الثقافة والاقتصاد والسياسة، أيها يصنع المجتمع؟!
أسامة عكنان
الاقتصاد يصنع الثقافة ويشكلُ بالنسبة لها بناءً تحتيا.. هذه هي "الرؤية الماركسية"..
الجنس هو الذي يصنع الثقافة ويشكل بنيتَها التحتية.. هذه هي "الرؤية الفرويدية"..
السياسة هي التي تصنع الثقافة، ومنها ننطلق لتغييرها.. هذه هي "رؤية كل الانقلابيين في العالم"..
كل هؤلاء يريدون تغيير الثقافة ويؤسسون لعلاقتها بمكونات الواقع الموضوعي، وإن كانت منطلقاتهم لذلك التأسيس متباينة..
لم يشأ أيٌّ من هؤلاء أن ينتبه إلى نقطة غاية في الأهمية في علاقة البنية التحتية بالبنية الفوقية في المجتمع.. ألا وهي أنها علاقة تفاعلية قائمة على مبدأي "التأثُّر" و"التأثير" في الوقت ذاته..
من هالهُ الظلم الاقتصادي، رأى فيه سببا لثقافات الخوف والذل والفساد، وهذا صحيح..
لكنه أغمض عينيه عن حقيقة أن العدل الاقتصادي لن يتحقق إلا بثقافة "كسر حاجز الخوف"، وبالتحرر من ثقافة "الذل"، وبمحاربة ثقافة "الفساد"..
أي أنه لم يرد أن يرى الجانب الآخر من المعادلة، وهو أن الثقافة التي نتجت عن اقتصاد سابق، يجب أن تتغير كي تُنتج اقتصادا لاحقا..
وإذن كيف يمكن للثقافة أن تتغير لتصنع اقتصادا، إذا كانت – كما يقول الماركسيون – هي نتاج الاقتصاد وليست منتجة له؟!
ومن هالتهُ العقد النفسية الناجمة عن لوثة جسدٍ مأزوم، وهالهُ الحرمان والكبت الجنسيين، رأى في الأعضاء الجنسية سببا لثقافة "الذل والاستعباد"، أو لثقافة "الحرية والانطلاق"، وهذا صحيح..
لكنه أغمض عينيه عن حقيقة أن الحرية لن تتحقق إلا بثقافة "رفض الاستعباد"، وأن الاستعباد لن يتحقق إلا بثقافة "العجز عن حماية الحرية"..
أي أنه لم يرد أن يرى الجانب الآخر من المعادلة، وهو أن الثقافة تصنع المجتمع اللاحق بحلاله وحرامه وعقده وترابطاته، مثلما يمكنها أن تكون ناتجة عن كل ذلك في مجتمع سابق..
وإذن كيف يمكن للثقافة أن تتغير لتصنع مجتمعا بحلاله وحرامه، إذا كانت – كما يقول الفرويديون – هي نتاج الحلال والحرام وليست منتجة له؟!
ومن رأى عمق الاستبداد السياسي وتجذُّر أدوات السلطة المهيمنة والقامعة، رأى في السياسة سببا لكل الثقافات السلبية، وعلى رأسها ثقافة عدم التجاوب مع أيِّ ثقافة إيجابية..
وهذا صحيح إلى حدٍّ بعيد..
لكن من يرى ذلك يتجاهل عن قصد وعمد، أن كل الثورات الاجتماعية قامت ضد أنظمة سياسية لم يبق في جعبة استبدادها شيءٌ لم تفعله..
أي أن ثقافة الثورة لم تتكامل إلا في ظل هكذا أنظمة سياسية استبدادية..
وهو ما يعني أن ثقافة ما غير تلك التي نتجت عن السياسة السابقة هي التي صنعت السياسة اللاحقة..
وإذن كيف يمكن للثقافة أن تتغير لتصنع سياسة ونظاما سياسيا جديدين، إذا كانت – كما يقول الانقلابيون – هي فقط نتاج السياسة وليست منتجة لها أيضا وبالقدر نفسه؟!
عندما يكون الاقتصاد - وفق الرؤية الماركسية - أو الجنس - وفق الرؤية الفرويدية - أو السياسة - وفق الرؤية الانقلابية - في حالة سيرورة لإنتاج ثقافة ما، فإننا نستشعر حالة التأثير التي تحدث في الاتجاهات "اقتصاد - ثقافة"، و"جنس - ثقافة"، و"سياسة - ثقافة"..
ولكن عندما تكون الثقافة في حالة سيرورة لإنتاج "اقتصاد" ما، و"منظومة حلال وحرام" ما، و"نظامٍ سياسي" ما، فما الذي يكون يفعل فعله، في الخفاء لينتج تلك الثقافة الجديدة؟!
هذا هو سر معادلة التفاعل بين عناصر البنية المجتمعية "ثقافة"، "اقتصاد"، "سياسة"..
وإذن فأين التشخيص الصحيح والدقيق والموضوعي؟..
أيُّ شكل من أشكال العلاقة بين "التحت" و"الفوق" هو الشكل الصحيح؟..
هل هو ذلك الذي اكتشفه ماركس في "عناصر الإنتاج" و"علاقات الإنتاج" و"صراع الطبقات"..
أم هو ذلك الذي اكتشفه فرويد في "تحليله النفسي القائم على محورية الرغبة الجنسية في صناعة السلوك الإنساني"، وبالتالي في صناعة السلوك الجماعي بحلاله وحرامه وتقاليده وأعرافه الجمعية..
أم أنه لا هذا ولا ذاك، بل هو كامن في بندقية ذلك المتمرد الذي يرى في إسقاط رئيس دولة بطلقة في رأسه، ممارسة صحيحة لأنها تنهي كل شيء، وتعيد الأمور إلى سياقها الصحيح بشكل تراجيدي لا يضيع الوقت؟..
كلما كنا عاجزين عن قراءة طبيعة الحركة المجتمعية في سيرورتها التاريخية، كلما كنا أعجز عن وضع التصورات الصحيحة لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين مُكونات المجتمع ومختلف بُناه تحتية كانت أو فوقية..
في حقيقة الأمر، هناك نوع من النشوة المعرفية تصيب هؤلاء الذين يعشقون استخدام مقولات مثل "البنية التحتية" و"البنية الفوقية" في المجتمع، وهم يستخدمونها بمنتهى التبسيط والتسطيح، لتأصيل حركةٍ تُعتبر من أعقد الحركات الكونية، هي حركة التاريح، وسيرورة المجتمعات.. لا يحتاج الأمر إلا إلى وقفة متجردة كي ننتبه إلى واقعة أن مفاهيم مثل "البنية التحتية للمجتمع" أو "البنية الفوقية للمجتمع"، هي مفاهيم لم تعد صالحة ولا ممكنة بشكلها المسطح ذي الاتجاه الواحد، لتفسير الحركة في سياقاتها التي نعايشها..
فالسؤال عن أيهما يؤثر في الآخر، "التحت" أم "الفوق"، يكون سؤالا له معنى، عندما نكون بصدد إنشاء مجتمع لم يكن له ماضٍ في التاريخ، أي أنه مجتمع يبدأ من الصفر، تماما مثل البناء الذي نؤسس لطوابقه العلوية بأساسٍ متين تحت الأرض..
أساس هو البناء التحتي لأنه البداية الفعلية للمبنى كله، ما يجعل لمقولة "التحت" و"الفوق" حضورا موضوعيا أثناء التأسيس وربط جانبه هذا بجانبه ذاك..
ولكن ونظرا لأن مثل هذا المجتمع غير موجود في زماننا الحالي، ولا في أيِّ مكان على سطح هذا الكوكب، فإن الإصرار على تأطير تصورنا للحركة المجتمعية من خلال "التحت" و"الفوق"، هو إصرار يضيع وقتنا، ويبعدنا عن جادة الصواب، مادمنا سنؤسِّس إذا أسّسْنا وفقه، بالاستناد إلى عناصر غير موجودة ولا متاحة..
فبعد اللحظة الأولى في التاريخ المجتمعي، وهي اللحظة التي لم تعد موجودة، والتي لا تهمنا ولا تعنينا لأنها إيغال في تاريخ غير واضح المعالم، ولا يمكن التأسيس عليها، نكون على الدوام بصدد بناء مجتمعي تتحرك فيه عناصر "الثقافة" و"السياسة" و"الاقتصاد" وتنمو بشكل تفاعلي، على النحو التالي..
سياسة تؤثر في الاقتصاد والثقافة، وتدفعهما إلى فضاءات معينة..
في مرحلة معينة من هذا التأثير، وبسبب مكونات أصيلة وطبيعية في بنية الحركة التاريخية ونواميسها، تبدأ أجِنَّةُ ثقافةٍ جديدة مناهضة للسياسة الحالية واقتصاداتها تتخلَّق في رحم المجتمع..
لتتحول في نهاية المطاف إلى فعل مطالب بالتغيير السياسي والاقتصادي..
وعندما يحدث هذا التغيير ونصبح أمام حالة سياسية واقتصادية جديدة نتجت عن ثقافة نشأت في رحم السياسة والاقتصاد الماضيين، تبدأ هذه الثقافة تتجسَّد على شكل أداء سياسي وفعل اقتصادي جديدين..
وتستمر هذه الحالة، إلى أن يحدث التناقض من جديد بين السياسة والاقتصاد السائدين والمهيمنين، وبين أجنة الثقافة الجديدة المتولدة في رحم المجتمع بسبب تلك التناقضات، والتي ستنمو باتجاه مطالبات سياسية واقتصادية جديدة..
ترى، من يستطيع أن يجزم في حركة تفاعلية من هذا النوع، بأن السياسة أو بأن الاقتصاد أو بأن الثقافة كانت هي البداية؟!
في كل لحظة هناك سياسة واقتصاد يؤثران في الثقافة..
كما أن هناك في كلِّ لحظة أيضا، ثقافة تؤثر فيهما وتؤسس لشكل آخر من أشكالهما..
في كل خطوة يخطوها المجتمع على سلم الزمن المجتمعي، هناك "ثقافة" و"اقتصاد" و"سياسة" و"حلال وحرام"، و.. و.. تسهم إسهاما جوهريا في صناعة تلك الخطوة شكلا ومضمونا..
يسقط النظام السياسي أو يتغير أو يتعدل ومعه اقتصاده، بفعل تغيُّر ثقافي واقتصادي وسياسي في الوقت نفسه..
وعندما تتحول الثقافة المناهضة لسياسة ولاقتصاد الماضي، إلى سياسة واقتصاد جديدين، تتواصل الحركة على محيط الدائرة بدون توقف..
ثقافة تؤثر في السياسة والاقتصاد بهيمنة رؤيتها الراهنة عليهما من جهة، وبالتأسيس الضمني والتلقائي لأجنة رؤية سياسية واقتصادية أخرى غيرهما من جهة أخرى..
ثم اقتصاد وسياسة تؤثران في الثقافة الراهنة بتثبيت مكوناتها المنبثقة عنهما والخادمة لهما من جهة، وبالتأسيس لأجنة ثقافةٍ أخرى غيرها من جهة أخرى..
من لا يستطيع أن يتعامل مع الحركة المجتمعية في السيرورة التاريخية على قاعدة أنها حركة تتم وتنمو وفق المعادلات السابقة، ويصر من ثم على اعتبارها ناتجة عن عنصر واحد ومحدد بشكل أبدي وأزلي، هو في الواقع أبعد ما يكون عن القدرة على فهم التاريخ والمجتمع، وعليه من ثم أن ينزوي لأنه يضر أكثر مما ينفع..