَّة، تقول في بدايات النصِّ على لسان طارق وهو يَحمل صورة جدِّه المعلَّقة: "اقتلعت بقايا الزَّجاج عنها، وقبَّلت جبين جدّي الذي كان مبتسمًا هادئًا على غرارِنا.. حملت الصّورة ووضعْتُها داخل الخزانة"، هذا الجَدُّ لا نعرف عنه شيئًا، هو غالبًا راحلٌ عن الدّنيا قبل الحرْب والاحتراب؛ لذا فالبطل تمسَّك بمن لا يخسر شيئًا بسبب الحروب، الميِّت في هذه اللَّحظات هو الوحيد الَّذي لا يمثِّل عبئًا، فيما نشعر بأنَّ أعضاء الأسرة هم أعباءٌ عند طارق لسبَبٍ يشملهم جميعًا، وهو أنَّهم أحياءٌ، وبصفة خاصَّةٍ أخواه، بل يبدو كما لو كان هو نفسه عبئًا على نفسه، وهذه النَّظرة للموت كذرْوة الحريَّة تتبدَّى في هذه الكلِمات: "تنتابُني الغصَّة، كلّ لحظة؛ وأنا أفكِّر بأعداد الضَّحايا الَّتي تزداد!
لا أقصد عددَ الشُّهداء منذ بداية الحرب، والَّذين احتسبتْهم إحصائيَّات الأمم المتَّحدة، ولا الَّذين اكتُشف وجودُهم قتلى في مقابر جماعيَّة مريعة.
ولا الَّذين ماتوا في العتمة، بأساليب شتَّى: في السجون والسَّراديب وبقع الظلام!
لا أفكِّر في هؤلاء كثيرًا؛ فقد نالوا شرف الشّهادة وارتاحوا من عناء الحياة تحت جنح الظلم".
وهؤلاء هم العبء: "ولكن يخنقني التَّفكير في المليون أرملةً اللَّواتي يعشْن الآن في غصَّة الفقد، وفي كم الأطفال المشرَّدين وغيرهم من المشوَّهين والمعوّقين والأيتام، وكلّ مَن حُرِموا طعم الحياة في ظلِّ وطن"؛ الحيُّ عبءٌ على نفسه في هذه الظروف، بما قد تفرضه عليه المستجدَّات من تغييرٍ سريعٍ وانهياريٍّ، الحياة هي احتمال الانهيار والتحوُّلات البائسة: "هناك ولدت لي شخصيَّة جديدة لا أعرفها، الصَّوت مختلف، والملامح مستَهْجَنة، المكان والزَّمان، العمل الَّذي بدأ يصبح جزءًا منّي، كلّ ذلك حاصرَنِي بوحشيَّة، وبدأ يأكُل قلبي من الدَّاخل، ولم أجد حلاًّ حينها سوى التَّجاهُل وغضّ النَّظر عن تلك الانهِيارات الَّتي تحدث داخلي".
أبطال الرواية غير استِثْنائيّين، ولا هم ممَّن يُنتظر منهم مساهمةٌ لافتةٌ في صناعة أحداثٍ تحريريَّة كبرى، وطارق نفسه بطل الرّواية ليس أكثر من عراقيٍّ واحدٍ ليس حزبيًّا ولا مسيَّسًا ولا من حملة السّلاح، هو قرَّر أن يكون جيِّدًا ليساهم بالمساهمة المتوقَّعة من شخصٍ واحدٍ في صناعة عراقٍ جيِّدٍ، حتَّى مشاركته في المنتدى العراقيِّ على الشبكة العنكبوتيَّة هي نوعٌ من الممارسة الَّتي لا تشير في القصَّة إلى أيّ أفقٍ، ويُلاحَظ حتَّى أنَّ طارق العراقيَّ تعرَّف على المنتدى عن طريق الفتاة السوريَّة، وقد يشير هذا الحلُّ الجانبيُّ إلى ميول الكاتبة نفسِها، فهي تُعتبَر كاتبةً نشطةً على الشَّبكة العنكبوتيَّة، وقد يشير إلى وجود الكاتبة على ضفاف الدَّعوة، والدعويون عمومًا يشغلهم البحث عن حلولٍ للنَّاس، وقد يشغل الدعويُّ الرّوائيُّ إيجاد حلولٍ لأبطاله، وقد لا يُناسب الدعويَّ الروائيَّ النهايات المفتوحة الَّتي لا تشبع ميله لوضع الحلِّ السليم من وجهة نظره.
وبالنّسبة لمن لَم يحملوا همَّ الدعوة، الرّوائيين غير الدَّعويين، والقرَّاء غير الدعويين، غير المسكونين بطرح الحلول الكبرى والصغرى، قد لا يرون حاجةً إلى طرح هذه النقطة بالرواية، وقد يرون أنَّه قد كان على الكاتِبة أن تعمِّق هذا الأمر أكثر من هذا، لينتقل من صيغة الحلِّ المباشر إلى صيغة المغزى العَميق، وتضفي على وجود الرَّجُل على الشَّبكة بعدًا مثيرًا من خلال الرَّمز أو الإيحاء، كأن يرمز إلى مُحاولة العراقيّين توحيد وطنِهم الَّذي تمزَّق على الأرض، يوحِّدونه من خلال هذا العالَم الافتِراضيِّ، أو الضَّرب على وتر (الشجاعة) التي تتيحها الشَّبكة لشابٍّ عراقيٍّ ليس بطلاً وليس نذلاً، لا يُمكنه أن يُمارس الشَّجاعة داخل مجتمعٍ مفخَّخٍ، قد يقابله الموت فيه على أيّ ناصيةٍ، فيما لا يُمكن لأحدٍ أن يقصفه في المنتدى مهْما اختلف معه.
ولكن يمكن القول بأنَّ الرّواية تحتفي بالنَّاس الطبيعيّين البُسطاء ذوي الإمكانيَّات المعقولة، وتَحتفي بقدرتِهم المثيرة للتَّعاطُف على لَملمة شتاتِهم وإعادة بناء أنفُسِهم، وقد نزحوا من وطنٍ ذاق الويل من فكرة البطل الأسطوريِّ.
ــــــــــــــــــ
[1] هي نور محمد مؤيد الجندلي، من مواليد مدينة حمص بسورية 1978م، حاصلة على إجازة في الأدب العربي، وعضو رابطة أدباء الشام، نشرت قصصها ومقالاتها في عدَّة مجلات ومواقع أدبية عربية، ولها عدة أعمال مطبوعة، منها قصص تربويَّة وتعليميَّة للأطفال، نالت جائزة دار الفكر للإبداع الأدبي عن روايتها "قلوب لا تموت" للعام 2007م.